الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
مبصرين لما أمروا به ونهوا عنه. ولكننا نجد الترجمة الفارسية عولت على ترجمة المعنى لكي تؤدي المعنى فتقول: " وآنان هستند كه هركاه متذكر آيات خداى خود شوند كر وكورانه در آن آيات ننكرند تابر مقام معرفت وايمانشان بيفزايد ".
نجد أن المترجم فسر المعنى وأضاف ألفاظا من عنده لكي يتضح المعنى، وهذه تعتبر ترجمة للمعنى وليست للفظ.
وهكذا لا يتكشف وجه الإعجاز الذي يقوم على الألفاظ ملائمة بعضها بعضا.
بين اللغتين العربية والفارسية:
أما بالنسبة للغتين العربية والفارسية فإن بينهما صلات قديمة جدا ترجع إلى وقت دخول الإسلام إيران بعد أن أقبل كثير من الفرس على اعتناق الإسلام أحرارا مختارين، في غير ما إجبار أو اضطرار، لأن المظالم التي اصطلوا بنارها قبل الإسلام حببت إليهم أن يقبلوا على اعتناقه، فكفل لهم العرب حريتهم الدينية، وعاملوا أتباع الزرادشتية معاملة أهل الكتاب، فقبلوا منهم أن يبقوا على دينهم ويدفعوا الجزية.
وقد تسابق كثير من أهل فارس إلى تعلم اللغة العربية، لغة الدين الذي آمن به كثير منهم، ولغة الفاتحين الذين يتصلون بهم، وسرعان ما أجادها بعضهم، وكانوا قدوة لمن بعدهم، حتى صار كثير من مشهوري الشعراء والكتاب والعلماء باللغة والدين من أبناء فارس. وكان من أثر القرآن على اللغة الفارسية أن فقدت اللغة الفارسية شخصيتها القديمة، وظهرت الفارسية الجديدة، وقد تشكل نصف معجمها كما شكلت أساليبها وأوزانها من العربية، حتى صارت لسانا آخر غير اللغة السابقة على الإسلام وهي
اللغة البهلوية. وكذلك الأمر في اللغة التركية ولغة الأكراد وسائر لغات آسيا وأفريقيا، فقد فقدت كل لغة من هذه اللغات أكثر خصائصها الجاهلية ودخلت في عربية القرآن، بحيث إنه لو أن أحدا أراد - مثلا - أن يكتب شيئا بالفارسية بحيث تكون كتابة خلوا من الألفاظ العربية لتعسر عليه الأمر.
ولسنا هنا بصدد الحديث عن الصلات القوية بين اللغتين العربية والفارسية، بل المقصود هو أن نبين أن هاتين اللغتين برغم تداخلهما القوي، فإن اللغة العربية تتميز عن الفارسية وغيرها من اللغات في بنائها التعبيري، ومن أبرز ما تتميز به اللغة العربية في تعبيرها عن اللغة الفارسية:
أولا: أن الجملة في اللغة الفارسية تختلف في تركيبها عن الجملة في اللغة العربية، فعلى الرغم من أن الجملة تنقسم إلى قسمين: اسمية وفعلية كما في العربية، فإن الجملة الاسمية في اللغة الفارسية تزيد في تكوينها عن العربية جزءا ثالثا وهو الرابطة التي تربط الجزءين الرئيسيين وهما المبتدأ والخبر، وتختلف هذه الرابطة باختلاف المبتدأ أو المسند إليه، وكذلك الحال بالنسبة للجملة الفعلية فهي تختلف مع العربية في ترتيب أجزائها، ففي العربية تبدأ الجملة الفعلية بالفعل في حين تنتهي الجملة الفعلية في الفارسية بالفعل، وهذا الاختلاف يجعل الترجمة تغييرا في المعنى، فلكل كلمة استخدامها في وضعها بالجملة إن كانت الكلمة مقدمة أو مؤخرة، فلكل كلمة مقامها الذي يتطلب استعمالها.
وعلى هذا النمط العربي نجد البيان القرآني في بنائه التعبيري يقدم الفعل إذا كان الحديث عن الفعل هو المهم أو المقصود بالحديث، وذلك نحو قوله تعالى:{وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ} (1). إذ المقصود الحديث
(1) سورة المؤمنون الآية 12
عن خلق الإنسان وما ينطوي عليه من إعجاز، وليس المقصود الحديث عن الخالق.
وعلى هذا المسار التركيبي سار البناء في الآيات بعد ذلك فقال تعالى: {ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ} (1){ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} (2).
في حين نرى الترجمة الفارسية - كما قلنا - تنتهي بالفعل الذي هو المقصود من الحديث والذي هو في الأصل بداية الجملة فنرى الترجمة تقول: " وهمانا آدمي را ازكل خالص آفريديم (12) بس آنكاه نطفه كردانيد، ودرجاي استوار (صلب رحم) قرار داديم (13) آنكاه نطفه را علقه وعلقه را كوشت باره وباز آن كوشت را استخوان وسبس براستخوانها كوشت بوشانيديم بس از آن خلقتي ديكر انشا نموديم آفرين برقدرت كامل بهترين آفريننده (14).
نجد الأفعال آفريديم، قرار داديم، بوشانيديم، انشانموديم. قد وضعت في نهاية الجمل.
ثانيا: أن الصيغ التي تدل على الفاعل في اللغة الفارسية إما أن تبنى على فاعل معلوم أو فاعل مجهول، وهي المعروفة بصيغة المبني للمعلوم والمبني للمجهول، أما في اللغة العربية فلا تقتصر في الحديث عن الفاعل على هاتين الصيغتين ولكنها تضيف صيغة ثالثة تلك هي صيغة الفعل المطاوع، فقولنا:(انسكب الماء) يختلف في دلالته عن قولنا: (سكب الطفل الماء) وعن قولنا: (سكب الماء) وذلك لأن التعبير الأول يقدم معنى لا تدل عليه دلالته
(1) سورة المؤمنون الآية 13
(2)
سورة المؤمنون الآية 14
الدقيقة صيغة من الصيغتين الأخيرتين، فقولنا:(سكب الطفل الماء) يقال لمن يهمه أن يعرف من الذي سكب الماء، وقولنا:(سكب الماء) يقال كذلك لمن يقصد التعرف على الفاعل، لكنا نخبر عن ذلك الطريق إما بجهلنا بمن وقع منه الفعل، أو بعدم إرادتنا ذكره. أما حين نقول:(انسكب الماء) فإننا نوجه الحديث لمن يتوقع انسكاب الماء وينتظره، ولا يهمه أن يعرف ساكبه ولا عدم معرفته، ولا شك في أن الفارق كبير بين هذا وذاك، وهذا الفارق الكبير يعين اللغة على الدقة في استيفاء وجوه الدلالة، حتى يتمكن بها من ملاحظة مقتضى الحال.
حقيقة توجد في اللغة الفارسية بضعة أفعال تسمى الأفعال ذوات الوجهين، أي التي تكون لازمة أو متعدية حسب سياق الجملة دون أن يتغير تركيبها مثل فعل: شكستن، يختن، سوختن، كشودن، افروختن.
وهذه الأفعال قريبة في استخدامها من صيغة الفعل المطاوع في العربية، ولكنها قليلة من ناحية ولا تؤدي الغرض من الفعل المطاوع من ناحية أخرى وسنرى ذلك في بيان الترجمة الفارسية لمعاني القرآن الكريم في النموذج التالي.
وهذه إحدى مميزات اللغة العربية في بنائها عن غيرها من اللغات. وإذا نحن تأملنا آيات القرآن الكريم من هذا المنطلق وجدناه قد جمع بين هذه الصيغ الثلاث في بنائه التعبيري، ولأن الذي يعنينا - هنا - هو أن نقف على استيعاب البيان القرآني لكل ما يميز اللغة العربية عن غيرها من اللغات في البناء التركيبي، لا أرى ما يدعونا لأن نطيل بذكر نماذج قرآنية لصيغة المبني للمعلوم والمبني للمجهول، فهذا واضح لا يحتاج برهانا، إنما الذي يحتاج البيان هو الصيغة الثالثة (صيغة الفعل المطاوع)، وهذه الصيغة في القرآن لا تقصد لذاتها، وإنما شأنها شأن كل الصيغ تأتي حين يتطلبها الموقف مؤدية
المطلوب، محققة المقصود. من ذلك قول الله سبحانه وتعالى:{وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ} (1) ونرى الترجمة الفارسية تقول: " جه آنكه باره ازسنكها ست كه نهرهاى آب ازآن ميجوشد وبرخى ديكر سنكها بشكامذ وهم آب ازآن بيرون آيد ".
فنجد الترجمة قد أتت بالفعلين في المبني للمعلوم وكأن الحجارة هي الفاعل، في حين أن الفعلين (يتفجر ويشقق) مضارعان، ماضيهما تفجر وتشقق وهما مطاوعان لفجر وشقق، فالحجارة لا يتأتى منها الفعل، ولكنها خاضعة تستجيب للقوة العليا حين تفجرها وتشققها بتجميع أسباب التفجير والتشقيق عليها.
فالآية الكريمة بذلك تلفت نظر المتأمل إلى ما وراء تلك الظواهر الطبيعية من قدرة الله ومشيئته دون أن يتصادم الظاهر مع الواقع الحق.
ومن ذلك أيضا قوله سبحانه وتعالى: {فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ} (2).
نجد الترجمة الفارسية تقول: ". . ودرباغ أو بادى آتش بار افتدهمه را بسوزاند " فجعلت الفعل متعديا، أي المعنى يكون فأصابها إعصار فيه نار فأحرقتها، وهذا لا يحقق المقصود بيانه من إتيان النار عليها لأن الإحراق يفيد حرق الكل كما يفيد إحراق الجزء، فلما جاءت الآية على هذا أفادت أن الإحراق من النار وليس ذاتيا، وأن إحراق النار إياها شامل وليس إحراقا جزئيا.
(1) سورة البقرة الآية 74
(2)
سورة البقرة الآية 266
ومنها أيضا قوله: {فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا} (1) وانفجر مطاوع فجر.
ونرى الترجمة تقول: " بس دوازه جشمه آب از آن سنك بيرون آمد " فالفعل هنا مبني للمعلوم وكأن عيون الماء هي الفاعل، بالإضافة إلى ركاكة المعنى إذ أن ترجمة الفعل هي (خرجت) بدلا من (انفجرت).
والآيات المشتملة على صيغة المطاوعة كثيرة ونجدها مختلفة في الترجمة، فتارة يترجمها المترجم على أنها أفعال مبنية للمعلوم كما رأينا، أو يتصرف في ترجمة تفسيرية لها تكون قريبة من المعنى.
ثالثا: أن اللغة العربية تحرص على أن تستوفي أدوات الصفة وكافة شروطها، وذلك أن الصفات لا بد فيها من المطابقة بينها وبين الموصوفات كل المطابقة، بخلاف الأسماء، فليس ضروريا فيها أن تطابق مسمياتها، إذ الأسماء قد تكون توقيفية لا إرادة للمتكلم في وضعها وإطلاقها على مسمياتها، وقد نطلق اسما على مسمى لأدنى ملابسة دون أن تكون هناك مطابقة بين الاسم ومسماه، وذلك بأن نسمي الشيء باسم أرضه، أو باسم صاحبه، أو باسم حادث وقع عندما تعرفنا عليه، أو باسم كاشفه، إلى غير ذلك من الملابسات. وقد تكون الأسماء منقولة عن لغة أخرى بحروفها أو مع تعديل فيها.
أما الصفات فلا بد من أن تطابق موصوفاتها، ومن ثم حرصت اللغات على أن تكون هناك مطابقة بين الصفة والموصوف، لكنها لم تتمكن من استيفاء جميع أدوات الصفة وشروطها كما تمكنت منها اللغة العربية. فالصفة
(1) سورة البقرة الآية 60