الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فقد قرروا: أن مرتكب الكبيرة من أمة محمد صلى الله عليه وسلم كافر مخلد في النار (1).
وقد وافقهم المعتزلة في الحكم الأخروي حيث قالوا: إن مرتكب الكبيرة في الآخرة مخلد في النار. إلا أنهم قالوا بأن عذابه أخف من عذاب الكافر (2).
(1) انظر الفرق بين الفرق صـ 77، ودراسات في الفرق صـ 100.
(2)
انظر: التبصير في الدين للإسفراييني صـ 42، والملل والنحل جـ 1 صـ 48.
(ب)
شبهاتهم والجواب عليها
.
لقد تمسك الخوارج ومن وافقهم في قولهم بهذه البدعة بشبهات منها ما يلي:
الشبهة الأولى قوله تعالى: {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} (1).
وجه الدلالة: يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: " وقد احتجت الخوارج والمعتزلة بهذه الآية وقالوا: صاحب الكبيرة ليس من المتقين فلا يتقبل الله منه عملا، فلا يكون له حسنة، وأعظم الحسنات الإيمان، فلا يكون معه إيمان فيستحق الخلود في النار "(2).
الجواب: قال شيخ الإسلام _ بعد أن أورد بعض الأجوبة على هذه
(1) سورة المائدة الآية 27
(2)
الفتاوى جـ 7 صـ 494 ـ 495.
الشبهة قال: والجواب الصحيح أن المراد من اتقى الله في ذلك العمل كما قال الفضيل بن عياض في قوله تعالى: {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} (1) قال: أخلصه وأصوبه. قيل يا أبا علي، ما أخلصه وأصوبه؟ قال: إن العمل إذا كان خالصا ولم يكن صوابا لم يقبل وإذا كان صوابا ولم يكن خالصا لم يقبل حتى يكون خالصا صوابا، والخالص: أن يكون لله، والصواب: أن يكون على السنة فمن عمل لغير الله - كأهل الرياء - لم يقبل منه ذلك كما في الحديث الصحيح يقول الله عز وجل: «أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملا أشرك فيه معي غيري تركته وشركه (2)» ، وقال صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح:«من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد (3)» أي فهو مردود غير مقبول. فمن اتقى الكفر وعمل عملا ليس عليه أمر النبي صلى الله عليه وسلم لم يقبل منه كمن صلى بغير وضوء لم يقبل منه؛ لأنه ليس متقيا في ذلك العمل وإن كان متقيا للشرك. . إلى أن قال: لا يجوز أن يراد بالآية إن الله لا يقبل العمل إلا ممن يتقي الذنوب كلها؛ لأن الكافر والفاسق حين يريد أن يتوب ليس متقيا، فلو كان قبول العمل مشروطا بكون الفاعل حين فعله لا ذنب له امتنع قبول التوبة. بخلاف ما إذا اشترط التقوى في العمل، فإن التائب حين يتوب يأتي بالتوبة الواجبة، وهو حين شروعه في التوبة منتقل من الشر إلى الخير لم يخلص من الذنب بل هو متق في حال تخلصه منه.
وأيضا فلو أتى الإنسان بأعمال البر - وهو مصر على كبيرة ثم تاب
(1) سورة الملك الآية 2
(2)
أخرجه مسلم في الزهد باب من أشرك في عمله غير الله برقم 2985.
(3)
رواه البخاري في كتاب الاعتصام باب 20. ومسلم في كتاب الأقضية باب 17، 18.
لوجب أن تسقط سيئاته بالتوبة وتقبل منه تلك الحسنات - وهو حين أتى بها كان فاسقا وأيضا: الكافر إذا أسلم وعليه للناس مظالم. . وكذلك الذمي إذا أسلم - قبل إسلامه مع بقاء مظالم العباد عليه؛ فلو كان العمل لا يقبل إلا ممن لا كبيرة عليه لم يصح إسلام الذمي حتى يتوب من الفواحش. . بل يكون مع إسلامه مخلدا.
وقد كان الناس مسلمين في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ولهم ذنوب وعليهم تبعات فيقبل إسلامهم. . ولا نعرف أحدا من المسلمين جاءه ذمي يسلم فقال له لا يصح إسلامك حتى لا يكون عليك ذنب وكذلك سائر أعمال البر من الصلاة والزكاة وغيرهما (1).
فإذا كان المراد بالمتقين في ذلك العمل الذي وعد بقبوله لم يلزم عدم قبول العمل من صاحب الكبيرة وبذلك يبطل الاستدلال بالآية على تخليد صاحب الكبيرة في النار. والله أعلم.
(1) انظر: الفتاوى جـ 7 صـ 495 ـ 498.
الشبهة الثانية: قوله تعالى: {وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ} (1).
وجه الدلالة: قالوا: والفاسق تحيط به جهنم فوجب أن يكون كافرا (2).
الجواب: نقول: إن الآية تؤكد بأن جهنم محيطة بالكافرين وهو من أنواع عذاب الله لهم لكنها لم تقصر الإحاطة بهم؛ إذ أنه سبحانه لم يقل: وإن جهنم لا تحيط إلا بالكافرين وليس يلزم من كونها محيطة بقوم إلا تحيط بقوم سواهم، أي لا يلزم من كونها محيطة بالكافرين إلا تحيط بالفاسقين وعليه فلا دلالة في الآية على ما يزعمونه (3). والله أعلم.
(1) سورة التوبة الآية 49
(2)
شرح نهج البلاغة جـ 8 صـ 15.
(3)
انظر: نهج البلاغة جـ 8 صـ 15.
الشبهة الثالثة: قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ} (1).
وجه الدلالة: قالوا: إن هذا يقتضي أن من لا يكون مؤمنا فهو كافر والفاسق ليس بمؤمن فوجب أن يكون كافرا (2).
الجواب: يقال لهم: أولا: أما قولكم الفاسق ليس بمؤمن، إن أردتم ليس بمؤمن كامل الإيمان فنحن نوافقكم على ذلك، وإن أردتم نفي الإيمان المطلق فهذا مردود بل هو مؤمن ناقص الإيمان، وكونه مؤمنا ناقص الإيمان لا ينافي نسبته إلى الفئة المؤمنة بدليل أن الله نسبه إلى المؤمنين في قوله تعالى:{وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا} (3) الآية وإذا كان كذلك فلا دلالة في الآية على ما تزعمونه.
ثانيا: على التسليم بأن الفاسق لا ينسب إلى الفئة المؤمنة فإن (من) هاهنا للتبعيض، وليس في ذكر التبعيض نفي الثالث، وهو الفاسق: المؤمن بإيمانه الفاسق بكبيرته، أو المؤمن ناقص الإيمان.
كما أن قوله: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ} (4) الآية لا ينبغي وجود دابة تمشي على أكثر من أربع كبعض الحشرات (5). وبذلك يبطل استدلالكم بالآية على تكفير الفاسق. والله أعلم.
(1) سورة التغابن الآية 2
(2)
شرح نهج البلاغة جـ 8 صـ 118.
(3)
سورة الحجرات الآية 9
(4)
سورة النور الآية 45
(5)
انظر: شرح نهج البلاغة جـ 8 صـ 118.
الشبهة الرابعة: استدلوا بعموم النصوص التي فيها الوعيد بالتخليد
لأصحاب الكبائر كقوله تعالى: {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا} (1)، وقال الله تعالى:{وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا} (2)، وقوله تعالى:{وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا} (3){يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا} (4) وغيرها كثير (5).
وجه الاستدلال: قالوا هذه النصوص فيها الوعيد بالتخليد لأصحاب الكبائر في النار ولا يخلد في النار إلا الكفار (6).
الجواب: في الإجابة عن هذه النصوص أقوال منها.
الأول: أن المراد بالخلود لمستحل هذه الكبائر، والمستحل كافر إجماعا، والكافر مخلد (7) لما روي عن ابن عباس في معنى قوله (متعمدا) أنه قال متعمدا: أي مستحلا لقتله فهذا يئول إلى الكفر إجماعا والكافر مخلد (8)، وقال أبو السعود: ولا دليل في الآية على القول بخلود عصاة المؤمنين في النار لما قيل أنها في حق المستحل، كما هو رأي عكرمة وأحزابه، بدليل أنها نزلت في مقيس بن ضبابة الكناني المرتد. . . (9)، وقال الطبري في قوله:{وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ} (10) قال: فإن قال
(1) سورة النساء الآية 14
(2)
سورة النساء الآية 93
(3)
سورة الفرقان الآية 68
(4)
سورة الفرقان الآية 69
(5)
انظر: الفصل جـ 4 صـ 46، ولوامع الأنوار البهية جـ 1 صـ 370.
(6)
انظر: لوامع الأنوار البهية جـ 1 صـ 368، والفصل جـ 4 صـ 46.
(7)
لوامع الأنوار البهية جـ 1 صـ 370.
(8)
انظر: تفسير القرطبي جـ 5 صـ 334.
(9)
تفسير أبي السعود جـ 2 صـ 217.
(10)
سورة النساء الآية 14
قائل: أو مخلد في النار من عصى الله ورسوله في قسمة الميراث؟ قيل: نعم. إذا جمع إلى معصيتهما في ذلك شكا في أن الله فرض عليه ما فرض على عباده في هاتين الآيتين، أو علم ذلك فحاد الله ورسوله في أمرهما (1)، وقال الشوكاني في قوله:{وَلَا يَزْنُونَ} (2) أي فيستحلون الزوجة المحرمة بغير نكاح (3). وعلى هذا فالآيات لا تتناول صاحب الكبيرة؛ لأنها في الكافر.
الثاني: أن الجزاء في الآيات ليس المقصود وقوعه وإنما الإخبار به (4).
يقول الطبري: وقوله تعالى: {فَجَزَاؤُهُ} (5) أي يستحق ما ذكره الله من العقاب إن شاء أن يجازيه (6). وقال أبو السعود بمثل ذلك (7)، وإذا كان كذلك فلا دلالة في الآيات على تخليد أهل الكبائر في النار.
الثالث: وهو الأظهر: أن هذه النصوص مخصوصة بالنصوص الدالة على العفو بمشيئة الله، والتوبة، وأحاديث الشفاعة الدالة على إخراج الموحدين من النار.
يقول القرطبي بعد ذكر قوله تعالى: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا} (8) الآية مخصوصة بآيات وأحاديث، فمن الآيات قوله تعالى:{إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} (9) الآية، وقوله تعالى:{وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ} (10)، وقوله تعالى:{وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} (11) الآية.
(1) تفسير الطبري جـ 8 صـ 72.
(2)
سورة الفرقان الآية 68
(3)
انظر: تفسير الشوكاني جـ 4 صـ 88.
(4)
انظر: لوامع الأنوار البهية جـ 1 صـ 370.
(5)
سورة النساء الآية 93
(6)
مختصر تفسير الطبري صـ 74.
(7)
تفسير أبي السعود جـ 2 صـ 217.
(8)
سورة النساء الآية 93
(9)
سورة هود الآية 114
(10)
سورة الشورى الآية 25
(11)
سورة النساء الآية 48
وتوضيح ذلك أنه ليس الأخذ بظاهر هذه النصوص أولى من الأخذ بظاهر تلك النصوص، والأخذ بالظاهرين متناقض فلا بد من التخصيص.
وأما الأخبار المخصصة لعموم الآية فكثيرة، منها: حديث عبادة بن الصامت أنه صلى الله عليه وسلم قال: «بايعوني على أن لا تشركوا بالله شيئا ولا تسرقوا ولا تزنوا. . . إلى أن قال: فمن وفى منكم فأجره على الله، ومن أصاب من ذلك شيئا فعوقب في الدنيا فهو كفارة له، ومن أصاب شيئا من ذلك فستره الله عليه فأمره إلى الله، إن شاء عفا عنه، وإن شاء عاقبه (1)» ، وحديث أبي هريرة في الرجل الذي قتل مائة نفس (2).
ثم إنهم _ الخوارج ومن وافقهم _ قد أجمعوا معنا في الرجل يشهد عليه بالقتل أو الزنا ويقر بأنه قتل أو زنى ويأتي السلطان فيقيم عليه الحد، فهذا غير نافذ عليه الوعيد في الآخرة إجماعا على مقتضى حديث عبادة. فقد انكسر عليهم ما تعلقوا به من عموم هذه النصوص ودخلها التخصيص بما ذكر (3).
من كلام القرطبي: يظهر أن هذه النصوص مخصصة بالنصوص الدالة على العفو والتوبة. وعلية فيبطل الاستدلال بعمومها على تخليد أصحاب الكبائر في النار، والله أعلم.
(1) رواه البخاري في كتاب الإيمان - الباب الحادي عشر، حديث رقم 18. وانظر: فتح الباري جـ 1 صـ 64، 68.
(2)
رواه مسلم في كتاب التوبة، باب قبول التوبة وإن كثر قتله برقم 46. انظر صحيح مسلم جـ 4 صـ 2118.
(3)
انظر: تفسير القرطبي جـ 5 صـ 334 بتصرف.
الشبهة الخامسة:
استدلوا بما روى أبو هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا يزني
الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن» الحديث، (1).
وجه الاستدلال: أن ظاهر الحديث يدل على نفي الإيمان عمن أتى شيئا من هذه الكبائر ومن نفى عنه الإيمان فهو كافر. يقول السمائلي - أحد علمائهم -: الإيمان في قلوب أهله أثبت من الجبال الرواسي على قرارها، فلا يزنى الزاني حين يزنى وهو مؤمن: أي لا يبقى إيمان مع الزنا، فإنه إذا أقدم على الزنا خلع ربقة الإيمان من عنقه، فيزني وهو خارج من حيطة الإيمان الصحيح، إذ صار منتهكا لحرم ربه عز وجل. . فهو لا يقف على حدود طاعة الله تعالى، ومن كان كذلك فلا فرق بينه وبين الحيوان كما لا فرق بينه وبين الكافر (2).
الجواب: يقول ابن تيمية رحمه الله: الجمهور من السلف والخلف. . يقولون الإسلام أوسع من الإيمان، فكل مؤمن مسلم وليس كل مسلم مؤمنا، ويقولون في قول النبي صلى الله عليه وسلم:«لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن (3)» الحديث (4)، أنه يخرج من الإيمان إلى الإسلام، ودوروا للإسلام دارة ودوروا للإيمان دارة أصغر منها في جوفها وقالوا: إذا زنى خرج من الإيمان إلى الإسلام ولا يخرجه من الإسلام إلى الكفر، ودليل ذلك أن الله تبارك وتعالى قال:{قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا} (5) الآية، فقد قال تعالى:{لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ} (6)
(1) الفصل لابن حزم جـ 3 صـ 230.
(2)
أصدق المناهج للسمائلي صـ 34 - 35.
(3)
رواه مسلم في كتاب الإيمان، باب نقصان الإيمان بالمعاصي. وانظر صحيح مسلم بشرح النووي جـ 2 صـ 41.
(4)
الفصل لابن حزم جـ 3 صـ 230.
(5)
سورة الحجرات الآية 14
(6)
سورة الحجرات الآية 14
وهذا الحرف - أي لما - ينفي به ما قرب وجوده وانتظر وجوده ولم يوجد بعد. . . فلما قالوا: (آمنا) قيل (لم تؤمنوا) بعد بل الإيمان مرجو منتظر منكم. . فالخطاب لهؤلاء المخاطبين قد أخبر عنهم أنهم لما يدخل الإيمان في قلوبهم ومع ذلك قيل لهم: {وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا} (1).
فلو لم يكونوا في هذه الحال مثابين على طاعة الله ورسوله لكان خلاف مدلول الخطاب. والإثابة على الطاعة تدل على وجود إيمان تصح به الطاعة ثم بين سبحانه وصف المؤمنين الذين أخرج هؤلاء منهم فقال سبحانه: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا} (2) وهذا نعت محقق الإيمان لا نعت من معه مثقال ذرة من إيمان كما في قوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ} (3) الآية، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم:«لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن (4)» وأمثال ذلك، فدل البيان على أن الإيمان المنفي عن هؤلاء الأعراب: هو هذا الإيمان الذي نفي عن فساق أهل القبلة الذين لا يخلدون في النار بل قد يكون مع أحدهم مثقال ذرة من إيمان، ونفي هذا الإيمان لا يقتضي ثبوت الكفر الذي يخلد صاحبه في النار (5).
وعلى ذلك فالإيمان المنفي عن الزاني إنما هو الإيمان الكامل (6). ونفي هذا الإيمان لا يقتضي ثبوت الكفر الذي يخلد في النار. ومما يؤكد ذلك ما ورد في الصحيحين عن أبي ذر رضي الله عنه أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
(1) سورة الحجرات الآية 14
(2)
سورة الحجرات الآية 15
(3)
سورة الأنفال الآية 2
(4)
رواه مسلم في كتاب الإيمان، باب نقصان الإيمان بالمعاصي. وانظر صحيح مسلم بشرح النووي جـ 2 صـ 41.
(5)
الفتاوى جـ 7 صـ 476، 478 بتصرف.
(6)
انظر: قواعد العقائد للغزالي صـ 259. وشرح صحيح مسلم للنووي جـ 2 صـ 41.
«أتاني جبريل عليه السلام فبشرني أنه من مات من أمتك لا يشرك بالله شيئا دخل الجنة، قلت: وإن زنى وإن سرق؟، قال: وإن زنى وإن سرق (1)» . . الحديث، فدل هذا على أن من مات لا يشرك بالله شيئا دخل الجنة بمشيئة الله، وإن ارتكب بعض الكبائر كالزنا والسرقة مما يدل على أن ارتكاب هذه الكبائر لا يخرج من الإيمان إلى الكفر وإنما ينقص الإيمان، وإذ كان كذلك فلا دلالة في الحديث على ما يزعمونه، والله أعلم.
(1) رواه مسلم في كتاب الإيمان، باب من مات لا يشرك بالله شيئا دخل الجنة. صحيح مسلم (بشرح النووي) جـ 2 صـ 93 - 94.
الشبهة السادسة: قوله صلى الله عليه وسلم: «سباب المسلم فسوق وقتاله كفر (1)» ، يقول ابن حزم: واحتج أيضا من كفر من ذكرنا بأحاديث منها قوله صلى الله عليه وسلم: «سباب المسلم فسوق وقتاله كفر (2)» . ويقول ابن حجر _ بعد سياقه هذا الحديث _: إن ظاهره يقوي مذهب الخوارج الذين يكفرون بالمعاصي (3).
الجواب: يقول ابن حجر - بعد أن أورد هذا الحديث -: ولا مستمسك للخوارج فيه لأن ظاهره غير مراد، لكن لما كان القتال أشد من السباب؛ لأنه مفض إلى إزهاق الروح، عبر عنه بلفظ أشد من لفظ الفسق وهو الكفر، ولم يرد حقيقة الكفر المخرج من الملة، بل أطلق عليه الكفر مبالغة في التحذير معتمدا على ما تقرر من القواعد أن مثل ذلك لا يخرج عن الملة، مثل حديث الشفاعة، ومثل قوله تعالى:{إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} (4) أو أطلق عليه الكفر لشبهه به؛ لأن قتال المؤمن من شأن الكافر (5).
(1) رواه البخاري ومسلم والترمذي والنسائي. انظر: جامع الأصول جـ 10 حديث 8437.
(2)
الفصل جـ 3 صـ 230.
(3)
فتح الباري لابن حجر جـ 1 صـ 112.
(4)
سورة النساء الآية 116
(5)
فتح الباري جـ 1 صـ 112.
وقال ابن حزم: إن قوله عليه الصلاة والسلام (المسلم) هاهنا عموم للجنس ولا خلاف في أن من نابذ جميع المسلمين وقاتلهم لإسلامهم فهو كافر. برهان هذا هو ما ذكرنا قبل من نص القرآن في أن القاتل عمدا والمقاتل مؤمنان، وكلامه صلى الله عليه وسلم لا يتعارض ولا يختلف (1).
من كلام ابن حجر وابن حزم يتضح أنه لا يراد بالحديث الحكم بالكفر المخرج من الملة على مرتكب كبيرة القتل، وإذا كان كذلك لم يبق للخوارج مستمسك في الحديث، والله أعلم.
(1) الفصل لابن حزم جـ 3 صـ 237.
الشبهة السابعة:
يقول شيخ الإسلام - بعد أن ذكر رأيهم في مرتكب الكبيرة -: " وجماع شبهتهم في ذلك أن الحقيقة المركبة تزول بزوال بعض أجزائها كالعشرة فإنه إذا زال بعضها لم تبق عشرة، وكذلك الأجسام المركبة كالسكنجبين إذا زال أحد جزئيه خرج عن كونه سكنجبينا. قالوا: فإذا كان الإيمان مركبا من أقوال وأعمال ظاهرة وباطنة، لزم زواله بزوال بعضها. وهذا قول الخوارج والمعتزلة. . . "(1).
الجواب: يقال لهم لا يلزم من زوال بعض الأمور المجتمعة زوال سائرها، سواء سميت مركبة أو مؤلفة أو غير ذلك، لا يلزم من زوال بعض الأجزاء زوال سائرها. وما مثلوا به من العشرة والسكنجبين مطابق لذلك، فإن الواحد من العشرة إذا زال لم يلزم زوال التسعة بل قد تبقى التسعة، فإذا زوال أحد جزئي المركب لا يلزم منه زوال الجزء الآخر، لكن أكثر ما يقولون. . زالت الهيئة الاجتماعية وزال ذلك الاسم الذي استحقته الهيئة بذلك الاجتماع والتركيب كما يزول اسم العشرة والسكنجبين.
فيقال: أما كون ذلك المجتمع المركب ما بقي على تركيبه فهذا لا ينازع
(1) الفتاوى جـ 7 صـ 511. وانظر: الفصل جـ 4 صـ 47.
فيه عاقل، ولا يدعي عاقل أن الإيمان أو الصلاة أو الحج أو غير ذلك من العبادات المتناولة لأمور، إذا زال بعضها بقي ذلك المجتمع المركب كما كان قبل زوال بعضه. . ولكن لا يلزم زوال بقية الأجزاء.
وأما زوال الاسم فيقال لهم هذا (أولا) بحث لفظي، إذا قدر أن الإيمان له أبعاض وشعب، كما قال صلى الله عليه وسلم في الحديث المتفق عليه:«الإيمان بضع وسبعون شعبة، أفضلها قول لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان (1)» ، كما أن الصلاة والحج له أجزاء وشعب، ولا يلزم من زوال شعبة من شعبه زوال سائر الأجزاء والشعب، كما لا يلزم من زوال بعض أجزاء الحج والصلاة زوال سائر الأجزاء، فدعواهم أنه إذا زال بعض المركب زال البعض الآخر ليس بصواب، ونحن نسلم لهم أنه ما بقي إلا بعضه لا كله وأن الهيئة الاجتماعية ما بقيت كما كانت. بقي النزاع هل يلزم زوال الاسم بزوال بعض الأجزاء، فيقال لهم: المركبات في ذلك على وجهين، منها: ما يكون التركيب شرطا في إطلاق الاسم، ومنها: ما لا يكون كذلك، فالأول كاسم العشرة. . . ومنها ما يبقى الاسم بعد زوال بعض الأجزاء وجميع المركبات المتشابهة الأجزاء من هذا الباب وكذلك كثير من المختلفة الأجزاء، فإن المكيلات والموزونات كالحنطة تسمى حنطة وهي بعد النقص حنطة، وكذلك التراب والماء ونحو ذلك. وكذلك لفظ العبادة والطاعة. . ونحو ذلك مما يدخل فيه أمور كثيرة، يطلق الاسم عليها قليلها وكثيرها. . وكذلك لفظ القرآن يقال على جميعه وعلى بعضه. . وإذا كانت المركبات على نوعين بل غالبها من هذا النوع لم يصح قولهم إنه إذا زال جزؤه لزم أن يزول الاسم إذا أمكن أن يبقى الاسم مع بقاء الجزء الباقي.
(1) رواه البخاري في الإيمان، باب أمور الإيمان جـ 1 صـ 8. ومسلم في الإيمان باب بيان عدد شعب الإيمان. مسلم (بشرح النووي) جـ 2 صـ 3. وأبو داود والترمذي والنسائي عن أبي هريرة، انظر: جامع الأصول جـ 1حديث 19.