الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ومعلوم أن اسم (الإيمان) من هذا الباب فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «الإيمان بضع وسبعون شعبة، أفضلها قول لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان (1)» ثم من المعلوم أنه إذا زالت الإماطة ونحوها لم يزل اسم الإيمان. وقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «يخرج من النار من كان في قلبه مثقال ذرة من الإيمان (2)» فأخبر أنه يتبعض ويبقى بعضه وأن ذلك من الإيمان، فعلم أن بعض الإيمان يزول ويبقى بعضه، وهذا ينقض مآخذهم الفاسدة ويبين أن اسم الإيمان مثل اسم القرآن (3) يطلق على جميعه وعلى بعضه - وعليه فالإيمان يزول بعضه ولا يلزم زوال الباقي كما لا يلزم زوال اسمه وبذلك تبطل هذه الشبهة، والله أعلم.
(1) رواه البخاري في الإيمان، باب أمور الإيمان جـ 1 صـ 8. ومسلم في الإيمان باب بيان عدد شعب الإيمان. مسلم (بشرح النووي) جـ 2 صـ 3. وأبو داود والترمذي والنسائي عن أبي هريرة، انظر: جامع الأصول جـ 1حديث 19.
(2)
رواه الترمذي عن أبي سعيد الخدري برقم 2601 في صفة جهنم، باب رقم 10 وقال: هذا حديث حسن صحيح. انظر: جامع الأصول جـ 9 حديث 7000 (المتن والحاشية).
(3)
الفتاوى جـ 7 صـ 514 - 517 (بتصرف).
(جـ):
في ذكر بعض اللوازم والأدلة التي تؤكد بطلان هذه البدعة:
بعد عرض أمثلة من شبهاتهم والجواب عنها نشير إلى بعض اللوازم والأدلة التي تؤكد بطلان هذه البدعة. مما يؤكد بطلان هذه البدعة ما يلي:
أولا: أنه يلزم من القول بأن مرتكب الكبيرة كافر أن يكون حكمه حكم غيره ممن كفر بعد إيمانه، وهو أن يكون مرتدا يجب قتله؛ لقوله صلى الله عليه وسلم:«من بدل دينه فاقتلوه (1)» ولا تجري الحدود في الزنا والسرقة والخمر. وهذا معلوم بطلانه بالضرورة من دين الإسلام، إذ أن نصوص الكتاب والسنة
(1) أخرجه البخاري عن ابن عباس في استتابة المرتدين، باب حكم المرتد جـ 12/ 238 و239 والترمذي برقم 1478 في الحدود باب ما جاء في المرتد. وانظر: جامع الأصول حديث 1801 جـ 3 صـ 481 - 482.
والإجماع تدل على أن الزاني _ البكر _ والسارق والقاذف لا يقتلون بل يقام عليهم الحد.
كما قال تعالى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} (1) الآية، وقال تعالى في حكم السارق:{وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} (2)، وفي شراب الخمر روي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه «أن رجلا كان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم كان اسمه عبد الله وكان يلقب حمارا وكان يضحك النبي صلى الله عليه وسلم وكان صلى الله عليه وسلم قد جلده في الشراب، فأتي به يوما فأمر به فجلد، فقال رجل من القوم: اللهم العنه ما أكثر ما يؤتى به، فقال صلى الله عليه وسلم: لا تلعنوه فوالله ما علمت إنه يحب الله ورسوله (3)» فقد أمر صلى الله عليه وسلم بجلد شارب الخمر ولم يقتله بل نهى عن لعنه بعينه، وشهد لهذا الرجل بحب الله ورسوله مع أنه تكرر منه شرب الخمر، ولم يحكم عليه ولا على غيره من أصحاب الكبائر كالسارق والزاني بالكفر، بل كان يستغفر لهم (4).
كما أجمعت الأمة من الصحابة والتابعين ومن بعدهم على ذلك. فدل ذلك على أنه ليس بمرتد.
كما يلزم أيضا من كونه كافرا التفريق بينه وبين أهله، وأن لا يرث ولا يورث إلى غير ذلك مما يشترط فيه الإسلام؛ لقوله عز وجل:{وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلَا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا} (5) الآية.
(1) سورة النور الآية 2
(2)
سورة المائدة الآية 38
(3)
رواه البخاري في كتاب الحدود باب ما يكره من لعن شارب الخمر وأنه ليس بخارج من الملة برقم 6780، وانظر: صحيح البخاري (مع الفتح) جـ 12 صـ 75.
(4)
انظر: مجموع الفتاوى جـ 7 صـ 483، 671.
(5)
سورة البقرة الآية 221
ولقوله صلى الله عليه وسلم: «لا يرث المسلم الكافر ولا الكافر المسلم (1)» .
لكن النبي صلى الله عليه وسلم لم يفرق بين من فعل الكبيرة مما دون الشرك - وبين أهله ولم يحرمه من ميراث من له الإرث منه، وكذلك صحابته والتابعون لهم بإحسان مما يدل على أنه غير كافر.
ثانيا: أن الله سمى أهل الكبائر مؤمنين مع ارتكابهم لها؛ كما في قوله تعالى: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا} (2) الآية (3)، قال ابن كثير _ رحمه الله _: فسماهم مؤمنين مع الاقتتال، وبهذا استدل البخاري وغيره على أنه لا يخرج عن الإيمان بالمعصية وإن عظمت لا كما يقوله الخوارج ومن تابعهم (4). ومثل هذه الآية أيضا قوله تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ} (5) الآية قال ابن حزم رحمه الله: فابتدأ الله عز وجل بخطاب أهل الإيمان من كان فيهم من قاتل أو مقتول، ونص تعالى على أن القاتل عمدا وولي المقتول أخوان. وقد قال تعالى:{إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} (6) فصح أن القاتل عمدا مؤمن بنص القران،
(1) رواه البخاري في كتاب الفرائض، باب لا يرث المسلم الكافر ولا الكافر المسلم. . برقم 6764. انظر: فتح الباري جـ 12 صـ 50.
(2)
سورة الحجرات الآية 9
(3)
انظر: الفتاوى جـ 7 صـ 483.
(4)
تفسير ابن كثير جـ 4 صـ 221.
(5)
سورة البقرة الآية 178
(6)
سورة الحجرات الآية 10
وحكمه له بأخوة الإيمان، ولا تكون للكافر مع المؤمن تلك الأخوة (1). وإذا صح أن مرتكب الكبيرة لم يخرج من الإيمان بطل ما تزعمه الخوارج من القول بكفره وأنه مخلد في النار.
ثالثا: ما ورد من الأدلة على الموازنة بين الحسنات والسيئات وأن الله لا يضيع عمل عامل، قال تعالى:{وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ} (2) الآية، وقال تعالى:{فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ} (3){وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} (4)، وقال تعالى:{إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا} (5) الآية.
وعن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «أتدرون من المفلس؟، قالوا: المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع، فقال: إن المفلس من أمتي من يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة، ويأتي قد شتم هذا وقذف هذا وأكل مال هذا وسفك دم هذا وضرب هذا فيعطى هذا من حسناته وهذا من حسناته، فإن فنيت حسناته قبل أن يقضي ما عليه أخذ من خطاياهم فطرحت عليه ثم طرح في النار (6)» فصح بما ذكر أن للعصاة حسنات مقبولة وإذا كانوا كذلك لم يكونوا كافرين (7).
(1) الفصل جـ 3 صـ 235، 236.
(2)
سورة الأنبياء الآية 47
(3)
سورة الزلزلة الآية 7
(4)
سورة الزلزلة الآية 8
(5)
سورة النساء الآية 40
(6)
رواه مسلم عن أبي هريرة في كتاب البر والصلة والآداب، باب تحريم الظلم. انظر: صحيح مسلم (بشرح النووي) جـ 16 صـ 135 ـ 136.
(7)
انظر: الفصل جـ 3 صـ 232 ـ 233، جـ 4 صـ 48 ـ 49.
رابعا: ما ورد من الأدلة التي تدل على عفو الله عن عباده وسعة مغفرته لهم وأنه لا يضيع إيمانهم، كقوله تعالى:{إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} (1).
فقد دلت هذه الآية على أن مغفرته سبحانه قد تنال كل صاحب معصية بمشيئتة غير الشرك، ومرتكب الكبيرة ليس بمشرك، وعليه فهو داخل تحت مشيئة الله.
وقال تعالى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ} (2) ومرتكب الكبيرة معه إيمان فالله لا يضيع إيمانه، وعليه فهو ليس بكافر.
وعن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: قال صلى الله عليه وسلم: «من شهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله أدخله الله الجنة على ما كان من العمل (3)» ومرتكب الكبيرة قد شهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله - فهو موعود بدخول الجنة ومن وعد بدخولها فليس بكافر.
وإذا ثبت أن مرتكب الكبيرة مما دون الشرك تحت مشيئة الله (4)، وأن الله لا يضيع إيمانه بل إن الله وعده بالجنة، إذا ثبت ذلك بطل القول بكفره وأنه مخلد في النار.
خامسا: ما ورد من الأدلة الدالة على الشفاعة بأنواعها المختلفة التي أعظمها
(1) سورة النساء الآية 48
(2)
سورة البقرة الآية 143
(3)
رواه البخاري عن عبادة بن الصامت في كتاب أحاديث الأنبياء باب قوله تعالى: " يا أهل الكتاب لا تغلو في دينكم ولا تقولوا على الله إلا الحق " برقم 3435 صحيح البخاري بشرح (فتح الباري) جـ 6 صـ 474. ومسلم (بشرح النووي) جـ 1 صـ 26.
(4)
انظر: الفتاوى جـ 7 صـ 484ـ 487. وتأملات في التراث العقدي صـ 242 ـ 243.
شفاعة نبينا صلى الله عليه وسلم لأهل الموقف وهي المقام المحمود الذي قال الله تعالى فيه: {وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا} (1) فهذا نوع من أنواع شفاعته صلى الله عليه وسلم ومن أنواعها ما روى البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لكل نبي دعوة مستجابة فتعجل كل نبي دعوته وإني اختبأت دعوتي شفاعة لأمتي يوم القيامة فهي نائلة إن شاء الله من مات من أمتي لا يشرك بالله شيئا (2)» ومرتكب الكبيرة ليس بمشرك فهي نائلته إن شاء الله.
وورد من أنواع الشفاعة شفاعة المؤمنين بعضهم لبعض؛ لما روى أبو سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «يؤتى بالجسر فيجعل بين ظهري جهنم، قلنا: يا رسول الله وما الجسر؟، قال: مدحضة مزلة عليه خطاطيف وكلاليب وحسكة مفلطحة لها شوكة عقيفاء تكون بنجد يقال لها السعدان، المؤمن عليها كالطرف، وكالبرق، وكالريح، وكأجاود الخيل والركاب، فناج مسلم، وناج مخدوش ومكدوس في نار جهنم حتى يمر آخرهم يسحب سحبا فما أنتم بأشد لي مناشدة في الحق قد تبين لكم من المؤمنين يومئذ للجبار، وإذا رأوا أنهم قد نجوا في إخوانهم يقولون ربنا إخواننا الذين كانوا يصلون معنا ويصومون معنا ويعملون معنا، فيقول الله تعالى: اذهبوا فمن وجدتم في قلبه مثقال دينار من إيمان فأخرجوه، ويحرم الله صورهم على النار فيأتونهم وبعضهم قد غاب في النار إلى قدمه وإلى إنصاف ساقيه فيخرجون من عرفوا ثم يعودون، فيقول: اذهبوا فمن وجدتم في قلبه مثقال نصف دينار فأخرجوهم، فيخرجون من عرفوا ثم يعودون، فيقول:
(1) سورة الإسراء الآية 79
(2)
رواه البخاري ومسلم عن أبي هريرة انظر: جامع الأصول حديث 8011 جـ 10 صـ 476، وانظر: صحيح البخاري (بشرح فتح الباري) جـ 11 صـ 96. ومسلم (بشرح النووي) جـ 3 صـ 74.