الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ودليل الصاحبين أن الانقطاع لا يبطل البيع؛ لأن المتعذر إنما هو التسليم بعد الكساد وذلك لا يوجب الفساد لاحتمال الزوال بالرواج.
الرابع: الشافعية والمالكية. تجب قيمة النقد حال انقطاعه أي عند جواز الاستبدال كما ذكره النووي في الانقطاع وعدم إمكانية الحصول عليه، واختلفوا في وقت وجوب القيمة فقال الشافعية تجب وقت المطالبة (1).
وقال المالكية تجب القيمة في أبعد الأجلين وهما ميعاد الاستحقاق وانقطاع النقد ما لم يمطله المدين فإن مطله وجب ما آل إليه الأمر من القيمة الجديدة، وذهب بعض المالكية إلى تقدير القيمة وقت الحكم، ونص الخرشي شارحا قول خليل (2):(وإن بطلت فلوس فالمثل أو عدمت فالقيمة) يعني أن الشخص إذا ترتب عليه لآخر فلوس أو نقد كقرض أو غيره ثم قطع التعامل بها أو تغيرت من حال إلى أخرى فإن كانت باقية فالواجب عليه المثل في ذمته قبل قطع التعامل بها أو تغيرها على المشهور، وإن عدمت - الكساد - فيجب عليه قيمتها مما تجدد معتبرة وقت أبعد الأجلين عند تخالف الوقتين العدم أو الاستحقاق، فلو كان انقطاع التعامل بها أو تغيرها أول الشهر والاستحقاق آخره فتعتبر القيمة في آخره والعكس بالعكس (3).
(1) قطع المجادلة، والمجموع 9/ 331.
(2)
الخرشي، مصدر سابق.
(3)
منح الجليل 2/ 535، وحاشية الدسوقي 3/ 46.
غلاء النقد ورخصه:
عرفنا سابقا أن لتغير قيمة النقد ثلاثة معان، فقد تكون تجاه الذهب أو تجاه العملات الأخرى وعرفنا أن قيمة النقود تتوقف على كميتها وسرعة تداولها وكمية العرض في السوق، وأن عيار النقد من المعدن الثمين ليس له كبير أثر في الدراسات الاقتصادية المعاصرة، ويرى الفقهاء أن الغلاء
والرخص للنقود إنما هو باعتبار نسبتها للذهب والفضة ولكن فروعهم لا تمنع شمول مفهوم الرخص والغلاء لاختلاف القوة الشرائية للنقد ضمن الإطار العام لنظرية الربا في الشريعة الإسلامية ولذا فلا أجد فارقا جوهريا بين اختلاف القوة الشرائية للنقود وبين اختلاف قيمتها بالنسبة للذهب والفضة، والفرد العادي في حياته اليومية لا يتأثر إلا باختلاف القوة الشرائية للنقد لاختلاف سعره بالنسبة للذهب، والمسألة التي نتعرض لها هنا هي إذا تغيرت قيمة النقد غلاء أو رخصا بعد ثبوته في ذمة المدين قرضا أو ثمن مبيع وقبل أدائه فللفقهاء في المسألة ثلاثة أقوال:
1 -
جمهور الفقهاء 2 - قول أبي يوسف 3 - وجه مرجوح عند المالكية.
القول الأول الجمهور من الشافعية والحنابلة والمشهور عند المالكية وأبي حنيفة.
وهو أنه لا يجب إلا النقد المحدد في العقد وليس للدائن سواه، وكان أبو يوسف يرى هذا الرأي موافقة لإمامه ثم رجع عنه، قال في البدائع:(ولو لم تكسد ولكنها رخصت قيمتها أو غلت لا ينفسخ البيع إجماعا وعلى المشتري أن ينقد مثلها عددا ولا يلتفت إلى القيمة هنا لأن الرخص والغلاء لا يوجب بطلان الثمنية ألا ترى أن الدراهم قد ترخص وتغلو وهي على حالها أثمان)(1)، وفي حديثه عن القرض قال:(ولو لم تكسد ولكنها رخصت أو غلت فعليه رد مثل ما قبض)، وقال في البحر بعد كلامه عن الكساد والانقطاع:(ولو نقصت قيمتها قبل القبض فالبيع على حاله بالإجماع، ولا يتخير البائع وعكسه لو غلت قيمتها وازدادت فكذلك البيع على حاله ولا يتخير المشتري ويطالب بالمعيار الذي كان عند البيع (2).
(1) بدائع الصنائع 7/ 3245.
(2)
البحر الرائق 6/ 219.
ونقل ابن عابدين عن شرح الطحاوي قوله: (وأجمعوا أن الفلوس إذا كسدت أن عليه مثلها كما قبضها وزنا أو عددا)(1). ففي الغلاء والرخص لا يجب إلا المثل اتفاقا عند الحنفية، إلا أن أبا يوسف قال يحق للبائع الفسخ لتعيب الثمن بنقصان القيمة (2).
وقال ابن قدامة في المغني: (وأما رخص السعر فلا يمنع ردها سواء كان قليلا أو كثيرا كأن كان عشرة بدانق فصارت عشرين بدانق لأنه لم يحدث شيء فيها إنما تغير السعر فأشبه الحنطة إذا رخصت أو غلت) ومثله قال في كشاف القناع: (إن الفلوس إن لم يحرمها السلطان وجب رد مثلها غلت أو رخصت أو كسدت)(3).
وقال في المدونة: (وكذلك إن أقرضه دراهم فلوسا وهو يومئذ مائة فلس بدرهم ثم صارت مائتي فلس بدرهم فإنما يرد إليك مثل ما أخذ لا غير ذلك)(4).
وأفضل تلخيص لمذهب الحنابلة ما قاله ناظم المفردات ونقلها في الإنصاف وصاحب الروض المربع فقال:
والنقد في المبيع حيث عينا
…
وبعد ذا كساده تبينا
نحو الفلوس ثم لا يعامل
…
بها فمنه عندنا لا تقبل
بل قيمة الفلوس يوم العقد
…
والقرض أيضا هكذا في الرد
ومثله من رام عود الثمن
…
برده المبيع خذ بالأحسن
قد ذكر الأصحاب ذا في ذي الصور
…
والنص في القرض عيانا قد ظهر
والنص بالقيمة في بطلانها
…
لا في ازدياد القدر أو نقصانها
(1) تنبيه الرقود / 60.
(2)
العقود الدرية 1/ 279 - 280.
(3)
المغني 4/ 360. وكشاف القناع 3/ 315.
(4)
منح الجليل 2/ 534 - 535.
بل إن غلت فالمثل فيها أحرى
…
كدانق عشرين صار عشرا
والشيخ في زيادة أو نقص
…
مثلا كقرض في الغلا والرخص
وشيخ الاسلام فتى تيميه
…
قال قياس القرض عن جليه
الطرد في الديون كالصداق
…
وعوض في الخلع والإعتاق
والغصب والصلح عن القصاص
…
ونحو ذا طرا بلا اختصاص
قال وجا في الدين نص مطلق
…
ينقله الأثرم إذ يحقق
وقولهم إن الكساد نقصا
…
فذاك نقص النوع عابت رخصا
قال ونقص النوع ليس يعقل
…
فيما سوى القيمة ذا لا يجهل
وخرج القيمة في المثلي
…
بنقص نوع ليس بالخفي
واختاره وقال عدل ماضي
…
خوف انتظار السعر بالتقاضي
لحاجة الناس إلى ذي المسألة
…
نظمتها مبسوطة مطولة (1)
رأي الإمام السيوطي من الشافعية: قرر السيوطي في رسالته أن الفلوس مثلية وكذلك الدراهم والدنانير إلا أن في المغشوش منهما وجها أنه متقوم، وذكر أن سبب تأليف رسالته (قطع المجادلة عند تغيير المعاملة) هو الاضطراب الشديد لقيمة الفلوس في عام (821 - 836) فعندما عزت الفلوس أيحق للدائن مطالبة المدين بقيمتها من الذهب أو الفضة. ونقل عن القاضي علم الدين البلقيني ظهر بعده للسيوطي أن رخص الفلوس وغلاءها شبيه بمسألة الدية من الإبل، والمنقول في إبل الدية إذا فقدت وجوب قيمتها مهما بلغت مقومة بنقد البلد فإن لم يتوفر إبل في البلد قومت بإبل أقرب البلاد إليهم، وحكى صاحب التهذيب وجهين هل تعتبر قيمة بلد الوجود أم بلد الإعواز إذا وجدت فيها.
نقل الرافعي عن الشافعي اعتبار قيمة يوم الوجوب في بلد الإعواز، بينما نقل الروياني أنه إذا كانت الإبل مفقودة فقيمتها يوم الوجوب، وإن كانت
(1) الروض المربع 2/ 155، والإنصاف 5/ 128.
موجودة ثم أعوزت فتجب قيمة يوم الإعواز لأنه يوم التحول إلى القيمة، قال السيوطي (1) فهذه تناظر مسألتنا فمن وجب عليه متقوم معلوم الوزن كرطل ألزمه القاضي بقيمته يوم الوجوب ذهبا أو فضة عند الرافعي، أو قيمتها يوم الإعواز على قول الروياني، فالبلقيني يعتبر قيمة الفلوس عند عدمها أو غلائها كسائر المثليات إذا عدمت أو عزت فلا يلزم تحصيلها كما رجحه النووي في (2) الغصب بإيجاب أقصى قيمة للمغصوب من وقت الغصب إلى تعذر المثل. ثم قال السيوطي إذا تقرر فأقول تترتب الفلوس في الذمة بأمور منها القرض ويرد فيه المثل مطلقا، فمن اقترض رطل فلوس رد مثله زادت قيمته أو نقصت لأنه كالسلم إذ يجب تحصيل المسلم فيه مهما بلغت قيمته فإن عدم فليس إلا الفسخ والرجوع برأس المال أو الصبر إلى الوجود، ولا يجوز الاستبدال عنه لو كان رأس المال فلوسا وهي باقية بعينها أخذها وإن تلفت رجع إلى مثلها وزنا، وأما في صورة النقص فقد قال في الروضة: لو أقرضه نقدا فأبطل السلطان ذلك النقد فليس له إلا ما أقرضه نص عليه الشافعي وهذا مع إبطال النقد فمع نقصان قيمته أولى فإذا عدمت الفلوس نهائيا وهو الانقطاع بعينه رجع إلى قيمتها ذهبا أو فضة وتعتبر القيمة يوم المطالبة، أما المقبوض (3) بقرض فاسد فيضمن بالمثل أو القيمة وتعتبر قيمته يوم القبض وهو كقول أبي يوسف وما يجري على الفلوس يجري على الفضة ثم ذكر السيوطي فروعا تطبيقية للمسألة فقال (4):
أنه لو باع بنقد معين أو مطلق فأبطله السلطان لم يكن للبائع إلا ذلك
(1) قطع المجادلة ص 96 من الحاوي للسيوطي.
(2)
قطع المجادلة، وحاشية قليوبي وعميرة 3/ 30.
(3)
حاشية الشرواني والعبادي على تحفة المحتاج 4/ 258.
(4)
قطع المجادلة صـ 97.
النقد كما لو أسلم في حنطة فرخصت ليس له غيرها وفيه وجه شاذ (1) أنه يخير للعيب الحادث وهذا الضعيف هنا هو القوي عند الحنفية إذا كان الأمر في الإجارة والصداق فيمكن الرجوع إلى مهر وأجرة المثل، فقد سئل ابن الصلاح عن رجل تزوج امرأة على مبلغ من الفلوس في الذمة فانعدم النحاس أيرجع للقيمة ببلد العقد أم ببلد المطالبة؟ فأجاب لا ترجع للقيمة أصلا كما لا يرجع إلى قيمة المسلم فيه عند تعذره وإنما يثبت لها مهر المثل بالفسخ أو الانفساخ (2).
القول الثاني لأبي يوسف وهو المفتى به عن الحنفية: يرى أبو يوسف وجوب أداء قيمة النقد الذي طرأ عليه الغلاء والرخص يوم ثبوته في الذمة من نقد رائج، ففي البيع تجب القيمة يوم العقد وفي القرض يوم القبض ونقل ابن عابدين عن الغزي في (بذل المجهود) فقال:(وفي البزازية معزيا إلى المنتقى غلت الفلوس أو رخصت فعند الإمام الأول والثاني أولا - أي أبي يوسف في قوله الأول - بأنه لا يجب عليه غيرها وهو قول أبي حنيفة وقد رجع أبو يوسف عن هذا القول وقال ثانيا يجب عليه قيمتها من الدراهم يوم البيع والقبض وأكد ابن عابدين وجوب الفتوى بهذا القول لأنه الراجح ولا يؤخذ بمقابلة المرجوح (3) وانفرد أبو يوسف في الغلاء والرخص بأنه عيب يجيز للبائع الفسخ بسبب نقص القيمة) (4).
القول الثالث وهو وجه عند المالكية: وخلاصته أن التغير إذا كان فاحشا فيجب أداء قيمة النقد، فإن لم يكن التغير فاحشا فيجب المثل وعلق الرهوني
(1) المجموع للنووي 9/ 331.
(2)
قطع المجادلة، المجموع للنووي 9/ 331.
(3)
تنبيه الرقود / 58، والبحر الرائق 6/ 219.
(4)
تنبيه الرقود / 62.