الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
كتاب آفات اللسان
آفاته كثيرة ومتنوعة، ولها في القلب حلاوة، ولها بواعث من الطبع، ولا نجاة من خطرها إلا بالصمت، فلنذكر أولاً فضيلة الصمت، ثم نتبعه الآفات مفصلة إن شاء الله تعالى.
اعلم: أن الصمت يجمع الهمة ويفرغ الفكر.
وفى الحديث، أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال:"من يضمن لى ما بين لحييه، وما بين رجليه أضمن له الجنة".
وفى حديث آخر: "لا يستقيم إيمان عبد حتى يستقيم قلبه، ولا يستقيم قلبه حتى يستقيم لسانه"(1).
وفى حديث معاذ في آخره: "كف عليك هذا" فقلت: يا رسول الله، وإنا لمؤاخذون بما نتكلم به؟ قال:"ثكلتك أمك يا معاذ، وهل يكب الناس في النار على وجوههم، أو قال: على مناخرهم، ألا حصائد ألسنتهم؟ ".
وفى حديث آخر: "من كف لسانه ستر الله عورته"(2). وقال ابن مسعود: ما شيء أحوج إلى طول سجن من لساني.
وقال أبو الدرداء: أنصف أذنيك من فيك، فإنما جعلت لك أذنان وفم واحد لتسمع أكثر مما تتكلم به.
وقال مخلد بن الحسين: ما تكلمت منذ خمسين سنة بكلمة أريد أن أعتذر منها.
1 ـ ذكر آفات الكلام:
الآفة الأولى: الكلام فيما لا يعنى.
واعلم: أن من عرف قدر زمانه، وأنه رأس ماله، لم ينفقه إلا في فائدة، وهذه
(1) أخرجه ابن أبى الدنيا في "الصمت" من حديث أنس، وفى سنده على بن مسعدة، قال البخاري: فيه نظر، وقال ابن عدي: أحاديثه غير محفوظة.
(2)
أخرجه ابن أبي الدنيا في "الصمت" من حديث ابن عمر، وفيه هشام بن أبي إبراهيم قال الذهبي في "الميزان": مجهول، وباقي رجاله ثقات، ومع ذلك فقد حسن إسناده العراقي.
المعرفة توجب حبس اللسان عن الكلام فيما لا يعنى، لأنه من ترك الله تعالى واشتغل فيما لا يعنى، كان كمن قدر على أخذ جوهرة، فأخذ عوضها مدرة، وهذا خسران العمر.
وفى الحديث الصحيح، أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال:"من حسن إسلام المرء تركه مالا يعينه".
وقيل للقمان الحكيم: ما بلغ من حكمتك؟ قال: لا أسأل عما كفيته، ولا أتكلم بما لا يعنيني.
وقد روى أنه دخل على دواء عليه السلام وهو يسرد درعاً، فجعل يتعجب مما رأى، فأراد أن يسأله عن ذلك، فمنعته حكمته فأمسك، فلما فرغ داود عليه السلام، قام ولبس الدرع ثم قال: نعم الدرع للحرب. فقال لقمان: الصمت حكم وقليل فاعله.
الآفة الثانية: الخوض في الباطل، وهو الكلام في المعاصي، كذكر مجالس الخمر، ومقامات الفساق.
وأنواع الباطل كثيرة. وعن أبى هريرة، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: " إن العبد ليتكلم بالكلمة يزل بها في النار أبعد مما بين المشرق والمغرب،. وقريب من ذلك الجدال والمراء وهو كثرة الملاحاة (1) للشخص لبيان غلطة وإفحامه، والباعث على ذلك الترفع.
فينبغي للإنسان أن ينكر المنكر من القول، ويبين الصواب، فإن قبل منه وإلا ترك المماراة، هذا إذا كان الأمر معلقاً بالدين، فأما إذا كان في أمور الدنيا، فلا وجه للمجادلة فيه، وعلاج هذه الآفة بكسر الكبر الباعث على إظهار الفضل، وأعظم من المراء الخصومة، فإنها أمر زائد على المراء.
وعن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: "أبغض الرجال إلى الله الألد الخصم". وهذه الخصومة نعنى بها الخصومة بالباطل أو بغير علم، فأما من له حق فالأولى أن يصدف (2) عن الخصومة، مهما أمكن لأنها، توغر الصدر، وتهيج الغضب الغضب،
(1) يقال: لاحيته ملاحاة ولحاء: وفى المثل: من لاحاك فقد عاداك، وقولهم: لحاه الله، أي: قبحه ولعنه.
(2)
يصدف: يعرض.
وتورث الحقد، وتخرج إلى تناول العرض.
الآفة الثالثة: التقعر في الكلام، وذلك يكون بالتشدق (1) وتكلف السجع.
وعن أبى ثعلبة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إن أبغضكم إلى وأبعدكم منى يوم القيامة مساويكم أخلاقاً الثرثارون (2) المتشدقون المتفيهقون (3) ".
ولا يدخل في كراهة السجع والتصنع ألفاظ الخطيب، والتذكير من غير إفراط، ولا إغراب، لأن المقصود من ذلك تحريك القلوب، وتشويقها، ورشاقة اللفظ ونحو ذلك.
الآفة الرابعة: الفحش والسب والبذاء (4)، ونحو ذلك، فإنه مذموم منهي عنه، ومصدره الخبث واللؤم.
وفى الحديث: "إياكم والفحش، فإن الله لا يحب الفحش ولا التفحش ". " الجنة حرام على كل فاحش"(5).
وفى حديث آخر: "ليس المؤمن بالطعان ولا اللعان ولا الفاحش ولا البذيء".
واعلم: أن الفحش والبذاء هو التعبير عن الأمور المستقبحة بالعبارات الصريحة، وأكثر ما يكون ذلك في ألفاظ الجماع وما يتعلق به، فإن أهل الخير يتحاشون عن تلك العبارات ويكنون عنها.
ومن الآفات: الغناء وقد سبق فيه كلام في غير هذا الموضوع.
الآفة الخامسة: المزاح، أما اليسير منه، فلا ينهى عنه إذا كان صدقاً.
فإن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يمزح ولا يقول إلا حقاً، فإنه قال لرجل:"يا ذا الأذنين"، وقال لآخر:"إنا حاملوك على ولد الناقة"، وقال للعجوز:"إنه لا يدخل الجنة عجوز" ثم قرأ: {إنا أنشأناهن إنشاء* فجعلناهن أبكاراً} [الواقعة:
(1) وهو أن يلوى شدقه للتفصح.
(2)
الثرثرة: كثرة الكلام وترديده، يقال: ثرثر الرجل، فهو ثرثار مهذار.
(3)
قال الفراء: فلان يتفيهق في كلامه: وذلك إذا توسع فيه وتنطع، وأصله: الفهق، وهو الامتلاء، كأنه ملأ به فمه.
(4)
البذاء، بالمد: الفحش، وفلان يذىء اللسان من قوم أبذياء، والمرأة بذيئة.
(5)
أخرجه ابن أبي الدنيا وأبو نعيم في "الحلية" من حديث عبد الله بن عمرو، وإسناده ضعيف لضعف ابن لهيعة.
35 -
36] (1)، وقال لأخرى:"زوجك الذي في عينيه بياض؟ "(2).
فقد اتفق في مزاحه صلى الله عليه وآله وسلم ثلاثة أشياء:
أحدها: كونه حقاً.
والثاني: كونه مع النساء والصبيان، ومن يحتاج إلى تأديبه من ضعفاء الرجال.
والثالث: كونه نادراً، فلا ينبغي أن يحتج به من يريد الدوام عليه، فان حكم النادر ليس كحكم الدائم، ولو أن إنساناً دار مع الحبشة ليلاً ونهاراً ينظر إلي لعبهم واحتج بأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وقف لعائشة وأذان لها أن تنظر إلى الحبشة، لكان غالطاً، لندور ذلك، فالإفراط بى المزاح والمداومة عليه منهي عنه، لأنه يسقط الوقار، ويوجب الضغائن والأحقاد، وأما اليسير كما تقدم، من نحو نوع مزاح رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فإن فيه انبساطاً وطيب نفس.
الآفة السادسة: السخرية والاستهزاء، ومعنى السخرية: الاحتقار والاستهانة، والتنبيه على العيوب والنقائص على وجه يضحك منه، وقد يكون ذلك بالمحاكاة في الفعل والقول، وقد يكون بالشارة والإيماء، وكله ممنوع منه في الشرع، ورد النهى عنه في الكتاب والسنة.
الآفة السابعة: إفشاء السر، وإخلاف الوعد والكذب في القول واليمين، وكل ذلك منهي عنه، إلا ما رخص فيه من الكذب لزوجته، وفى الحرب فإن ذلك يباح.
وضابطه أن كل مقصود محمود لا يمكن التوصل إليه إلا بالكذب، فهو فيه مباح إن كان هذا المقصود مباحاً. وإن كان المقصود واجباً، فهو واجب، فينبغي أن يحترز عن الكذب مهما أمكن.
وتباح المعاريض، لقوله صلى الله عليه وآله وسلم:"إن في المعاريض مندوحة عن الكذب"(3)، وإنما تصلح المعاريض عند الحاجة إليها، فأما مع غير الحاجة،
(1) أخرجه الترمذي في "الشمائل"(240) مرسلا، واسنده ابن الجوزي في "الوفاء" من حديث أنس بسند ضعيف.
(2)
عزاه العراقي للزبير بن بكار في كتاب الفكاهة والمزاح، ولم يذكر سنده ولا تكلم عليه بشيء.
(3)
أخرجه البيهقي وابن عدي من حديث عمران بن حصين مرفوعاً، وفي سنده داود بن الزبرقان وهو متروك وكذبه الأزدي، لكن رواه البخاري في "الأدب المفرد"(885) موقوفاً على عمران بن حصين بلفظ "إن في معاريض الكلام =
فمكروهة لأنها تشبه الكذب.
فمن المعاريض ما روينا عن عبد الله بن رواحة رضى الله عنه أنه أصاب جارية له، فعلمت امرأته، فأخذت شفرة، ثم أتت فوافقته قد قام عنها، فقالت: أفعلتها؟ فقال: ما فعلت شيئاً، قالت، لتقرأن القرآن أو لأبعجنك بها، فقال رضى الله عنه:
وفينا رسول الله يتلو كتابه
…
إذا انشق معروف من الفجر ساطع
يبيت يجافى جنبه عن فراشه
…
إذا استثقلت بالكافرين المضاجع
أرانا الهدى بعد العمى فقلوبنا
…
به موقنات أن ما قال واقع
قالت: آمنت بالله وكذبت بصري.
وكان النخعى إذا طلب قال للجارية: قولي لهم: اطلبوه في المسجد.
الآفة الثامنة: الغيبة، وقد ورد الكتاب العزيز بالنهى عنها، وشبه صاحبها بآكل الميتة. وفى الحديث:"إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام".
وعن أبى برزة الأسلمى قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "يا معشر من آمن بلسانه ولم يدخل الإيمان قلبه: لا تغتابوا المسلمين، ولا تتبعوا عوراتهم، فإنه من تتبع عورة أخيه تتبع الله عورته ومن تتبع الله عورته يفضحه ولو في جوف بيته".
وفى حديث آخر: "إياكم والغيبة، فإن الغيبة أشد من الزنا، وإن الرجل قد يزنى ويشرب، ثم يتوب ويتوب الله عليه، وإن صاحب الغيبة لا يغفر الله له حتى يغفر صاحبه"(1).
وقال على بن الحسين رضى الله عنهما: إياك والغيبة، فإنها إدام كلاب الناس والأحاديث والآثار في ذلك كثيرة مشهورة.
ومعنى الغيبة: أن تذكر أخاك الغائب بما يكره إذا بلغه، سواء كان نقصاً في
= مندوحة عن الكذب" ورجاله ثقات. وأخرج أيضاً (884) من طريق أبي عثمان النهدي عن عمر قال: "أما في المعاريض ما يكفي المسلم من الكذب" والمعاريض والمعارض باثبات الياء وحذفها جمع معراض من التعريض بالقول، قال الجوهري: هو خلاف التصريح، وهو التورية بالشىء عن الشىء.
(1)
أخرجه ابن أبي الدنيا في "ذم الغيبة" وأبو الشيخ في "التوبيخ" عن جابر وأبي سعيد، وفي سنده عباد بن كثير وهو متروك.
بدنه، كالعمش، والعورة، والحول، والقرع، والطول، والقصر، ونحو ذلك.
أو في نسبه، كقولك: أبوه نبطي، أو هندي أو فاسق، أو خسيس، ونحو ذلك.
أو في خلقه كقولك، هو سئ الخلق بخيل متكبر ونحو ذلك.
أو في ثوبه، كقولك: هو طويل الذيل، واسع الكم، وسخ الثياب.
والدليل على ذلك، أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم سئل عن الغيبة قال:"ذكرك أخاك بما يكره". قال: أرأيت إن كان في أخي ما أقول يا رسول الله؟ قال: "إن كان في أخاك ما تقول فقد اغتبته، وإن لم يكن فيه ما تقول فقد بهته".
واعلم أن كل ما يفهم منه مقصود الذم، فهو داخل في الغيبة، سواء كان بكلام أو بغيره، كالغمز، والإشارة والكتابة بالقلم، فإن القلم أحد اللسانين.
وأقبح أنواع الغيبة، غيبة المتزهدين المرائين، مثل أن يذكر عندهم إنسان فيقولون: الحمد لله الذي لم يبتلنا بالدخول على السلطان، والتبذل في طلب الحطام، أو يقولون: نعوذ بالله من قلة الحياء، أو نسأل الله العافية، فإنهم يجمعون بين ذم المذكور ومدح أنفسهم.
وربما قالا أحدهم عند ذكر إنسان: ذاك المسكين قد بلى بآفة عظيمة، تاب الله علينا وعليه، فهو يظهر الدعاء ويخفى قصده.
واعلم: أن المستمع للغيبة شريك فيها، ولا يتخلص من إثم سماعها إلا أن ينكر بلسانه، فإن خاف فبقلبه وإن قدر على القيام، أو قطع الكلام بكلام آخر، لزمه ذلك.
وقد روى عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: من أذل عنده مؤمن وهو يقدر أن ينصره أذله الله عز وجل على رؤوس الخلائق" (1).
وقال صلى الله عليه وآله وسلم: "من حمى مؤمناً من منافق يعيبه، بعث الله ملكاً يحمى لحمه يوم القيامة من نار جهنم"(2).
(1) رواه أحمد والطبراني من حديث سهل بن حنيف، وفيه ابن لهيعة وهو ضعيف.
(2)
أخرجه أبو داود (4883) من حديث معاذ بن أسد الجهني، وفي سنده مجهول وضعيف.