الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ثانيا: ((عدد النفخات والأثر المترتب على ذلك))
لكل شي بداية ونهاية، والدنيا بأكملها وبكل ما فيها خاضعة لهذه الحقيقة المؤكدة، وقد أوشك عمر الدنيا على الانتهاء لتبدأ الدار الآخرة، ففي يوم الجمعة - والله أعلم بذلك اليوم متى يكون - تودع الدنيا وتستقبل الآخرة وذلك بصوت مفزع والناس في غفلة معرضون. قال تعالى:{اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ} (1).
عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «خير يوم طلعت عليه الشمس يوم الجمعة فيه خلق آدم وفيه أدخل الجنة وفيه أخرج منها، ولا تقوم الساعة إلا في يوم الجمعة (2)» . ينفخ إسرافيل عليه السلام في الصور فيفزع من في السماوات ومن في الأرض من شدة الصوت - إلا من شاء الله - ومما يرى الناس مما حصل لمخلوقات الله تعالى من الخراب والدمار والأهوال المفجعة فيموتون، وتتغير أحوال الدنيا بأحوال أخرى ولا يبقى أحد حي إلا الله الواحد القهار كما كان أولا كان آخرا، ثم يأمر سبحانه فينفخ في الصور أخرى فتحيا المخلوقات، ويكون فصل القضاء. وسنرى إن شاء الله تعالى ما جاء في النفخ من آيات وأحاديث.
قال الله تعالى {وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ} (3).
(1) سورة الأنبياء الآية 1
(2)
رواه مسلم في صحيحه (كتاب الجمعة) 18، حديث 854.
(3)
سورة النمل الآية 87
هاتان آيتان جاءتا في كتاب الله تعالى تبين عدد النفخات في الصور، ففي الآية الأولى يخبر تعالى أنه عند النفخ في الصور النفخة الأولى يفزع من في السماوات ومن في الأرض. والفزع:((هو الخوف)) (2).
وفي الآية الثانية بعد النفخ في الصور يصعق من في السماوات ومن في الأرض. والصعق: ((أن يغشى على الإنسان من صوت شديد يسمعه وربما مات منه، ثم استعمل في الموت كثيرا)) (3). قال القرطبي في كلامه على آية الزمر: ((فاستثنى في نفخة الفزع فدل على أنهما واحدة)). ومن معرفة المعنى للصعق يجعله شاملا لمعنى الفزع، وعلى هذا يكون عدد النفخات اثنتين لا ثلاثا مما يضعف رأي من ذهب من العلماء إلى أن عدد النفحات ثلاث، حيث لا حجة لهم إلا الآية التي في سورة النمل والتي ذكرناها آنفا، أو بحديث الصور، وحديث الصور لا يصح ضعفه العلماء (4) ولا أعرف دليلا صحيحا يعزز قولهم من كتاب ولا سنة.
وقال الله تعالى: {يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ} (5){تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ} (6) وقال ابن
(1) سورة الزمر الآية 68
(2)
النهاية في غريب الحديث والأثر 3/ 443.
(3)
النهاية في غريب الحديث والأثر 3/ 31، 32.
(4)
انظر فتح الباري 11/ 369.
(5)
سورة النازعات الآية 6
(6)
سورة النازعات الآية 7
عباس ومجاهد والحسن وقتادة: ((وأما الثانية فتحيي كل شيء بإذن الله تعالى)) (1).
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما بين النفختين أربعون. قالوا: يا أبا هريرة أربعون يوما؟ قال أبيت. قالوا: أربعون شهرا؟ قال: أبيت. قالوا: أربعون سنة؟ قال أبيت (3). قال: وليس من الإنسان شيء إلا يبلى إلا عظما واحدا وهو عجب الذنب، ومنه يركب الخلق يوم القيامة» .
وعن يعقوب بن عاصم بن عروة بن مسعود الثقفي قال: سمعت عبد الله بن عمرو وجاءه رجل فقال: ما هذا الحديث الذي تحدث به؟ تقول: إن الساعة تقوم إلى كذا وكذا. فقال: سبحان الله، أو لا إله إلا الله، أو كلمة نحوها. لقد هممت أن لا أحدث أحدا شيئا أبدا، إنما قلت: إنكم سترون بعد قليل أمرا عظيما، يحرق البيت ويكون ويكون، ثم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يخرج الدجال في أمتي فيمكث أربعين - لا أدري:
(1) الجامع لأحكام القرآن 19/ 195.
(2)
رواه مسلم في صحيحه كتاب الفتن وأشراط الساعة باب 28 حديث 2955 واللفظ له ورواه البخاري في صحيحه كتاب التفسير حديث 481.
(3)
(2) ثم ينزل الله من السماء ماء فينبتون كما ينبت البقل البقل: نبات عشبي يتغذى الإنسان به أو بجزء منه دون تحويله صناعيا. المعجم الوسيط 1/ 66.
أربعين يوما أو أربعين شهرا أو أربعين عاما -، فيبعث الله عيسى ابن مريم كأنه عروة بن مسعود، فيطلبه فيهلكه، ثم يمكث الناس سبع سنين، ليس بين اثنين عداوة، ثم يرسل الله ريحا باردة من قبل الشام، فلا يبقى على وجه الأرض أحد في قلبه مثقال ذرة من خير أو إيمان إلا قبضته، حتى لو أن أحدكم دخل في كبد جبل لدخلته عليه حتى تقبضه فيبقى شرار الناس في خفة الطير وأحلام السباع. قال: وأول من يسمعه رجل يلوط حوض إبله. قال: فيصعق ويصعق الناس، ثم يرسل الله - أو قال ينزل الله - مطرا كأنه الطل أو الظل (4)». في هذين الحديثين بيان على أن النفخات اثنتان لا ثلاث، ففي الحديث الأول يقول
(1) المراد بالساق: ساق حقيقية لله عز وجل، ولكن لا يشبهها شيء. وهذا معتقد أهل السنة والجماعة في إثبات جميع صفات الرب سبحانه وتعالى على ما جاء في الكتاب والسنة دون تشبيه ولا تعطيل ولا تكييف ولا تمثيل ولا تحريف. عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: يكشف ربنا عن ساقه فيسجد له كل مؤمن ومؤمنة ويبقى من كان يسجد في الدنيا رئاء وسمعة فيذهب ليسجد فيعود ظهره طبقا واحدا. انظر صحيح البخاري كتاب التفسير حديث 4919، وانظر كتاب التوحيد أيضا حديث 7439، وانظر صحيح مسلم كتاب الإيمان 302، حديث 183، وانظر المستدرك للحاكم 4/ 582، 583. - رواه مسلم كتاب الفتن باب 116، حديث 2940، والإمام أحمد في المسند 2/ 166. وانظر تحقيق أحمد محمد شاكر جزء 10 حديث 6555.
(2)
(1)، لا يعرفون معروفا ولا ينكرون منكرا، فيتمثل لهم الشيطان فيقول: ألا تستجيبون؟ فيقولون: فما تأمرنا؟ فيأمرهم بعبادة الأوثان وهم في ذلك دار رزقهم، حسن عيشهم، ثم ينفخ في الصور فلا يسمعه أحد إلا أصغى ليتا ورفع ليتا
(3)
يلوط حوض إبله: أي يطينه ويصلحه. (2)
(4)
(3)(نعمان الشاك) فتنبت منه أجساد الناس، ثم ينفخ فيه أخرى فإذا هم قيام ينظرون. ثم يقال: يا أيها الناس: هلم إلى ربكم، وقفوهم إنهم مسئولون. قال: ثم يقال: أخرجوا بعث النار، فيقال من كم؟ فيقال: من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعين. قال: فذاك يوم يجعل الوالدان شيبا وذلك يوم يكشف عن ساق
رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما بين النفختين أربعون (1)» وهذا يشعر بنفختين فقط، وفي الحديث الثاني: يقول صلى الله عليه وسلم: «ثم ينفخ في الصور فلا يسمعه أحد إلا أصغى ليتا ورفع ليتا، وأول من يسمعه رجل يلوط حوض إبله. قال: فيصعق ويصعق الناس، ثم يرسل الله - أو قال ينزل الله - مطرا كأنه الطل أو الظل (نعمان الشاك) فتنبت منه أجساد الناس، ثم ينفخ فيه أخرى فإذا هم قيام ينظرون (2)» وهذا بيان آخر بأن النفخات اثنتان. وقد تكلم القرطبي عن ذلك وقرر أن النفخات اثنتان (3)، وكذلك ابن حجر العسقلاني، ورد على من قال بأن النفخات ثلاث أو أربع، وقرر المسألة (4). وأقتصر على الإحالة خشية الإطالة بذكر ذلك. والله أعلم.
وأما من استثنى الله تعالى من الصعق بعد النفخ في الصور فقد أول العلماء - رحمهم الله تعالى - ذلك دون دليل قطعي، وقد كفانا شيخ الإسلام أحمد بن تيمية - رحمه الله تعالى - القول في هذه المسألة فقال:
((وأما الاستثناء فهو متناول لمن في الجنة من الحور العين، فإن الجنة
(1) صحيح البخاري كتاب تفسير القرآن (4935)، صحيح مسلم الفتن وأشراط الساعة (2955)، سنن النسائي الجنائز (2077)، سنن أبو داود السنة (4743)، سنن ابن ماجه الزهد (4266)، مسند أحمد بن حنبل (2/ 315)، موطأ مالك الجنائز (565).
(2)
صحيح مسلم الفتن وأشراط الساعة (2940)، مسند أحمد بن حنبل (2/ 166).
(3)
انظر التذكرة في أحوال الموتى وأمور الآخرة ـ دار الكتب العلمية بيروت. ص226، 238.
(4)
انظر فتح الباري شرح صحيح البخاري 11/ 368، 369، 370.
ليس فيها موت، ومتناول لغيرهم. ولا يمكن الجزم بكل من استثناه الله، فإن الله أطلق في كتابه. وقد ثبت في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«إن الناس يصعقون يوم القيامة، فأكون أول من يفيق، فأجد موسى آخذا بساق العرش، فلا أدري هل أفاق قبلي أم كان ممن استثناه الله (1)» ? وهذه الصعقة قيل إنها رابعة وقيل إنها من المذكورات في القرآن.
وبكل حال: النبي صلى الله عليه وسلم قد توقف في موسى، وهل هو داخل في الاستثناء فيمن استثناه الله أم لا؟ فإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم لم يخبر بكل من استثنى الله لم يمكنا نحن أن نجزم بذلك، وصار هذا مثل العلم بوقت الساعة وأعيان الأنبياء، وأمثال ذلك مما لم يخبر به، وهذا العلم لا ينال إلا بالخبر. والله أعلم وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم (2).
(1) رواه البخاري في صحيحه كتاب الأنبياء حديث 3408.
(2)
مجموع الفتاوى، شيخ الإسلام أحمد بن تيمية 4/ 261.