الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الكساد: وهو ترك التعامل بالنقود في جميع البلاد كإلغائها مثلا، فإن تعومل بها في بعض البلاد لا يسمى كسادا بل هو عيب طارئ على النقود تسري عليه أحكام خيار العيب.
الانقطاع: وهو أن يفقد النقد من السوق ولو كان موجودا عند الصيارفة وفي البيوت (1).
الرخص والغلاء: وهو تغير القيمة المالية للنقد الرائج بالنسبة للذهب والفضة كما عرفه الفقهاء، أما الرخص والغلاء بمعنى انخفاض القوة الشرائية أو ارتفاعها فهو الوجه الآخر لهذا المعنى الفقهي، وهذه الأمراض تتناول النقود الخلقية والاصطلاحية.
وقد أفرد بعض الفقهاء هذه الأحكام في بحوث منفصلة كما صنع الغزي التمرتاشي في رسالته: (بذل المجهود في مسألة تغير النقود) وهي مفقودة ولكن تلميذه ابن عابدين قد لخصها في رسالته: (تنبيه الرقود إلى أحكام النقود) المطبوعة ضمن رسائله، وهناك للسيوطي رسالة في الموضوع نفسه:(قطع المجادلة عند تغيير المعاملة) في كتابه (الحاوي).
وسأتناول أثر هذه التغيرات على قيمة النقود في مبحثين:
أولا: حكم هذه التغيرات على الذهب والفضة.
ثانيا: حكم هذه التغيرات على النقود الاصطلاحية.
(1) حاشية ابن عابدين 5/ 162.
أولا: حكم التغيرات الطارئة على الذهب والفضة
اتفق الفقهاء قاطبة على أن هذين المعدنين ثمن بالخلقة، فالدرهم والدينار
الخالصان أو كان غشهما مغلوبا من الأثمان بأصل الخلقة وقلما تهتز قيمتهما بالأزمات الاقتصادية فهما الحاكم على القيم فإليهما تنسب قيم الأشياء، ولنستعرض آراء المذاهب الفقهية في أثر التغيرات الطارئة عليهما.
الحنفية: قال ابن عابدين في رسالته: والذي يغلب على الظن ويميل إليه القلب أن الدراهم المغلوبة الغش والخالصة إذا رخصت أو غلت لا يفسد البيع قطعا ولا يجب إلا ما وقع عليه العقد من النوع المذكور فيه، فإنها أثمان عرفا وخلقة والغش المغلوب كالعدم) (1).
وعليه فإذا تبايعا الذهب والفضة الخالصة أو المغلوبة الغش أو استقرض مبلغا منها يجب رده بعينه غلا أو رخص وحتى لو زادت الجهة المصدرة للمسكوكات قيمتها أو أنقصته فلا يلزم إلا ما جرى عليه العقد (2) واستقر على هذا الرأي نص المادة (805) من مرشد الحيران حيث جاء فيها:
(وإن استقرض شيئا من المكيلات والموزونات والمسكوكات من الذهب والفضة فرخصت أسعارها أو غلت فعليه رد مثلها ولا عبرة برخصها أو غلائها) وحتى لو أبطلت السلطة التعامل بها فلا يلزم المدين سواها وفاء بالعقد. وهذا القول لأئمة الحنفية الثلاثة بالنسبة للنقد الخلقي من الذهب والفضة، قال ابن عابدين: وإياك أن تفهم أن خلاف أبي يوسف جار حتى في الذهب والفضة كالشريفي والبندقي والمحمدي - وهي من الذهب فإنه لا يلزم لمن وجب له نوع منها سواه بالإجماع (3).
المالكية: قال في منح الجليل: وإن بطلت بعد ترتبها في ذمة شخص بقرض أو بيع ومثلها الدراهم والدنانير فليس عليه غيرها إن وجدت وإلا
(1) تنبيه الرقود صـ 61.
(2)
تنبيه الرقود صـ 64.
(3)
تنبيه الرقود صـ 64.
فقيمتها إن فقدت، فمن اقترض دراهم أو دنانير أو فلوسا أو باع بها وهي سكة معروفة ثم غير السلطان التعامل بأن أبدل السكة بغيرها فإنما عليه مثل السكة التي قبضها ولزمته يوم العقد، هذا في حال الكساد كما حرره القرافي في شرحه. ولو انقطع ذلك النقد فلم يوجد فعليه قيمته يوم انقطاعه إن كان حالا وإلا فقيمته يوم الأجل لعدم استحقاق المطالبة قبله وبهذا أفتى ابن رشد، فالمثل لما بطل التعامل به وأولى إن تغيرت قيمته مع استمرار التعامل به، أما عند انقطاعه وانعدامه ذهبا أو فلوسا فتجب القيمة مما تجدد التعامل معتبرة وقت اجتماع الاستحقاق وذلك يوم حلول أجلها وانعدامها ولا يجتمعان إلا وقت المتأخر منهما فإن استحقت ثم عدمت فقيمتها يوم العدم، وإن عدمت ثم استحقت قومت يوم الاستحقاق، وهو اختيار اللخمي وابن محرز واقتصر عليه ابن الحاجب، وقال ابن يونس عليه قيمتها يوم الحكم وهو ظاهر المدونة والمعتمدة كما قاله الدردير في شرح الكبير والصغير.
ولا فرق بين أن يمطله المدين أم لا، وقيده بعضهم بعدم المطل فإن مطله وجب عليه ما انتهت إليه القيمة الجديدة من السكة الجديدة (1).
والأظهر أنه عند المطل يجب الأحظ لرب المال من القيمة أو السكة الجديدة.
وجاء في نوازل ابن رشد ما نصه: وسئل رضي الله عنه عن الدراهم والدنانير إذا قطعت السكة أو أبدلت بسكة غيرها فما الواجب في الديون والمعاملات المتقدمة وأشباه ذلك، فقال المنصوص لأصحابنا وغيرهم من أهل العلم أنه لا يجب عليه إلا ما وقعت به المعاملة ولا يلتفت إلى قول المخالف
(1) منح الجليل 2/ 535.
بوجوب السكة الجديدة، وقال إن مقتضى قولهم هذا إن السلطان لو أبدل المكاييل بأصغر أو أكبر فليس للمبتاع إلا الكيل الأخير وهو باطل.
الحنابلة: قرر الحنبليون كغيرهم قاعدة في القرض تقول: إذا رد المقترض عين ما اقترضه لزمه قبوله إن كان المردود مثليا أما المتقوم فلا يلزم الدائن قبوله لأن الواجب قيمته على المقترض بعد أن دخل في ملكه فرد عين المثلي يلزم الدائن قبوله إلا في حالتين:
(أ) تعيب عين القرض كحنطة ابتلت.
(ب) إذا كان القرض فلوسا أو دراهم مكسرة فحرمها السلطان سواء اتفق الناس على تركها أو لا لأنه كالعيب فلا يلزمه قبولها (1) ويفهم من هذا أن الحنابلة لا يلزمون الدائن بقبول المثل إلا إذا كان النقد مسموحا به متداولا بأمر السلطان، فإن كسد فلا يجبر الدائن على قبوله ويكون له القيمة عن الفلوس والمكسرة (2) وقت القرض سواء كانت باقية العين أو مستهلكة وسواء نقصت قيمتها كثيرا أو قليلا وكذلك الحكم في المغشوشة إذا حرمها السلطان وفي حال وجوب القيمة على المقترض فيجب أن يدفعها من غير جنس الدين إن ترتب عليه ربا الفضل كما لو أقرضه دراهم مكسورة فحرمها السلطان فيعطي قيمتها ذهبا حذرا من ربا الفضل والعكس بالعكس. وكذا الحكم في سائر الديون كعوض خلع وبدل متلف وغصب وأجرة.
الشافعية: قال في مغني المحتاج: ولو باع بنقد معدوم في البلد حالا أو مؤجلا إلى أجل لا يمكن فيه نقله للبلد عادة لم يصح لعدم القدرة على التسليم
(1) كشاف القناع 3/ 315، والإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف 5/ 127.
(2)
كشاف القناع 3/ 315.
فإن أجله إلى وقت يمكن فيه إحضاره صح العقد، ولو لم يحضره له الاستبدال فلا ينفسخ العقد، وكذا يستبدل لو باع بموجود عزيز فلم يجده (1) إلا أن الهيثمي في تحفة المحتاج قال:(ولو باع بنقد دراهم أو دنانير وعين شيئا موجودا اتبع وإن عز)(2)، وقال الرملي:(ولو قلت أو عز وجودها في أيدي الناس فلا يجب غيرها لإمكان تحصيلها مع العزة بخلاف انعدامها وانقطاعها وفقدها)(3)، وفي كل الأحوال إذا عقد بنقد معين فليس له إلا ما وجب بالعقد كما لو أسلم في حنطة بوصف معين فليس له غيرها رخصت أو غلت، هذا في النقد المعين أو المنصرف إلى غالب نقد البلد، فلو بطل ذلك النقد فليس له غيره كالحنطة إذا رخصت أو غلت، هكذا قطع به الجمهور، وحكى البغوي والرافعي وجها بتخيير البائع بين إمضاء العقد أو فسخه كما لو تعيب قبل القبض (4).
النتيجة: يتفق جمهور الفقهاء على أن نقود الذهب والفضة موزونة أو مسكوكة خالصة أو مغلوبة الغش تسدد بمثلها ولا ينظر إلى رخصها أو غلائها بالنسبة لما كانت عليه وقت العقد؛ وذلك لأن هذه النقود تتمتع بثبات نسبي في قيمتها لندرتها وعدم سهولة إصدارها كما يمكن تحويلها من سبائك إلى مسكوكات دون أن تفقد شيئا من قيمتها أو وزنها بالسك أو الصهر وهو ما يجعل منها نقودا لا تقل في قيمتها التجارية كسلعة بدرجة محسوسة عن قيمتها الاسمية كنقد متداول (5).
(1) مغني المحتاج 2/ 17.
(2)
تحفة المحتاج 4/ 255.
(3)
نهاية المحتاج 3/ 97، والمغني المحتاج 2/ 17.
(4)
المجموع 9/ 282.
(5)
الإسلام والنقود، د. رفيق المصري صـ 91.