الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
النظري الذي يفصل بينهما، ولا يلزم من وصفنا الحضارة بأنها أعم من الثقافة الإلحاح على إيجاد فاصل في المدلول بينهما من حيث الاستعمال؛ فذلك هو ما وصفناه بالخط النظري الذي لا ينبغي أن يقيم من حيث الإطلاق العام حاجزًا بينهما. وإن كان يُقْبَلُ -في إطار البحث في المصطلحات- الإشارة إلى ما بين هاتين الكلمتين من فروق.
الربط بين الثقافة والحضارة:
ولعل هذا ما حدا ببعض الباحثين -بين يدي بحثه عن الإسلام والحضارة الغربية- إلى بيان المدلول الاصطلاحي لكلمة حضارة.
أ- فهي كما يقول: "يطلق الآن -اصطلاحًا- على كل ما ينشئه الإنسان في كل ما يتصل بمختلف جوانبه ونواحيه، عقلًا وخلقًا، مادةً وروحًا، دنيًا ودينًا؛ فهي -في إطلاقها وعمومها- قصة الإنسان في كل ما أنجزه على اختلاف العصور. وتقلب الأزمان، وما صورت به علائقه بالكون وما وراءه، وهي -في تخصيصها بجماعة من الجماعات أو أمة من الأمم- تراث هذه الأمة أو الجماعة على وجه الخصوص الذي يميزها عن غيرها من الجماعات والأمم. وهي بهذا المعنى الاصطلاحي نظير المدنية التي هي في أصل الاستعمال سكنى المدن، والتي تقابل الكلمة الأوربية Civilization والحضارة بهذا المعنى أعم من الثقافة التي تطلق على الجانب الروحي أو الفكري من الحضارة؛ بينما تشمل الحضارة الجانبين الروحي والمادي، أو الفكري والصناعي؛ وكأنما لوحظ فيها أن النشاط البشري في مختلف جوانبه ومواهبه يكون في أرقى حالاته في الحواضر والمدن"1.
1 الدكتور محمد محمد حسين: "الإسلام والحضارة الغربية" ص8
ولسنا نرى أن الباحث هنا قد ألح على الخط النظري الفاصل بين الكلمتين، وإن كان قد أشار -في معرض تحديده للمدلول الاصطلاحي- إلى بعض الفروق، من حيث العموم والخصوص، وهذا أمر لا مندوحة عنه في إطار البحث العلمي في المصطلحات، وقد جرى على هذا عدد من الباحثين في الدراسات الحضارية. مما لا مجال هنا لاستعراض نماذج من دراستهم.
ب- لقد أسقط كثير من الباحثين -من ناحية أخرى- هذا الخط النظري الفاصل بين الحضارة والثقافة في معرض الكلام عن إحداهما من حيث الدراسة التطبيقية الهادفة، لا الدراسة النظرية في المصطلحات، وقد جاءت الأوصاف التي أطلقت على "الحضارة" لديهم صالحة لأن تصدق كذلك على الثقافة.
فقد عرف أحد الباحثين الحضارة الغربية بقوله:
"وكانت هذه الحضارة -بمعناها الواسع- مجموع عقائد ومناهج فكرية، وفلسفات ونظم سياسية واقتصادية، وعلوم طبيعية وعمرانية واجتماعية، وتجارب خاصة مرت بها الشعوب الأوربية التي تزعمت هذه الحضارة في رحلتها الطويلة، وكانت مظهر تقدم العلم البشري وعلوم الطبيعة، وعلم الآلات، والعلوم الرياضية، ومجموع نتائج جهود وعلماء وباحثين عبر القرون، فكانت مزيجًا غريبًا من أجزاء لا يكون الحكم عليها واحدا متشابهًا، وكانت مزيجًا من السليم والسقيم، والصواب والخطأ، في النتائج والأحكام"1.
جـ - وقد ألح باحث آخر كثيرًا على التمييز بين الثقافة والعلم. وحذر من الخلط الشائع في التصور والتعبير بينهما، ودعا إلى الربط الوثيق بين الثقافة
1 أبو الحسن الندوي: "موقف العالم الإسلامي تجاه الحضارة الغربية" ص10
والحضارة؛ مؤكدًا على ضرورة تحديد أوضاعنا -في صدد بناء نهضتنا- بطريقين:
الأول: سلبية تفصلنا عن رواسب الماضي.
الثانية: إيجابية تصلنا بمقتضيات المستقبل.
وساق على ذلك أمثلة تؤكد التلازم بين الثقافة والحضارة؛ بل لعل التناوب في التعبير بين الكلمتين كما ورد في معرض التدليل على ضرورة تحديد أوضاع النهضة بالطريقين السلبي والإيجابي، قد جاء تأكيدًا على ما ينبغي أن نتجه إليه من الحرص على الربط في المدلول بين الثقافة والحضارة.
فهو يقول:
"ولعل هذه النظرية -أي ضرورة تحديد الأوضاع بطريقتين سلبية وإيجابية- قد لوحظ أثرها في الثقافة الغربية في عهد نهضتها؛ إذ كان "توماس الإكويني" ينفيها -ولو عن غير قصد منه- لتكون الأساس الفكري للحضارة الغربية، وما كانت ثورته ضد ابن رشد، وضد القديس أوغسطين إلا مظهرًا للتحديد السلبي، حتى يستطيع تصفية ثقافته مما كان يراه فكرة إسلامية، أو ميراثًا ميتافيزيقيا "للكنيسة البيزنطية". وأتى بعده "ديكارت" بالتحديد الإيجابي الذي رسم للثقافة الغربية طريقها الموضوعي، الذي يبنى على المنهج التجريبي؛ ذلك الطريق الذي هو في الواقع السبب المباشر لتقدم المدنية الحديثة تقدمها المادي.
والحضارة الإسلامية نفسها قامت بعملية التحديد هذه من ناحيتها السلبية والإيجابية؛ إلا أن الحضارة الإسلامية قد جاءت بهذين التحديدين مرةً واحدة، وصدرت فيها عن القرآن الكريم الذي نفى الأفكار الجاهلية البالية، ثم رسم طريق الفكرة الإسلامية الصافية، التي تخطط للمستقبل بطريقة إيجابية، وهذا العمل نفسه لازم
اليوم للنهضة الإسلامية"1.
وفي ضوء الربط الوثيق بين الثقافة والحضارة -وهو ما يدعو إليه في بحثه- يرى أن الثقافة تصبح نظرية في السلوك، أكثر من أن تكون نظرية في المعرفة؛ وبهذا الربط أيضًا يقاس الفرق الضروري بين الثقافة والعلم، وينتهي إلى ما يؤكد التلازم والربط بين الثقافة والحضارة فيقول:
"فالثقافة إذن تتعرف بصورة عملية على أنها: مجموعة من الصفات الخلقية، والقيم الاجتماعية التي يلقاها الفرد منذ ولادته كرأسمال أولي في الوسط الذي ولد فيه؛ والثقافة على هذا هي المحيط الذي يشكل فيه الفرد طباعه وشخصيته.
وهذا التعريف الشامل للثقافة هو الذي يحدد مفهومها؛ فهو المحيط الذي يعكس حضارة معينة، والذي يتحرك في نطاقه الإنسان المتحضر؛ وهكذا نرى أن هذا التعريف يضم بين دفتيه فلسفة الإنسان، وفلسفة الجماعة، أي "معطيات" الإنسان و "معطيات" المجتمع، مع أخذنا في الاعتبار ضرورة انسجام هذه المعطيات في كيان واحد، تحدثه عملية التركيب التي تجريها الشرارة الروحية، عندما يؤذن فجر إحدى الحضارات؛ ولكن لا سبيل لعودة الثقافة إلى وظيفتها الحضارية إلا بعد تنظيف الموضوع من الحشو أو الانحراف، الذي أحدثه عدم فهمنا لمفهوم "ثقافة"2.
وفي صدد التوجيه نحو حضارة إنسانية وبيان مقاييس الحضارة -وهو بحث تطبيقي هادف- يقول الباحث عن الحضارة بأنها:
"مجموع المعارف العلمية والتشاريع والنظم والعادات والآداب التي تمثل الحالة الفكرية والاقتصادية والخلقية والسياسية والفنية، وسائر مظاهر الحياة
1 مالك بن نبي: "شروط النهضة" ص121
2 المرجع السابق ص125
المادية والمعنوية في مرحلة من مراحل التاريخ، وفي بقعة من بقاع الأرض سواء شملت شعبًا أم أكثر"1.
ويتضح احتواء الحضارة للجانب الثقافي لديه، وعدم إقامة أي حاجز بينهما في قوله:
"إن غاية الحضارة: الارتفاع بالحياة الإنسانية، والحياة الإنسانية معقدة كثيرة الجوانب؛ فإن فيها حياةً فكرية عقلية، وحياةً مادية عمليةً معاشية، وحياة نفسيةً خلقية، وحياةً اجتماعية، إلى جانب الحياة الفردية. والحضارة الصالحة الخيرة هي التي ترتفع بهذه الجوانب كلها وتعدل بينها؛ فلا يظلم جانب منها جانبًا آخر، ولا ينمو واحد ويضمر آخر"2.
1 محمد المبارك: "الفكر الإسلامي الحديث في مواجهة الأفكار الغربية" ص28
2 المرجع السابق ص28