الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فوائد لغوية
العربة وأصلها
وقفنا على ما كتبه حضرة الخوري جرجس منش في مجلة المجمع العلمي (699: 9) بعنوان: (العربة، هل هي من وضع ابن بطوطة؟) فتعجبنا من هذا العنوان الغريب، لأنه لم يذهب إلى هذا الرأي أحد، إذ كلنا يعلم أن ابن بطوطة ذكر اللفظة سماعا عن أهل البلاد الذين كانوا ينطقون بها فهو راو لا واضع، فكيف نسب حضرته هذا الأمر إلى ابن بطوطة في ذيالك العنوان المغالط به؟ فلو قال مثلا:(العربة، هل هي من عصر ابن بطوطة) لما ناقشناه. أما انه ينسبها إلى الرحالة المذكور، في الوقت الذي يصرح فيه بأنه يروي الكلمة رواية، فهذا مما كنا نحب أن يرفع نفسه عنه.
وهناك نسبة أخرى كنا نود أن لا يذكرها بالوجه الذي ذكره، فقد قال حضرته:(وقد كان. . . الأب انستاس الكرملي ذهب إلى أن العربة تركية الأصل في نقده على الشيخ إبراهيم اليازجي قال في مجلة المشرق (519: 5) وكثيرا ما يستعمل كلمة (عربة) بمعنى مركبة وعجلة وهي تركية الأصل!!.) كذا رأينا هذه العبارة مكسوعة بعلامتي تعجب. ونحن لم نفعل ذلك، فهي إذن من حضرة الخوري الفاضل ومن زياداته، وكان يحسن به أن يقول انهما من عنده أو أن يجعلهما بين عضادتين أو هلالين أو غير ذلك من العلامات، ليشعر القارئ بأنهما ليستا لنا إذ لسنا ممن يسخر بمعرفة اليازجي، ومقامه من اللغة أشهر من أن يذكر.
إذن وضع حضرته هتين العلامتين هو من عنده ليدل بهما على تعجبه من جهلنا. قلنا إننا نقر بهذا الجهل وقد صرحنا به مرارا، لكن مع هذا كله لم ننسب إلى نفسنا القول بتركية أصل العربة، وكلامنا صريح فويق هذا وهو:(وهي تركية الأصل.) ولم نقل: (وعندنا إنها تركية الأصل)، إلى غيرها من
العبارات التي تدل على ادعاءنا بالأمر. إنما أوردنا رأي الغير والذي صرح به قبلنا أنها تركية صاحب مرآة اللغات، ومؤلف الدرر العمانية في لغة العثمانية، وصاحب لهجة اللغات وغيرهم كثيرون. ولما قلنا أنها تركية لم نقل أنها بلفظها الحالي تركية الأصل بل أردنا أن نقول تركية التركيب والوضع. ألا يعلم الناس أن عولس
أو عوليس علم يوناني ومع ذلك نقله بعضهم بالعين كما ترى. أفلكون تبتدئ بعين يزول عنها أصلها اليوناني؟ - فقول حضرة الخوري: (وهذا يؤكد (أي كتابة الكلمة بالعين) ما سبق (كذا) وقلته لا أظن العربة من أصل تركي) قول يقرب من قول الأطفال والرضع.
أنا أن العربة (تركية) فنحن لا نشك فيها. وذلك لأننا نراها مدونة بهذا المعنى في كتاب (ديوان لغات الترك) لمؤلفه محمود بن الحسين بن محمد الكاشغري وقد فرغ من تأليفه سنة 466هـ (1073م) أي في أواخر المائة الحادية عشرة. وأنت تعلم أن المؤلف تركي صنف كتابه في بغداد ونقل ألفاظه عن الترك، كما تعلم أيضاً أن اللفظة لا تشيع بين الأمة البعيدة الأوطان والأطراف إلا بعد مئات من السنين، بخلاف ما يجري في هذا العهد إذ يعم اتخاذ اللفظة نقلها على أجنحة الصحف والمطبوعات، أما في عهد البداوة فان الكلمة ما كانت تنتشر إلا بعد مئين من السنين. فوجود العربة عند الترك بصورة أربه أو أرابه بمعنى العجلة أو المركبة في لساننا: أقدم من نقل معناها بهذا اللفظ نقلا عن الارميين أن صح هذا النسب الموهوم فيه. أما
أنها سريانية فهي لم ترد فيها بهذا المعنى وهل يمكن أن يستشهد بوجود كلمة بمعنى من المعاني غير المعنى المطلوب الذي يجري فيه الجدال؟ - ومن الغريب أن حضرة الخوري يلوي النصوص ويقلبها ظهراً لبطن ويسومها عذاب الهون ثم يحاول أن يخرج منها معنى العجلة الذي يولي عنه بعيداً كلما عالج القبض عليه. فالمراد من قول المؤلفين الأرميين: جناح دولاب العربة (العنفة)(كقصبة) وهو ما يضربه الماء فيدير الرحى. فأين هذا من العجلة يا حفظك الله؟ نعم أن العربة هي الرحى التي يكون في السفينة في الماء ليطحن بها القمح أو يعصر بها البزر، أو يستخرج بها الزيت لكن بين أن يكون الزورق عجلة أو مركبة فرق كالفرق الذي يرى بين السمكة السابحة في الماء والحيوان الذاب على الأرض فأن يكون هذا يوافقه فلا يوافق الغير من المنصفين.
وليس حضرته (أول من سار غره قمر) فأن العلامة الكبير والمستشرق الشهير دي خوية الهولندي ذكر في المعجم الذي ذيل فيه تاريخ البلدان للبلاذري أن العربة وردت في هذا السفر الجليل مجموعة على عرب بحذف الهاء. على حد ما نرى في قولهم زهرة وزهر وثمرة وثمر وتمرة وتمر وإليك عبارته: (عرب جمع عربة وهي العجلة. راجع ص8 على ما في النسخة الأولى. أما في النسخة الثانية فعرب وردت بصورة غرب (بفتح فسكون) إلا
أن رواية النسخة الأولى تفضل رواية النسخة الثانية لأن كلمة (محارثة) المجموعة تتقدمها. . .) اه تعريباً وهذه عبارته بحروفها الإفرنجية حتى لا نتهم بالترجمة التي نتصرف فيها:
8.
عربة عرب. عرب غرب محارثة
وجوابنا عنه أن العلامة الجليل أخطأ في القراءة والتأويل. والعبارة التي يشير إليها في البلاذري وأنها ترى في ص8 هي هذه: (وإذن لصاحب الناضح في الغضا وما يصلح به محارثه وغربه). ففي النسخة الأولى جاءت غربة بالعين المهملة أي عربه وفي النسخة الثانية بالغين المعجمة أي غربه. وسبب تفضيل المؤلف رواية العين المهملة على الغين المعجمة أن كلمة محارثه تسبق (غربه) ولما
كانت عربه معطوفة على محارثه كان المعطوف من طبقة المعطوف عليه أي عطف جمع على جمع. وليس ذلك صحيحاً لأن محارثه ليس جمع محرث والمحرث آلة الحرث وآلة الحرث تتركب من عدة أدوات فصح أن تسمى محارث. أما الغرب (بفتح فسكون) فهو الدلو العظيمة يستقى بها للزرع أي ما نسميه نحن بدلو الكرد. والغرب لا يكون إلا واحداً. فصحيح الرواية إذن (وغربه) أي ودلوه. أما فساد الرأي المراد هنا (عربه) أي عجلاته فظاهر من أن الفلاحين من السلف لا يتخذون العجلات في الزراعة والحراثة والفلاحة بخلاف أهل أوربة - ثانياً أن شبه الجمع أو الجمع الجنسي في مثل ثمر وثمرة معروف في المخلوقات لا في المصنوعات. وأن ورد بضعة ألفاظ في المصنوعات أيضاً إلا أن الشائع المستفاض هو في المخلوقات - ثالثاً أن لفظة (العربة) بمعنى العجلة لم تشع بين الناطقين بالضاد قبل المائة الرابعة للهجرة أو المائة العاشرة للميلاد والبلاذري من أهل المائة الثالثة للهجرة. فكل دليل من هذه الأدلة الثلاثة كاف وحده لتوهين القول بأن المنصوص في أصل عبارة البلاذري هو العرب (العجلات).
وممن وهم وهمه دوزي، قال: عربة بمعنى عجلة تجمع على عربات وعرب (راجع معجم البلاذري ومعجم دوزي ومحيط المحيط).
ومن غريب ما استنتجه حضرة الخوري قوله: (وقد ذكر ابن علي عربا على اللفظ الشرقي بمعنى العربة (العجلة) كما مر بك) والعبارة التي يشير إليها حضرته هي: (ابزارا) جناح دولاب العربة) والحال أننا نعلم أن لا جناح للعجلة كما أن لا جناح للعجلة (بكسر الأول
مؤنث العجل) والعربة المذكورة في هذا النص هي المعصرة لا غير فكيف يلوي حضرته النصوص ويستنتج منها تلك النتائج؟ أن هذا لمن الاستخفاف بعقول القراء والضحك من شواربهم ولحاهم ولا يمكن أن يسلم به جاهل فضلاً عن عاقل.
فمعنى العربة التي استعملها الارميون يوافق المعنى المذكور عنها في معاجم
لغتنا العربية أي معنى المعصرة الموضوعة في السفينة ولها دولاب للدولاب عنفات يضرها الماء فتحركه أي وليس هناك أثر لمعنى العجلة.
والعربة التي يكتبها صاحب (ديوان لغات الترك) أربه (كقصبة وبهاء في الأخر) تركية الأصل لا شبهة فيها وقد عربها العرب بالعين كما عربوا ألفاظا كثيرة ناقلين إياها من اللغات التي لا عين فيها ولا سيما هذه الأربه عربت بالعين لقربها من لفظة (العربة) التي ألفوها لوجودها عندهم علما ونكرة وأن كان المعنيان يختلفان فإننا نسمع العراقيين يقولون الآن: أم البوس في امنيبوس وهي الحافلة - وقلم طوز في كالبتوس إلى غيرهما من الألفاظ التي يسمع مثلها وتجري على هذا الوجه من التحريف والتصحيف في جميع الديار واللغات لمشابهة بين الكلم الغربية والكلم المألوفة على السماع.
(تذييل) أغلق علينا فهم بعض الألفاظ فنرجو من حضرته أن يفيدنا عنها قال: (ذلك ما تبادر إلى ذهني)(ص699) أفيريد أن يقول: (ذلك ما تبادر ذهني إليه، أو بادر إليه ذهني؟ - وقال فيها (ليس هو من أئمة اللغة بل ليس هو الذي وضع. . .) أفلو حذف (هو) من الجملتين ألما كانتا أخف وأرشق؟ وأن كنا لا نخطئ قوله المذكور.
وفي ص700 (في العهد العباسي أي في أواخر العصر التاسع للمسيح) قلنا: سر العهد العباسي بأواخر القرن التاسع للمسيح. والذي نعلمه أنه يمتد من سنة 132هـ (749م) إلى سنة 656هـ (1258م) أي 524 سنة. هذا فضلا عن أننا لم نجد بين الأقدمين من استعمل العصر بمعنى القرن أو المائة سنة، ومما شق علينا فهمه قوله في ص700 (عربة خطأ محض (بالتركية) لأن العين لا وجود لها في اللغة التركية ولعل المراد (أرابه در). فهذا كلام يدلك على أن اللفظة التركية هي (أرابه در) وهذا أمر مضحك، إنما المعنى (هو أرابه) بالتركية. لأن در في اللغة التركية أداة وصل الخبر بالمبتدأ ويقابله (هو) بلغتنا والسلف يحذفونه فيقولون مثلا:(العلم نافع) لا العلم هو نافع - ومما لم يأنس بالنطق به
فصحاؤنا قول حضرة الخوري في حاشية 700 (مثل برنساه وما أشبه) -
والذي ينطق به أئمتنا: وما أشبه (راجع سبب هذا التعبير في هذه المجلة 555: 7) ففيه فائدة لا تنكر.
ومن ألغاز كلامه هذا التعبير: (وهذا يؤكد ما سبق وقلته لا أظن العربة. . .) ولعل هناك غلط طبع إذ الصواب (ما سبقت وقلت) أو (ما سبق إذ قلت) أو أشباه هذا التعبير وهو كثير.
ومما لم نفهمه قوله (من اعتاد الحرب ص701 أفيريد (من عتاد الحرب) بلا همزة في الأول. أو اعتد الحرب أو عتد الحرب)؟ فإذا كان هذا هو المطلوب فلماذا كل هذا التحذلق؟ - وفي تلك الصفحة: (ولما كانت العجلات. . . فقد توسطوا) والصواب حذف الفاء من الجواب إذ يتلقى جواب (لما) بالفاء بخلاف (أما) فلعل تشابه اللفظيين استدرجه إلى الوهم. ولما كانت. . . توسعوا). وفي تلك الصفحة كرر قوله: (وما أشبه) والصواب الاحتفاظ بالفضلة وأن يقول: وما أشبهه. وضبط (إرمية)(وزان عنب بالنسبة والتأثيث) كما صرح بذلك صاحب القاموس، وأحسن الأقوال إرم (كعنب) لأنها واردة في سورة الفجر.
أرسلنا بهذا الكلم على ما حضرتنا ونحن أول من يتهم نفسه بالخطأ ويقر به إذا ما رآه متبلجاً في سماء التحقيق الصاحية.
من الأوهام الشائعة
قال أحد الأدباء (وقد زود الوفد العراقي بكل التساهلات المقتضية وكل العطف) وقال أخطأ في قوله (المقتضية) والصواب (المقتضاة) أي اسم مفعول من (اقتضى) والأصل (مقتضية) بفتح الضاد والياء التي قلبت ألفا لانفتاحها وانفتاح ما قبلها. أما (المقتضية) أي اسم فاعل من ذلك الفعل فتستعمل في قولنا (التساهلات المقتضية للنجاح) بمعنى (المستوجبة للنجاح) لا غير.
مصطفى جواد