الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
سادسا: " الوقوف على أرض المحشر
"
الوقوف للحساب حقيقة يجب الإيمان بها، وذلك بجمع الخلائق على اختلافهم في صعيد واحد {فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ} (1) {فَإِذَا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ} (2) أي على أرض المحشر. قال الله تعالى:{وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا} (3). يأتي الخلائق من كل حدب وصوب من الأرض للموقف، والملائكة يتنزلون من السماء لهذا الأمر، فعن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قرأ {وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ وَنُزِّلَ الْمَلَائِكَةُ تَنْزِيلًا} (4) قال تشقق سماء الدنيا، وتنزل الملائكة على كل سماء، وهم أكثر ممن في الأرض من الجن والإنس، فيقول أهل الأرض: أفيكم ربنا، فيقولون: لا، ثم ينزل أهل السماء الثانية وسماء الدنيا وأهل الأرض، فيقولون: أفيكم ربنا؟ فيقولون: لا. ثم ينزل أهل السماء الرابعة وهم أكثر من أهل السماء الثالثة والثانية والدنيا وأهل الأرض، فيقولون: أفيكم ربنا؟ فيقولون: لا. ثم ينزل أهل السماء الخامسة وهم أكثر من أهل السماء الرابعة والثالثة والثانية والدنيا وأهل الأرض فيقولون: أفيكم ربنا؟ فيقولون: لا، ثم ينزل أهل السماء السادسة وهم أكثر من أهل السماء الخامسة والرابعة والثالثة والثانية والدنيا وأهل الأرض فيقولون: أفيكم ربنا؟ فيقولون: لا، ثم ينزل أهل السماء السابعة وهم أكثر من أهل السادسة والخامسة والرابعة والثالثة والثانية
(1) سورة النازعات الآية 13
(2)
سورة النازعات الآية 14
(3)
سورة الكهف الآية 47
(4)
سورة الفرقان الآية 25
والدنيا وأهل الأرض فيقولون: أفيكم ربنا؟ فيقولون: لا، ثم ينزل الكروبيون وهم أكثر من أهل السماوات السبع والأرضين وحملة العرش، لهم قرون كعوب (1) ككعوب القنا (2) ما بين قدم أحدهم كذا وكذا، ومن أخمص قدمه إلى كعبه مسيرة خمسمائة عام، ومن كعبه إلى ركبته مسيرة خمسمائة، ومن ركبته إلى أرنبته (3) مسيرة خمسمائة عام، ومن ترقوته إلى موضع القرط مسيرة خمسمائة عام تقف الخلائق على أرض المحشر ينتظرون وصول الرب الكريم لفصل القضاء بينهم، ليذهب كل إلى داره وما أعده الله له في ذلك، قال تعالى:{يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} (4).
قال ابن كثير - رحمه الله تعالى -: (يقومون حفاة عراة غرلا في موقف صعب حرج ضيق ضنك على المجرم، يغشاهم من أمر الله ما تعجز القوى والحواس عنه)(5).
(1) كعوب: كل شيء علا وارتفع فهو كعب. انظر: النهاية في غريب الحديث والأثر 4/ 179.
(2)
القنا: جمع قناة وهي الرمح. انظر النهاية في غريب الحديث 5/ 117.
(3)
أرنبته: الأرنبة طرف الأنف وجمعها الأرانب. لسان العرب مادة أرنب 1/ 435.
(4)
سورة المطففين الآية 6
(5)
تفسير القرآن العظيم 4/ 761.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: «أتي رسول الله صلى الله عليه وسلم بلحم فرفع إليه الذراع فأكله وكانت تعجبه فنهس منها نهسة ثم قال: أنا سيد الناس يوم القيامة، وهل تدرون مم ذلك؟ يجمع الله الناس الأولين والآخرين في صعيد واحد، يسمعهم الداعي، وينفذهم البصر، وتدنو الشمس منهم، فيبلغ الناس من الغم والكرب ما لا يطيقون ولا يحتملون (2)» . وعن ابن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «يجمع الله الأولين والآخرين لميقات يوم معلوم أربعين سنة شاخصة أبصارهم إلى السماء، ينتظرون فصل القضاء وينزل الله في ظلل من الغمام من العرش إلى الكرسي (3)» . إنهم لا يستطيعون في الأرض هربا، ولا يجدون من القول جدلا، استسلموا لما في الدنيا، قد وعدوا وما في ساعتهم قد وجدوا {يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ فَانْفُذُوا لا تَنْفُذُونَ إِلا بِسُلْطَانٍ} (4).
قال ابن كثير - رحمه الله تعالى -: " أي لا يستطيعون هربا من أمر الله وقدره بل هو محيط بكم لا تقدرون على التخلص من حكمه، ولا النفوذ عن حكمه فيكم، أينما ذهبتم أحيط بكم، وهذا في مقام الحشر، الملائكة محدقة بالخلائق سبع صفوف من كل جانب، فلا يقدر أحد على الذهاب {إِلَّا بِسُلْطَانٍ} (5) أي بأمر الله {يَقُولُ الْإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ} (6) {كَلَّا لَا وَزَرَ} (7) {إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ} (8) "(9).
(1) رواه البخاري في كتاب التفسير سورة بني إسرائيل، باب 5، حديث 4712، ومسلم كتاب الإيمان، باب 84، حديث 194، والترمذي كتاب صفة القيامة، باب 10، حديث 2434.
(2)
نهس: النهس أخذ اللحم بأطراف الأسنان. والنهش: الأخذ بجميعها. النهاية في غريب الحديث 5/ 136. (1)
(3)
رواه ابن منده، وقال الذهبي: إسناده حسن. انظر معارج القبول بشرح سلم الوصول إلى علم الأصول في التوحيد 1/ 265.
(4)
سورة الرحمن الآية 33
(5)
سورة الرحمن الآية 33
(6)
سورة القيامة الآية 10
(7)
سورة القيامة الآية 11
(8)
سورة القيامة الآية 12
(9)
تفسير القرآن العظيم لابن كثير 4/ 427.
قال الحكمي -رحمه الله تعالى- (1):
ويجمع الخلق ليوم الفصل
…
جميعهم علويهم والسفلي
في موقف يجل فيه الخطب
…
ويعظم الهول به والكرب
وأحضروا للعرض والحساب
…
وانقطعت علائق الأنساب
وارتكمت سحائب الأهوال
…
وانعجم البليغ في المقال
وعنت الوجوه للقيوم
…
واقتص من ذي الظلم للمظلوم
كلهم في الموقف على حسب أعمالهم، لا على حسب ما كانوا عليه من الملك والسلطان والغنى والجاه، ذهبت الدنيا وما فيها، نزع الملك عن ملوك الأرض، وذهب الكبر والتجبر، كل يتطلع إلى ما سيكون من أمره، وما هم فيه من الهول العظيم والفزع الأكبر، والجن والملائكة والوحوش والدواب والطير، كل المخلوقات في الأمر سواء، ينتظرون ماذا سيحل بهم.
ولكن يا لهول مطلع الشمس التي تقترب من الرءوس؛ لتميز الخبيث من الطيب بإذاقته، وإلجامه بالعرق.
عن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم {يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} (2) قال: «يوم يقوم أحدهم في رشحه إلى أنصاف أذنيه (3)» . فمن شدة حرارة الشمس لدنوها من الخلائق وكثرة الخلائق يكثر العرق وحتى يذهب في الأرض سبعين ذراعا. عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «يعرق الناس يوم القيامة حتى يذهب عرقهم في الأرض سبعين
(1) معارج القبول بشرح سلم الوصول إلى علم الأصول 1/ 239، 247، 251.
(2)
سورة المطففين الآية 6
(3)
رواه البخاري في صحيحه كتاب الرقاق، باب 47، حديث 6531، ورواه مسلم في صحيحه كتاب الجنة وصفة نعيمها (15) صفة يوم القيامة، حديث 2862، ورواه الإمام أحمد في المسند حديث 5823 تحقيق أحمد محمد شاكر.
ذراعا (2)». وفي رواية عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن العرق يوم القيامة ليذهب في الأرض سبعين باعا وإنه ليبلغ إلى أفواه الناس، أو إلى آذانهم (4)» يشك ثور أيهما قال، وفي هذا الحديث دلالة على أن العرق يذهب في الأرض أكثر من سبعين ذراعا، كما جاء في الحديث السابق، وذلك لكثرته، ولدنو الشمس، ولغلبة عدد الكفار على عدد المسلمين، قال الشيخ أبو محمد بن أبي جمرة: " ظاهر الحديث تعميم للناس بذلك، ولكن دلت الأحاديث الأخرى على أنه مخصوص بالبعض وهم الأكثر، ويستثنى الأنبياء والشهداء ومن شاء الله، فأشدهم في العرق الكفار، ثم أصحاب الكبائر، ثم من بعدهم، والمسلمون منهم قليل بالنسبة للكفار.
وعن المقداد بن الأسود قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «تدنى الشمس يوم القيامة من الخلق حتى تكون منهم كمقدار ميل. قال سليم: فوالله ما أدري ما يعني بالميل؟ أمسافة الأرض أم الميل الذي تكتحل به العين. قال: فيكون الناس على قدر أعمالهم في العرق، فمنهم من يكون
(1) رواه البخاري في صحيحه كتاب الرقاق، باب 47، حديث 6532.
(2)
(1)، ويلجمهم حتى يبلغ آذانهم
(3)
رواه مسلم في صحيحه كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها 61، حديث 2863.
(4)
باع: الباع والبوع والبوع: مسافة ما بين الكفين إذا بسطتهما. لسان العرب مادة (بوع) 8/ 21. (3)
إلى كعبيه، ومنهم من يكون إلى ركبتيه، ومنهم من يكون إلى حقويه، ومنهم من يلجمه العرق إلجاما. قال: وأشار رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى فيه (1)».
وليس المراد أن أهل الحشر يقعون جميعا في العرق ويلجمهم ذلك، بل كل على قدر عمله في الدنيا، وما جاء في حديث ابن عمر وأبي هريرة رضي الله عنهما مجمل، فصله حديث المقداد بن الأسود رضي الله عنه المتقدم، وهناك من لم يقع له شيء، ولم يتأثر بشيء من حرارة الشمس لحفظ الله تعالى له بسبب منهجه الحسن في دنياه.
عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «سبعة يظلهم الله يوم القيامة في ظله يوم لا ظل إلا ظله: إمام عادل، وشاب نشأ في عبادة الله، ورجل قلبه معلق في المساجد، ورجلان تحابا في الله اجتمعا عليه وتفرقا عليه، ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال: إني أخاف الله، ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه، ورجل ذكر الله خاليا ففاضت عيناه (2)» .
فهؤلاء أصناف سبعة من الناس يقيهم الله شر ذلك اليوم العظيم وأهوآله، وذلك بظلهم في ظل عرشه سبحانه وتعالى يوم لا ملجأ من شر ذلك اليوم وأهوآله إلا من تعامل مع الله، وتاجر معه بالأعمال الصالحة والقربات الصادقة، فأمنه سبحانه وتعالى في ذلك الموقف، فالمؤمنون يخفف الله عليهم ذلك الموقف ويحاسبون حسابا يسيرا.
(1) رواه مسلم في صحيحه كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها، 62، حديث 2864.
(2)
رواه البخاري في صحيحه كتاب الزكاة، باب 16، حديث 1423، ورواه مسلم في صحيحه كتاب الزكاة 91، ورواه الترمذي في كتاب الزهد باب 53، والنسائي كتاب القضاة 2، وموطأ مالك كتاب الشعر 4، ومسند أحمد 2/ 439.