الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
يدفعها حتى كسدت أو انقطعت عن التعامل أو رخصت أو غلت فعليه قيمتها من الدراهم يوم البيع (1).
(1) الإسلام والنقود. د. رفيق المصري / 92.
النتيجة:
بعد هذا العرض السريع لآراء الفقهاء يمكنني أن أقول أنه لا مانع من التعويض عن تغير قيمة النقود الاصطلاحية بتقديرها بالذهب، وبالرغم مما قدمت من أن الذهب أيضا يعتريه التغير أحيانا تبعا لكميته في السوق ولكنه تغير نسبي ولما كان لا بد من مقياس تقاس به قيم النقود الاصطلاحية فإنه لا يوجد إلى اليوم ما يقوم مقام الذهب في هذه الوظيفة.
فمن ترتب عليه حق مالي بأي سبب كان ثم تعرض النقد الثابت في ذمته إلى الرخص والغلاء قدرت قيمته يوم وجوبه بالذهب وأدى القيمة إلى الدائن وهو ما قرره ابن عابدين والصاحبان من الحنفية، وقبل المضي في آثار هذا الحكم يجب التنبه إلى أنه لا يتناول تغير القوة الشرائية لرأس مال المضاربة بيد العامل لأن رأس المال هنا ملك لصاحبه ولا يضمن العامل هلاكه فضلا عن تغير قيمته، ويثور هنا السؤال التالي: ألا يترتب على هذه النتيجة الوقوع في الربا؟.
لقد استقر أخيرا أن النقد الورقي المعاصر جنس مستقل ليس بذهب ولا فضة ولا فلوسا، بل هو نقد اصطلاحي تعارفه الناس فإذا ترتب لشخص في ذمة آخر مبلغ من المال فارتفعت قيمتها أو انخفضت فحكمنا برد المبلغ مقوما بالذهب يوم الأجل فكان المبلغ المحكوم به أكبر من كمية القرض الأول فهل يعد ذلك من التعامل بالربا.
لا شك أنه لو أخذ من جنس دينه فهو الربا المحض، ولكن القائلين برد القيمة أوجبوا الرد بتقويم القرض بالذهب ويدفع للدائن من غير جنس دينه.
فإذا كان على شخص مبلغ من النقود ثمنا في الذمة لمبيع مؤجل أو قرضا حسنا لم يشترط فيه زيادة عند العقد وقبل تسليمه تغيرت قيمته سلبيا أو إيجابيا في مقابلة الذهب باعتباره المقياس الوحيد الثابت نسبيا، وباعتبار أن تغير القوة الشرائية للنقود هي الوجه المقابل لتغير قيمتها تجاه الذهب والفضة ولولا افتقارنا إلى مقياس ثابت وهو الذهب وقلنا بثباته نسبيا لما عثرنا على مقياس إلى الأبد فتغير قيمة النقد تجاه الذهب وتغير قوته الشرائية هما وجهان لعملة واحدة. والله أعلم بالصواب.
تصوير المسألة:
عندما يسدد رجل مبلغا من المال إلى دائنه من غير جنس الدين وكان المبلغ المسدد أكبر في القيمة من المبلغ الأصلي بعد التقويم بالذهب أو الفضة فهل هنا عملية ربوية؟.
وسأحاول إيجاد الجواب عند الفقهاء باعتبار أن العملية صارت عقد صرف حضر فيه أحد العوضين وغاب الآخر الثابت في الذمة وكان حال الأجل. وهذا هو المنطلق إلى إيجاد حكم المسألة عند الفقهاء، فإذا كنت مخطئا في صورة المسألة فأستغفر الله من النسبة للفقهاء ما لم يقولوه. وأسأله سبحانه الثواب على حسن النية والله المستعان.
إننا إذا اعتبرنا النقد الورقي جنسا مستقلا وكان في ذمة رجل مبلغ من المال حل أجله وقد اختلفت قيمته وطلب الدائن إعطاءه قيمة دينه بالذهب فهل هذه العملية ربوية؟.
وبالطبع فإن الشافعية لا مشكلة لديهم بعد أن قرروا أن علة الربا في
النقدين قاصرة لا تتعدى لغيرها ولا يرون في الفلوس وإن راجت ما يوجب القول بربويتها وكذلك النقد الورقي المعاصر باعتباره جنسا مستقلا عن كل النقود الأخرى.
أما الحنفية فقد رأينا الصاحبين منهم يجيزون رد القيمة في الغلاء والرخص والكساد والانقطاع وهما أشد ورعا واحتياطا لدينهما من الوقوع في تجويز صورة ربوية وهم من الجيل الذي قال فيه أحدهم: تركنا تسعة أعشار الحلال مخافة الوقوع في الحرام.
وفي كتب الحنفية مشابهة لمسألتنا قال في المبسوط: (وإذا اشترى ألف درهم بمائة دينار فنقد الدنانير وقال الآخر اجعل الدراهم قصاصا بالدراهم التي لي عليك فهو جائز وإن أبى لم يجبر ولم يكن قصاصا، والحاصل أن المقصة ببدل الصرف بدين سبق وجوبه على عقد الصرف يجوز عندنا استحسانا والقياس ألا يجوز وهو قول زفر (1).
ولنفصل قليلا مذهب المالكية والحنابلة في هذا الأمر.
رأي المالكية:
قال في المدونة: (قلت أرأيت لو أن لي على رجل دراهم دينا من قرض أو من بيع إلى أجل فأخذت بها منه دنانير نقدا أيجوز هذا في قول مالك أم لا؟ قال: لا يجوز هذا ولا يحل، وهو من بيع الدراهم إلى أجل بالدنانير نقدا، أما لو كانت حالة لم ير به بأسا (2) وهذا يعني أن الدين المترتب على شخص إذا حل أجله يجوز استرداده بقيمته من الذهب. بل وجد في المذهب من قال بجواز التصرف بما في الذمة كالمسكوك والدين الحال فإذا قوم البدل الغائب من
(1) المبسوط 14/ 19.
(2)
المدونة 3/ 419 دار صادر.
المسكوك والدين الحال والمغصوب جاز أن يدفع عنه دراهم (1) وعزا الدسوقي هذه الرواية لمحمد بن المواز الذي روى جواز الصرف بالمرهون أو المودع المسكوك الغائب عن مجلس العقد لحصول المناجزة بالقول (2) ولكن هذه الرواية ضعفها خليل ورجح خلافها، ولكن الشيخ عليش رجح رواية ابن المواز قائلا:(ومفهوم أن صيغ أنه كان مسكوكا أو تبرا ونحوهما مما لا يعرف بعينه فيجوز صرفه غائبا على المشهور، قاله ابن الحاجب لترتب مثله في ذمة غاصبه بمجرد غصبه حالا وصرف ما في الذمة الحال جائز وهذا على أن الدراهم والدنانير لا تتعين بالتعيين (3).
وقال ابن عبد البر في الكافي: (كما كره صرف الفلوس بالعين الذهب والورق نسيئة فإذا حل الأجل فلا بأس أن يأخذ من الورق الذهب وبالعكس بصرف اليوم وبما شاء ثم لا يفترقان وبينهما عمل فيما تصارفا فيه (4) ولا فرق بين صورتنا التي نحن بصددها وبين هذه الصورة.
وقد لخص ابن رشد جملة الخلاف في نحو مسألتنا فقال: (ومن هذا الباب اختلافهم في الرجل يكون له على الرجل دراهم إلى أجل هل يأخذ فيها إذا حل الأجل ذهبا أو العكس؟. فذهب مالك إلى جواز ذلك إذا كان القبض قبل الافتراق وهو قول أبي حنيفة وإن لم يحل الأجل. ولم يجز ذلك جماعة من العلماء حل الأجل أو لم يحل وهو قول ابن عباس وابن مسعود وحجة المجيزين حديث ابن عمر عندما كان يبيع الإبل بالبقيع (5).
(1) الشرح الصغير 4/ 63.
(2)
حاشية الدسوقي 3/ 31.
(3)
منح الجليل 2/ 511.
(4)
الكافي لابن عبد البر 2/ 643.
(5)
بداية المجتهد 2/ 200.
الحنابلة:
نقل ابن قدامة رحمه الله أقوالا لا تخرج بمجموعها عما قاله المالكية فقال: (ويجوز اقتضاء أحد النقدين من الآخر ويكون صرفا بعين وذمة في قول أكثر أهل العلم ومنع منه ابن عباس وأبو سلمة ابن عبد الرحمن وابن شبرمة ثم رجح الجواز مستدلا بحديث ابن عمر وهو ما رواه أبو داود في سننه عن ابن عمر رضي الله عنه قال: «كنت أبيع الإبل بالبقيع فأبيع بالدنانير وآخذ بالدراهم وأبيع بالدراهم وآخذ بالدنانير آخذ هذه من هذه وأعطي هذه من هذه، فأتيت رسول صلى الله عليه وسلم وهو في بيت حفصة فقلت: يا رسول الله رويدك أسألك - وكرر الحديث، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا بأس أن تأخذها بسعر يومها ما لم تفترقا وبينكما شيء (1)» وللحديث روايات متعددة وما ذكرته له رواية عند أبي داود بدون لفظ) (بسعر يومها).
وقد نقل عن الحنابلة ما هو أصرح من ذلك فقد قال ابن تيمية رحمه الله في الفتاوى (4/ 474): ولا يشترط الحلول والتقابض في صرف الفلوس النافقة بأحد النقدين، وهو رواية عن أحمد نقلها أبو منصور واختارها ابن عقيل (2) ونقل أيضا في بيع الفضة بالفلوس النافقة هل يشترط فيها الحلول والتقابض؟ قولان في المسألة، الثاني منهما لا يشترط الحلول والتقابض فإن ذلك معتبر في جنس الذهب والفضة سواء كان ذلك ثمنا أو صرفا لأن الفلوس من باب العروض والثمنية عارضة لها كالشافعية (3) وقال ابن قدامة: (يجوز بيع
(1) سنن الترمذي البيوع (1242)، سنن النسائي البيوع (4582)، سنن أبو داود البيوع (3354)، سنن ابن ماجه التجارات (2262)، مسند أحمد بن حنبل (2/ 139)، سنن الدارمي البيوع (2581).
(2)
نقلا من أحكام النقود في الشريعة الإسلامية، محمد سلامة جبر / 33.
(3)
مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية 29/ 459.