الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
(ب) الحقوق غير المجردة:
وهي الحقوق التي لها تعلق بمحلها تعلق استقرار، وذلك بأن يكون لتعلقها أثر أو حكم قائم في محله يزول بالتنازل عنه، مثل حق القصاص، فإنه يتعلق برقبة القاتل ودمه، ومع قيامه وتعلقه يكون غير معصوم الدم بالنسبة لولي القصاص، وبالتنازل عن القصاص يصير معصوم الدم (1).
(1) الملكية للخفيف صـ 9.
ثالثا: حقوق تقبل الإسقاط وحقوق لا تقبل الإسقاط:
قال ابن نجيم في الأشباه والنظائر: " لو قال الوارث: تركت حقي، لم يبطل حقه، إذ الملك لا يبطل بالترك، والحق يبطل به، حتى لو أن أحدا من الغانمين قال قبل القسمة: تركت حقي، بطل حقه، وكذا لو قال المرتهن: تركت حقي في حبس الرهن بطل حقه "(1).
وواضح من هذا أن الحق بالمعنى العام الذي يعني الملك لا يقبل الإسقاط، إذ الأعيان لا تقبل الإسقاط، وإلا فإن الحقوق على نوعين منها ما يسقط بالإسقاط ومنها ما لا يسقط به:
(أ) الحقوق التي تقبل الإسقاط:
ظاهر مما تقدم أن كل حق يسقط بالإسقاط، وهو ظاهر ما في الفتاوى الخانية عند الحنفية حيث قال: رجل له مسيل ماء في دار غيره فباع صاحب الدار داره مع المسيل ورضي صاحب المسيل، كان لصاحب المسيل
(1) الأشباه والنظائر، لابن نجيم صـ 316.
أن يضرب بذلك في الثمن، وإن كان له حق إجراء الماء دون الرقبة لا شيء له من الثمن ولا سبيل له على المسيل بعد ذلك، كرجل أوصى لرجل بسكنى داره فمات الموصي وباع الوارث الدار ورضي به الموصى له جاز البيع وبطلت سكناه ولو لم يبع صاحب الدار داره، لكن قال صاحب المسيل: أبطلت حقي في المسيل، فإن كان له حق إجراء الماء دون الرقبة، بطل حقه قياسا على حق السكنى، وإن كان له رقبة المسيل لا يبطل ذلك بالإبطال.
ومن الحقوق التي تقبل الإسقاط حق الشفعة (1)، وحق خيار المجلس، وحق خيار الشرط (2)، وحق خيار العيب (3)، وحق الموصى له وحق الوارث قبل القسمة - على خلاف بين الفقهاء - ومنها الدين، يسقط بالإبراء، ومنها حق القصاص يسقط بالعفو، ومنها حق القسم للزوجة يسقط بإسقاطها، وإن كان لها الرجوع في المستقبل.
يقول الشاطبي: " وأما ما كان من حق العبد في نفسه فله فيه الخيرة، فهناك يتمحض حق العبد، فإن شاء استوفاه وإن شاء تركه "، ثم يقول: " وأما
(1) الشفعة هي: حق تملك العقار المبيع، ولو جبرا، على المشتري، بما قام عليه من الثمن والمئون.
(2)
خيار الشرط هو: ما يشترط في صلب العقد أو بعده لأحد العاقدين أو كليهما، من إمضاء العقد أو فسخه.
(3)
خيار العيب هو: حق المشتري في فسخ العقد إذا ظهر في المبيع عيب ينقص ثمنه عادة.
ما هو للعبد فللعبد فيه الاختيار، من حيث جعل الله تعالى له ذلك، لا من جهة أنه مستقل بالاختيار، وقد ظهر بما تقدم آنفا: تخيير العبد فيما هو حقه على الجملة، ويكفيك من ذلك اختياره في أنواع المتناولات من المأكولات والمشروبات والملبوسات وغيرها مما هو حلال له، وفي أنواع البيوع والمعاملات والمطالبات بالحقوق، فله إسقاطها وله الاعتياض عنها والتصرف فيما بيده من غير حجر عليه إذا كان تصرفه على ما ألف من محاسن العادات، وإنما الشأن كله في فهم الفرق بين ما هو حق لله تعالى وما هو حق للعباد " (1).
(ب) حقوق لا تقبل الإسقاط:
تقدم فيما سبق أن الأصل في الحقوق أنها تقبل الإسقاط، ولكن هناك حقوق أخرى لا تقبل الإسقاط لمانع من الموانع، وقد ذكر ابن نجيم ضابطين لذلك:
أولهما: أن يكون الحق من حقوق الله تعالى، فهذه لا تقبل الإسقاط من العبد، فلو عفا المقذوف ثم عاد وطلب إقامة الحد على القاذف حد القاذف، لكن لا يقام الحد بعد عفوه لفقد الطلب.
ثانيهما: أن يكون الحق فيما ليس بلازم من العقود، فلا يتصف بالإسقاط، كالوكالة والعارية وقبول الوديعة.
ثم ذكر بعد ذلك مسائل وقع الاشتباه فيها، منها: الواقف إذا اشترط
(1) الموافقات في أصول الشريعة، لأبي إسحاق الشاطبي: 2/ 171 وما بعدها.
لنفسه شرطا في أصل الوقوف، كشرط الإدخال والإخراج والزيادة والنقصان والاستبدال (1)، فأسقط حقه من هذا الشرط (2).
وقد صنف بعض الباحثين الحقوق التي لا تقبل الإسقاط، ووضع لها ضوابط أربعة كالآتي:
(أ) حقوق لا تقبل الإسقاط لأنها لم تجب بعد، مثل إسقاط الزوجة نفقتها المستقبلة التي لم يدخل وقتها، ومثل إسقاط حق خيار الرؤية قبل الرؤية، لأن الحق نفسه لم يوجد عند الإسقاط.
(ب) حقوق لا تسقط لأن الشارع اعتبرها وصفا ذاتيا لصاحبها لازما له، لا ينفك عنه، مثل: إسقاط الأب والجد حقهما في الولاية على الصغير.
(ج) حقوق لا تسقط لأن الإسقاط فيه تغيير للأوضاع الشرعية، مثل إسقاط الواهب حقه في الرجوع عن الهبة، إذ في إسقاطه تغيير لحكم الشرع.
(د) حقوق لا تسقط لأن للغير حقا فيها، مثل إسقاط الحاضنة حقها في الحضانة، ومثل إسقاط المقذوف حقه في حد القذف - على خلاف بين الفقهاء - فإن شيئا من هذا لا يسقط بالإسقاط؛ لأن للصغير المحضون حقا في الحضانة وهو مقدم، ولأن لله تعالى حقا في وجوب الحدود، وحقه تعالى مغلب على حق العبد، فيقدم حق الله تعالى مراعاة للحق الأغلب (3).
(1) هذه بعض الشروط العشرة في الوقف، وللتفصيل انظر: الوقف من الناحية الفقهية والتطبيقية صـ 48 - 50.
(2)
انظر: الأشباه والنظائر، لابن نجيم صـ 317.
(3)
الفقه الإسلامي للدكتور محمد مدكور صـ 176 - 177، وانظر: الموافقات: 2/ 315 - 318.