الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
قال الإمام أبو حنيفة: " ولا نقول إن المؤمن لا تضره الذنوب ولا نقول إنه لا يدخل النار. . كما قالت المرجئة "(1).
وقال الماتريدي: " قالت المرجئة لا يضر مع الإيمان ذنب كما لا ينفع مع الكفر طاعة "(2).
ويقول ابن تيمية - وهو يتكلم عن أصحاب الذنوب -: ". . . ولكن الأقوال المنحرفة قول من يقول بتخليدهم في النار. .، وقول غلاة المرجئة الذين يقولون: ما نعلم أحدا منهم يدخل النار بل نقف في هذا كله. وحكي عن بعض غلاة المرجئة الجزم بالنفي. . . "(3).
وهذا مبني على أصلهم الفاسد، وهو أنه لا يتصور أن الشخص يدخل الجنة والنار معا بل إذا دخل أحدهما فلا يدخل الأخرى، وبناء على هذا قالوا:" إن أهل الذنوب يدخلون الجنة ولا يدخلون النار أبدا "(4).
(1) شرح الفقه الأكبر للماتريدي صـ 141 (المتن).
(2)
شرح الفقه الأكبر للماتريدي صـ 6.
(3)
الفتاوى جـ 7 صـ 297. وانظر صـ 501 من نفس الجزء.
(4)
الإيمان لابن تيمية صـ 337 - 338. الفصل جـ 3 صـ 229 - 230.
(ب):
شبهاتهم والجواب عليها
.
لقد تمسك المرجئة في قولهم بهذه البدعة بشبهات منها: ما ورد في الكتاب والسنة من نصوص فيها الوعد لعباده المؤمنين، وإليك البعض منها مع الجواب.
الشبهة الأولى:
قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} (1).
(1) سورة النساء الآية 48
وجه الاستدلال: قالوا: إن الآية تدل على أن الشرك وحده لا يغفر وما دون ذلك فهو مغفور، ومرتكب الكبيرة ليس بمشرك فهو مغفور له (1).
الجواب: يقال لهم: استدلالكم باطل لما يلي:
(أ) أن المغفرة معلقة بالمشيئة ففيها دليل على التقسيم (2). وهو أن من العصاة من يعذب، ومنهم من لا يعذب، وعليه فالآية حجة عليكم لا لكم.
(ب) لو كانت المغفرة لكل أحد - كما تزعمون - لبطل قوله تعالى: {لِمَنْ يَشَاءُ} (3) فلما أثبت أنه يغفر ما دون ذلك، وأن المغفرة هي لمن يشاء دل ذلك على وقوع المغفرة العامة لما دون الشرك لكنها لبعض الناس (4). وبذلك يتضح بطلان استدلالكم بالآية على ما تزعمونه، والله أعلم.
(1) انظر: التنبيه والرد على أهل الأهواء والبدع صـ 43.
(2)
انظر: قواعد العقائد للغزالي صـ 255.
(3)
سورة النساء الآية 48
(4)
الفتاوى جـ 16 صـ 19.
الشبهة الثانية:
قوله تعالى: {يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا} (1) الآية.
وجه الاستدلال: أن الله تعالى حكم بغفران الذنوب جميعا، ولم يشترط التوبة، وذلك يدل على أنه تعالى يغفر الذنوب قبل التوبة وبعدها (2)، وإذا غفرت ذنوب مرتكب الكبيرة لم يدخل النار.
الجواب: نقول لهم المراد بأن الله تعالى يغفر الذنوب جميعا مع التوبة.
(1) سورة الزمر الآية 53
(2)
الأربعين للرازي صـ 209.
وحمل الآية على هذا المعنى أولى لوجهين. الأول: أنا إذا حملناها على هذا الوجه فقد حملناها على جميع الذنوب - على ما هو ظاهر الآية - وإن حملناها على ما ذكرتم، لم يمكن حمله على ظاهر الآية؛ لأنه تعالى لا يغفر جميع الذنوب من غير توبة؛ إذ الكفر ذنب والله لا يغفره إلا مع التوبة.
الثاني: أنه تعالى ذكر عقيب هذه الآية قوله تعالى: {وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ} (1) والإنابة هي التوبة (2).
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: وقد ذكرنا في غير موضع أن هذه الآية في حق التائبين. . . ثم قال: الآية فيها نهي عن القنوط من رحمة الله، وإن عظمت الذنوب فلا يحل لأحد أن يقنط من رحمة الله. . ولا أن يقنط الناس من رحمة الله، والقنوط: يكون بأن يعتقد أن الله لا يغفر له؛ إما لكونه إذا تاب لا يقبل الله توبته ويغفر ذنبه، وإما أن يقول نفسه لا تطاوعه على التوبة. . فهو ييأس من توبة نفسه (3). وإذا كانت الآية في حق التائب لم يبق فيها دلالة على ما تزعمه المرجئة، والله أعلم.
(1) سورة الزمر الآية 54
(2)
انظر: الأربعين للرازي صـ 236.
(3)
الفتاوى جـ 16 صـ 18 - 20.
الشبهة الثالثة:
قول تعالى: {لَا يَصْلَاهَا إِلَّا الْأَشْقَى} (1){الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى} (2).
وجه الاستدلال: قالوا: قد أخبرنا الله عز وجل في هذه الآية - أن النار لا يصلاها إلا الأشقى الذي كذب وتولى، فصح أن من لم يكذب
(1) سورة الليل الآية 15
(2)
سورة الليل الآية 16
ولا تولى لا يصلاها، قالوا: ووجدنا أن مرتكبي الكبائر- مما دون الشرك - كلهم لم يكذبوا ولا تولوا بل هم مصدقون معترفون بالإيمان، فصح أنهم لا يصلونها، وأن المراد بالوعيد المذكور في هذه الآية وأمثالها إنما هو فعل تلك الأفاعيل من الكفار خاصة (1).
الجواب: من وجوه منها. الأول: قيل أن المراد بهذه النار: نار مخصوصة - كما قاله الزجاج - وعدم دخوله هذه النار لا يمنع من دخوله غيرها. . وقيل: لا يصلاها صلي خلود، وهذا أقرب، وعليه فمن دخل النار وخرج منها فإنه نوع من الصلي، لكنه ليس الصلي المطلق وهو صلي الخلود، لا سيما إذا كان قد لبث فيها والنار لم تأكله؛ فإنه قد ثبت أنها لا تأكل مواضع السجود (2).
الثاني: على التسليم بأن الآية تدل على أن الكفار هم المخصوصون بالعذاب، فإن هذا لا يمنع ما يحصل لبعض المؤمنين من تمحيص في النار بسبب ذنوبهم - كما دلت عليه بعض النصوص، من مثل قوله تعالى:{وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ} (3).
وكما ورد في الحديث الصحيح: أن فيه من يدخل النار بذنوبه ثم يخرج منها وعليه فإنه لا دلالة في الآية على ما تزعمه المرجئة، والله أعلم.
(1) الفصل لابن حزم جـ 3 صـ 230.
(2)
الفتاوى جـ 16 صـ 197. وانظر: الفصل جـ 4 صـ 50.
(3)
سورة آل عمران الآية 141
الشبهة الرابعة:
قوله تعالى: {إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} (1).
وجه الاستدلال: قالوا الآية تدل على أن كل محسن رحمة الله قريبة منه، ومرتكب الكبيرة قد قال لا إله إلا الله فهو محسن، وإذا كان محسنا فرحمة الله قريبة منه، ومن رحمه الله فلا يعذب (2).
الجواب: نقول استدلالكم باطل لما يلي:
(أ) أن الآية تدل على أن رحمة الله قريب من عباده المحسنين، لكنها لا تفسر بمنع العذاب في النار لمن أخطأ منهم؛ لأن عذاب الله للمخطئ عدل، والعدل لا يضاد الرحمة.
(ب) أنه لولا رحمة الله لهؤلاء المخطئين لطال عذابهم، ولكن رحمته كانت السبب في التجاوز عن كثير من خطاياهم وإدخالهم الجنة؛ لما روى أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«ليصيبن أقواما سفع من النار بذنوب أصابوها عقوبة، ثم يدخلهم الله الجنة بفضل رحمته، يقال لهم الجهنميون (3)» وبذلك اتضح أن الله عذب الفساق بعدله، وتجاوز عن كثير من خطاياهم برحمته. ولم يستلزم العدل انتفاء الرحمة، ولا الرحمة انتفاء العذاب بعدله سبحانه.
(ج) على التسليم بما تزعمونه فإن رحمة الله مقيدة بالمشيئة؛ لما روى أبو هريرة
(1) سورة الأعراف الآية 56
(2)
انظر: الفصل جـ 4 صـ 47.
(3)
رواه البخاري في كتاب التوحيد، باب ما جاء في قوله تعالى:" إن رحمة الله قريب من المحسنين " برقم 7450. انظر: صحيح البخاري (فتح الباري) جـ 13 صـ 434.
أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «تحاجت الجنة والنار. . . إلى أن قال: فقال الله تعالى للجنة: أنت رحمتي أرحم بك من أشاء (1)» الحديث، وإذا كانت الرحمة مقيدة بالمشيئة لم يبق في الآية دلالة على ما تزعمونه، والله أعلم.
(1) رواه البخاري ومسلم والترمذي عن أبي هريرة. انظر: جامع الأصول جـ 10 حديث 8109.
الشبهة الخامسة:
قوله تعالى: {إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنَا أَنَّ الْعَذَابَ عَلَى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى} (1). وجه الاستدلال: قالوا: هذه الآية صريحة في أن ماهية العذاب مختصة بمن كذب بالله تعالى وكان موليا عن دينه. ومن لم يكن مكذبا بالله تعالى ولا متوليا عن دينه لم يكن للعذاب به تعلق (2). ومرتكب الكبيرة ليس مكذبا ولا متوليا عن دين الله؛ إذا ليس للعذاب به تعلق.
الجواب: نقول: الآية تؤكد بأن الكافر المكذب المتولي هو المخصص بالعذاب الأبدي، وهذا لا يمنع من حصول بعض العذاب لمن ارتكب كبيرة أو ذنبا (3)، ثم إن عذاب الله لمرتكب الكبيرة إنما هو تطهير ولبعض مرتكبي الكبائر حسب إرادة الله ومشيئته.
وعليه فكلمة العذاب بمعناها الحقيقي لا تشمل ما يحصل لبعض مرتكبي الكبائر من تطهير، وإذا لم تشمله لم يبق في هذه الآية دلالة على عدم دخول مرتكبي الكبائر في النار، والله أعلم.
(1) سورة طه الآية 48
(2)
الأربعين للرازي صـ 208.
(3)
انظر: فتح القدير جـ 3 صـ 368 - والتفسير الكبير جـ 22 صـ 62. وتفسير القرطبي جـ 11 صـ 204.
الشبهة السادسة:
استدلوا بعموم النصوص التي فيها الوعد لمن ارتكب الكبيرة بأن لا يخلد في النار، كقوله تعالى:{وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ} (1).
وجه الاستدلال: أن لفظ الكفور للمبالغة، فوجب أن يختص هذا الحكم بالكافر الأصلي (2)، وكقوله تعالى:{إِنَّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ وَالسُّوءَ عَلَى الْكَافِرِينَ} (3).
وجه الاستدلال: قالوا: إن هذه الآية دلت على اختصاص الخزي بالكافرين، ثم إن كل من دخل النار فقد حصل له الخزي لقوله تعالى:{رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ} (4) فلما لم يحصل الخزي إلا للكفار وجب ألا يحصل دخول النار إلا لهم (5). وغيرهما من نصوص الوعيد.
الجواب: يقال لهم: أولا: هذه الآيات إنما تدل على أن الكافر هو المخصص بالعذاب الأبدي.
يقول القرطبي: إن الكافر يجازى بكل سوء عمله، أما المؤمن فإنه يجزى ولا يجازى؛ لأنه يثاب. فقوله:{وَهَلْ نُجَازِي} (6) أي نكافئ السيئة بمثلها. وقال طاوس: هو المناقشة في الحساب أما الموحد فلا يناقش الحساب (7).
وعن قتادة عن أنس: في قوله: {رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ} (8) الآية
(1) سورة سبأ الآية 17
(2)
الأربعين للرازي صـ 209.
(3)
سورة النحل الآية 27
(4)
سورة آل عمران الآية 192
(5)
الأربعين للرازي صـ 209.
(6)
سورة سبأ الآية 17
(7)
تفسير القرطبي جـ 14 صـ 289.
(8)
سورة آل عمران الآية 192
قال: من تخلد.
وعن ابن جريح قال: هو من يخلد فيها (1).
وإذا كانت هذه الآيات إنما تدل على اختصاص الكافر بالعذاب الأبدي فإنها لا تعتبر حجة في انتفاء العذاب عمن ارتكب كبيرة من الكبائر مما دون الشرك.
ثانيا: لو سلمنا بقولكم واستدلالكم بهذه الآيات وأمثالها، فما ترون أن نصنع بالآيات التي استدل بها الوعيدية على عذاب الله للعصاة (نصوص الوعيد)!.
مثل قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلَا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبَارَ} (2){وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} (3). وقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} (4) إلى قوله: {وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَانًا وَظُلْمًا فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا} (5).
ماذا نصنع بهذه الآيات؟ هل نضرب عنها صفحا؟، هذا لا يمكن؛ لأنه إيمان ببعض الكتاب وكفر ببعضه، هل نخصصها بأدلتكم؟، فإن قالوا: نعم، قلنا: ولماذا لا تخصصون أنتم؟ وذلك بالموازنة؛ ليتم الإيمان بالجميع (6).
(1) تفسير الطبري جـ 7 صـ 477 - 478.
(2)
سورة الأنفال الآية 15
(3)
سورة الأنفال الآية 16
(4)
سورة النساء الآية 29
(5)
سورة النساء الآية 30
(6)
انظر: قواعد العقائد صـ 255.
الشبهة السابعة:
وجه الاستدلال: الحديث يدل على أن الله وعد من عبده ولم يشرك به شيئا بعدم العذاب، ومرتكب الكبيرة قد عبد الله ولم يشرك به شيئا إذا سيشمله الوعد بعدم العذاب.
الجواب: من وجوه منها:
(أ) أن المراد بالعبادة فعل الطاعات واجتناب المعاصي (3)، والموحد الفاعل للطاعات المجتنب للمعاصي لا يعتبر من أهل الكبائر، وعليه فلا دلالة في الحديث.
(ب) المراد بقوله: أن لا يعذبهم قيل: المراد ترك دخول نار الشرك، وقيل: ترك تعذيب جميع بدن الموحدين، لأن النار لا تحرق مواضع السجود. وقيل: ليس ذلك لكل من وحد وعبد بل يختص بمن أخلص، والإخلاص يقتضي تحقيق القلب بمعناه، ولا يتصور حصول التحقيق مع الإصرار على المعصية؛ لامتلاء القلب بمحبة الله تعالى وخشيته فتنبعث الجوارح إلى الطاعة وتنكف عن المعصية (4). وعلى ذلك فإنه لا دلالة في الحديث.
(1) رواه البخاري في كتاب الرقاق باب 37 برقم 6500.
(2)
انظر: حجج القرآن صـ 42 - 43.
(3)
انظر: فتح الباري جـ 11 صـ 339.
(4)
انظر فتح الباري جـ 11 صـ 340.
(ج) على التسليم بما تزعمونه، فإن تطهير أهل الكبائر من خطاياهم لا يعتبر عذابا على حقيقته، ولذا فإنه لا منافاة بين تطهيرهم من الخطايا وبين قوله: أن لا يعذبهم، وبذلك يتضح خطأ استدلالكم بالحديث على عدم دخول أهل الكبائر النار، والله أعلم.
الشبهة الثامنة:
ما روي عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه أنه قال: «أتى النبي صلى الله عليه وسلم رجل فقال: يا رسول الله، ما الموجبتان؟، قال: من مات لا يشرك بالله شيئا دخل الجنة، ومن مات يشرك بالله شيئا دخل النار (1)» ، (2).
وجه الاستدلال: في الحديث وعد لمن مات لا يشرك بالله شيئا بدخول الجنة، ومرتكب الكبيرة لا يشرك بالله شيئا، فلو مات على ذلك فإن الوعد سيشمله بدخول الجنة.
الجواب: يقال لهم: المراد بقوله: دخل الجنة أن مصيره الجنة، لكن إن لم يكن صاحب كبيرة مات مصرا عليها دخل الجنة أولا، وإن كان صاحب كبيرة مات مصرا عليها فهو تحت المشيئة، فإن عفي عنه دخل الجنة أولا، وإلا عذب ثم أخرج من النار وأدخل الجنة (3). والله أعلم.
(1) رواه مسلم في كتاب الإيمان، باب من مات لا يشرك بالله شيئا دخل الجنة، انظر: مسلم (بشرح النووي) جـ 2 صـ 93.
(2)
انظر: حجج القرآن صـ 43.
(3)
انظر: شرح صحيح مسلم للنووي جـ 1 صـ 219، جـ 2 صـ 97.
الشبهة التاسعة:
ما روي عن أبي ذر رضي الله عنه قال: «أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وعليه ثوب أبيض، وهو نائم، ثم أتيته وقد استيقظ فقال: ما من عبد قال لا إله إلا الله ثم
مات على ذلك إلا دخل الجنة، قلت: وإن زنى وإن سرق؟، قال: وإن زنى وإن سرق، قلت: وإن زنى وإن سرق؟، قال: وإن زنى وإن سرق، قلت: وإن زنى وإن سرق؟، قال: وإن زنى وإن سرق على رغم أنف أبي ذر (2)».
وجه الاستدلال: في الحديث وعد لمن قال لا إله إلا الله ثم مات على ذلك بدخول الجنة. وإن ارتكب بعض الكبائر كالزنا والسرقة. إذا مرتكب الكبيرة الذي قال لا إله إلا الله ثم مات على ذلك يشمله هذا الوعد بدخول الجنة.
الجواب - قال الإمام البخاري - بعد روايته هذا الحديث: هذا عند الموت أو قبله إذا تاب وندم وقال لا إله إلا الله غفر له (3).
وقيل: إن الحديث محمول على من وحد ربه ومات على ذلك تائبا من الذنوب التي أشير إليها في الحديث، فإنه موعود بهذا الحديث بدخول الجنة ابتداء. . وأما من تلبس بالذنوب المذكورة أو غيرها مما دون الشرك ومات من غير توبة فهو تحت المشيئة، إن شاء الله عفا عنه وأدخله الجنة، وإن شاء عذبه على قدر ذنبه ثم أخرجه من النار وأدخله الجنة. ويدل على ذلك حديث عبادة بن الصامت في كتاب الإيمان، فإن فيه:«ومن أصاب من ذلك شيئا ثم ستره الله فهو إلى الله تعالى، إن شاء عاقبه، وإن شاء عفا عنه (4)»
(1) رواه البخاري في كتاب اللباس، باب الثياب البيض حديث 5827، البخاري (بشرح ابن حجر) جـ 10 صـ 283، ومسلم في كتاب الإيمان باب من مات لا يشرك بالله شيئا دخل الجنة جـ 2 صـ 94.
(2)
انظر: حجج القرآن صـ 43، والفصل جـ 4 صـ 47. (1)
(3)
انظر: البخاري (بشرح ابن حجر) جـ 10 صـ 283.
(4)
رواه البخاري في كتاب الإيمان باب 11 البخاري مع الفتح جـ 1 صـ 64، ومسلم انظر: صحيح مسلم (بشرح النووي) جـ 11 صـ 222 - 223.
إذا المراد بالحديث: من قال لا إله إلا الله تائبا نادما على ما حصل منه من الذنوب ثم مات على ذلك فإنه يدخل الجنة؛ لأن التوبة تجب ما قبلها. أو المراد: أن مصيره الجنة ابتداء إن قالها تائبا ومات على ذلك أو النار ثم الجنة؛ إذ أنه لا يخلد في النار (1). وبذلك يتضح خطأ استدلالهم بالحديث، والله أعلم.
(1) انظر: فتح الباري جـ 10 صـ 283. وشرح مسلم (للنووي) جـ 1 صـ 219، حـ 2 صـ 97.
(ج): في ذكر بعض اللوازم التي تؤكد بطلان هذه البدعة (بدعة المرجئة في مرتكب الكبيرة).
بعد عرض أمثلة من شبهاتهم والجواب عنها، نشير إلى بعض اللوازم التي تؤكد بطلان هذه البدعة، فنقول وبالله التوفيق.
إن قول المرجئة: مرتكب الكبيرة لا يدخل النار - قول باطل لما تظافر من الأدلة التي تؤكد بطلانه ولما يستلزمه من اللوازم الباطلة والتي منها:
أولا: إنكار عدل الله؛ لأنهم جعلوا الظالمين والمجرمين المنتهكين للحرمات سواء مع البررة الأتقياء الذين التزموا شرع الله وأقروا عدله في الأرض. فخالفوا بذلك النصوص الصريحة من كتاب الله، والتي تؤكد بأن الله تعالى لم يجعل الفساق كالمؤمنين. حيث يقول سبحانه:
{أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} (1)، ويقول سبحانه:{أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ} (2).
(1) سورة الجاثية الآية 21
(2)
سورة ص الآية 28
بل إن الله لم يسو بين الطائفتين من المؤمنين حيث فضل بعضهم على بعض بحسب الإيمان والعمل الذي قدموه، حيث يقول سبحانه:{لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى} (1) الآية.
فإذا كان سبحانه لم يسو بين المؤمنين بل فضل بعضهم على بعض بحسب العمل الذي قدموه فكيف يسوي بين المؤمنين والفساق (3).
وقد ناقشهم الملطي رحمه الله وألزمهم الحجة حيث قال:
أخبرونا عن قوله تعالى: {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} (4) الآية، وقوله تعالى:{أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ أَنْ يَسْبِقُونَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} (5). أهذا شيء قاله على حقيقة القول أم على المجاز؟ فإن قالوا: على المجاز، جعلوا إخبار الله عن وعده على المجاز وهذا كفر ممن قاله؛ لأن أحدا لا يتيقن حينئذ بخبره إذا لم يكن له حقيقة وصحة، وإن قالوا على الحقيقة، قيل لهم: أخبر الله عز وجل أنه
(1) سورة الحديد الآية 10
(2)
سورة النساء الآية 95
(3)
انظر: الشريعة للآجري صـ 147.
(4)
سورة الجاثية الآية 21
(5)
سورة العنكبوت الآية 4
لا يستوي عنده الولي والعدو. ويقال لهم: أخبرونا عمن زنى وأتى شيئا من الكبائر، أترون عليه توبة أم لا؟ فإن قالوا: لا، بان جهلهم، وإن قالوا: نعم، قيل لهم: لأي شيء يتوب؟ فإن قالوا: يقبل الله توبته ويغفر ذنبه، تركوا قولهم وجعلوا لأهل المعاصي توبة وغفرانا مما اجترموا، وإن قالوا: لا يحتاجون إلى غفران ولا توبة عليهم: خرجوا من دين الإسلام وخالفوا الجماعة (1).
ثانيا: كما يلزم من قولهم فتح الباب للمجرمين والفساق للتمادي في فسقهم وضلالهم؛ لأن المجرم أو الفاسق إذا علم بأن جريمته أو فسقه لن يضره فلن يتركه.
ثالثا: كما يلزم أيضا بطلان التكليف بالفروع جملة، وضياع آيات الوعيد هباء، وصيرورتها كذبا وخداعا، تعالى الله عن ذلك (2). ولا شك أن هذا كله باطل. وإذا كان كذلك فما يستلزمه مثله. وعليه فالقول بأن مرتكب الكبيرة لا يدخل النار مطلقا باطل. والله أعلم.
(1) التنبيه والرد على أهل الأهواء والبدع للملطى صـ 45.
(2)
انظر: المختار من كنوز السنة لعبد الله دراز صـ 62 - 63.