الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بخلقه أن جعل لهم مما خلق ميزانا يرجعون إليه في تعاملهم، ففي المعقولات والمعاني المجردة جعل العقل حاكما وكاشفا للمجهول، وفي المحسوسات جعل الكيل والوزن والعد قاضيين في المقدرات، وربط العقل والكيل والوزن والعد بالشريعة كي لا يضل الإنسان في حياته وينحرف في متاهات الظلام، وعلى هذا فلا يخلو جانب التبادل في حياه البشر من مقياس وهو النقود ومن أهمها الذهب والفضة.
ومع هذا فإن المتتبع لتاريخ النقود لا يسلم بسهولة أن النقدية تنحصر في الذهب والفضة، فقد نقل البلاذري أن عمر رضي الله عنه قال:" هممت أن أجعل الدراهم من جلود الإبل، فقيل له إذا لا بعير فامسك "(1). واشتهر قول مالك في المدونة: " ولو أن الناس أجازوا بينهم الجلود حتى يكون لها سكة وعين لكرهتها أن تباع نظرة بالذهب والورق "(2).
وهذا يعني أن النقدية بصفة عامة أمر اعتباري يضفيه الناس على سلعة معينة حتى يصير تداولها عرفا للمجتمع، وسواء كانت هذه السلعة ذهبا أم غيره من السلع الأخرى، وإن كان الذهب والفضة قد اكتسبا هذه الصفة بما يشبه الإجماع ولكن هذا لا يعني منع التعارف على استعمال غيرهما من النقود.
(1) فتوح البلدان للبلاذري 578 تحقيق د. المنجد.
(2)
المدونة 3/ 395.
ثبات قيمة النقود:
كان من نتائج تمسك الفقهاء بحصر النقدية في الذهب والفضة أن ذهب فريق من كبار فقهاء المسلمين إلى وجوب ثبات قيمة النقد المتداول، فلا يجوز أن تخضع العملة لما تخضع له السلع والخدمات من تقلبات في
الأسعار؛ وذلك لأنها المقياس والميزان الحاكم في تقدير الأشياء من قيم السلع، وأروش الجناية، وضمان المتلفات، فهي وسيلة التبادل ومقياس القيم، فلا بد من ثباتها لتحقيق العدالة المنشودة في عملية التبادل، ومن أنصار هذا الرأي:
الغزالي: قال رحمه الله في كتاب الشكر من الإحياء بعد أن تحدث عن صعوبات المقايضة: فافتقرت هذه الأعيان المتنافرة المتباعدة - السلع - إلى متوسط يحكم بينها بالعدل فيعرف من كل منها رتبته ومنزلته، فإذا تقررت المنازل وترتبت الرتب علم بعد ذلك المساوي من غير المساوي، فخلق الله جل وعلا الدراهم والدنانير حاكمين متوسطين بين سائر الأموال حتى تقدر الأموال بهما، فيقال هذا الجمل يساوي مائة دينار، وإنما أمكن التعديل بالنقدين إذ لا غرض في أعيانهما وهما عزيزان في نفسيهما ونسبتهما إلى الأشياء نسبة واحدة فمن ملكهما فكأنه (1) ملك كل شيء، وهو معنى ثبات قيمة النقود.
وقال أحد المعاصرين إن الغزالي يرى أنه من الظلم اختلاف قيم النقود وتباينها في الجودة والرداءة، وإن شكر الله سبحانه يقتضي عدم تغيير قيمة النقد الذي هو واسطة التبادل ومقياس قيم الأشياء وكل ما من شأنه تغيير تلك القيمة فهو تعد لحدود الله (2){وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ} (3)(الطلاق - 1).
ابن قيم الجوزية: قال رحمه الله: فإن الدينار والدرهم أثمان المبيعات، والثمن هو المعيار الذي يعرف به تقويم الأموال فيجب أن يكون محدودا مضبوطا لا يرتفع ولا ينخفض، إذ لو كان الثمن يرتفع وينخفض كالسلع لم يكن لنا ثمن
(1) إحياء علوم (1/ 91).
(2)
السياسات الاقتصادية في الإسلام د. محمد عبد المنعم عفر / 122 طبع اتحاد البنوك الإسلامية.
(3)
سورة الطلاق الآية 1
نعتبر به المبيعات بل الجميع سلع، وحاجة الناس إلى ثمن يعتبرون به المبيعات حاجة ضرورية عامة وذلك لا يمكن إلا بسعر تعرف به القيمة وذلك لا يكون إلا بثمن تقوم به الأشياء ويستمر على حالة واحدة ولا يقوم هو بغيره إذ يصير بذلك سلعة يرتفع وينخفض فتفسد معاملات الناس ويقع الخلف ويشتد الضرر كما رأيت من فساد معاملاتهم والضرر اللاحق بهم حين اتخذت الفلوس سلعة تعد للربح فعم الضرر وحصل الظلم لأن النقود يقصد بها التوصل إلى السلع فإذا صارت في أنفسها سلعا تقصد لأعيانها فسد أمر الناس (1).
فابن القيم رحمه الله يميز في نصه السابق بين استعمالين للذهب والفضة، أحدهما استعمال النقدين في الوظيفة النقدية كوسيلة تقويم وتبادل، فإذا استعملت كالسلع الأخرى باتخاذها حليا صارت مقصودة لذاتها ورجعت إليها الصفة السلعية ولهذا رتب على تمييزه هذا قوله في تقويم الصنعة في الحلي المباحة وجواز التفاضل بسببها.
ابن خلدون والمالكية: تحدث ابن خلدون في المقدمة عن وظائف النقود كمقياس للقيم ووسيلة للتبادل (2) وهي باعتبارها وسيلة التبادل لا بد من ثبات قيمتها لأن هذا الثبات هو مبرر اتخاذها لهذه الوظيفة. ومرجع كلها عند القائلين بثبات قيمة النقود كونها لا قيمة لها في ذاتها فلا يمكن أن تتغير قيمتها وهو تعليل المالكية في المدونة (فهي أي النقود ليست لها أسواق تحول إليها)(3) وهو ما يعلنه الباجي في المنتقى: ليس لها قيمة في ذاتها لأنها تستخدم في تقويم الأشياء ولكن لا يوجد شيء آخر لتقييم الأشياء غيرها وليس لها مثل المبيعات و (السلع) قيمة متغيرة حسب البلاد (4).
(1) إعلام الموقعين 2/ 156 ط دار الجيل.
(2)
المقدمة صـ 336 طـ ابن شقرون.
(3)
المدونة 8/ 143.
(4)
المنتقى شرح الموطأ للباجي 4/ 258 وجـ 5 صـ 98.
المقريزي: يعتبر الشيخ تقي الدين المقريزي أكثر المؤرخين والفقهاء حماسة لفكرة ثبات قيمة النقد، وقد بحث في كتابه:(شذور العقود في ذكر النقود)(1)، و (إغاثة الأمة في كشف الغمة) آراءه في هذا الموضوع.
يؤكد المقريزي في كتابيه المذكورين وفي خططه ضرورة الاعتماد على الذهب والفضة كنقد متداول ولا يلجأ إلى ضرب الفلوس النحاسية وغيرها إلا بمقدار حاجة الناس إلى شراء التافه من السلع القليلة الثمن ويؤكد أن النقود في مصر منذ أقدم العصور هي الذهب مستدلا بالحديث النبوي: «ومنعت مصر أردبها ودينارها (2)» ويرى أن سبب الأزمة المالية والخراب والظلم الذي حل بمصر هو الإكثار من إصدار الفلوس النحاسية واكتناز النقدين لاستعمالهما في الترف والزينة ولا يمكن إزاحة هذا الظلم إلا بالعودة إلى (3) استخدام الذهب والفضة وضبطهما عن الغش، وإصدارهما من الحاكم، والمحافظة على قيمتهما، وفي مجال التحكم في إصدارهما يتحدث المقريزي عن أثر الإصدار بلا حاجة في بلبلة توزيع الثروة والدخول واضطراب أسعار السلع نتيجة للتضخم النقدي وهو أمر ممنوع شرعا.
ابن عابدين: دعا ابن عابدين إلى وجوب ثبات قيمة النقد، ومع ذلك فإن أبحاثه الفقهية انصبت على تغير قيمتها ارتفاعا وانخفاضا وما يترتب على ذلك من أمور كما سنراه في الصفحات القادمة.
وخلاصة الأمر أننا يمكننا رد قول الفقهاء بوجوب ثبات قيمة النقد إلى أمر شرعي وهو خشية الوقوع في الربا، بالإضافة إلى أن الذهب والفضة يتمتعان باستقرار نسبي في أسعارهما وهو صدى قولهم بأن النقدية صفة
(1) طبع الكتاب ضمن كتاب (النقود) الذي جمعه الأب انستاس الكرمللي.
(2)
أخرجه مسلم وأبو داود وأحمد في المسند، ويحيى بن آدم في الخراج.
(3)
النقود العربية وعلم النميات للكرملي، ورسالة السيوطي (قطع المجادلة عند تغيير المعاملة).
ملازمة للنقدين، ولا شك أن ثبات قيمة النقود يحقق فكرة العدالة في الإسلام، ولهذا فإننا نتمنى أن يسعد العالم كله بقيمة ثابتة للنقد يتفق عليها البشر جميعا.
وقد نبه الاقتصاديون إلى أهمية ثبات قيمة النقد وما يترتب على تقلب قيمتها من أضرار، وأكدوا على أهمية التحكم في إصدارها بشكل يضمن المحافظة على تلك القيمة. ويتحقق هذا الثبات بأن يكون للنقود نفس القوة الشرائية وأن يكون للسلع المقابلة لها نفس مستوى الأسعار وذلك بثبات النسبة بين كمية النقود (بما في ذلك سرعة التداول) وكمية السلع في السوق.
فتزداد كمية النقود بنمو الاقتصاد وتقلل كميتها مع الضمور السلعي وقلة العرض، ويحتج أنصار سياسة تثبيت قيمة النقد بما يلي:
1 -
تحقيق العدالة بين المدينين والدائنين.
2 -
تحقيق العدالة بين أصحاب الدخول الثابتة (الموظفين والعمال) وأصحاب الدخول المتغيرة (رجال الأعمال).
3 -
القضاء على فرص المضاربة في سوق النقود.
4 -
استقرار الصناعة وتشجيعها وتشجيع الادخار.
أما التقلبات النقدية واضطراب قيمتها فله آثار خطيرة تتجلى في ناحيتين هامتين هما:
أولا: إعادة توزيع الثروة ذلك أن الأنشطة الاقتصادية تقوم على أساس الالتزامات التعاقدية بدفع مبلغ من النقود في المستقبل (الالتزامات النقدية المؤجلة) الأجور، البيع لأجل، القروض، ولا شك أن أي تغير في قيمة النقود يحدث تغييرا في المركز الاقتصادي للمتعاقدين حيث يلحق الضرر