الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
القسم الخامس: في إدرار السلاطين وصلاتهم، وما يحل من مخالطة السلاطين الظلمة، ونحو ذلك.
اعلم: أن من أخذ مالاً من السلطان فلا بد أن ينظر في مدخل ذلك إلى السلطان من أين هو، وفى صفته التي يستحق بها الأخذ، وفى المقدار الذي يأخذه، هل يستحقه؟
وقد تورع جماعة عن ذلك، وكان فيهم من يأخذه فيتصدق به.
وأما في هذا الزمان، فالاحتراز عنه أولى، لأنه قد علم طريق الأخذ، ثم لا ينال إلا بالذل والسؤال والسكوت على الإنكار.
وقد كان بعض السلف لا يأخذ، ويعلل بأن باقي المستحقين لم يأخذوا، وهذا ليس بشيء، لأنه يأخذ حقه ويبقى أولئك في مقام مظلوم، وليس المال مشتركاً.
8 ـ فصل [في أحوال من يخالط الأمراء والعمال والظلمة]
اعلم: أن لك مع الأمراء والعمال والظلمة ثلاثة أحوال:
الحالة الأولى: أن تدخل عليهم وهى شرُّها.
فقد روى عن النبى صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: "من أتى أبواب السلاطين افتتن"(1)"وما ازداد عبد من السلطان قرباً إلا ازداد من الله بعداً"(2).
وقال حذيفة: إياكم ومواقف الفتن، فقيل: وما مواقف الفتن؟ قال: أبواب الأمراء، يدخل أحدكم على الأمير فيصدقه بالكذب، ويقول ما ليس فيه.
وقال بعض الأمراء لبعض الزهاد: ألا تأتينا؟ فقال: أخاف إن أدنيتني فتنتني، وإن أقصيتنا حرمتني، وليس في يدك ما أريده، ولا في صدى ما أخافك عليه، وإنما أتاك من أتاك ليستغني بك عمن سواك، وقد استغنيت عنك بمن أغناك غنى.
فهذه الآثار تبين كراهية مخالطة السلاطين.
(1) أخرجه أبو داود (2859) والترمذي (2257)، والنسائي (4314) وأحمد 1/ 357 من حديث ابن عباس مرفوعًا بلفظ "من سكن البادية، جفا، ومن أتبع الصيد، غَفل، ومن أتى السلطان افتتن" وإسناده صحيح.
(2)
أخرجه الترمذي (2860) من حديث أبي هريرة، وفي سنده مجهول.
وأيضاً فان الداخل على السلطان معرض لأن يعصى الله عز وجل، إما بفعله أو قوله أو سكوته.
أما الفعل: فإن الدخول عليهم في غالب الأحوال يكون إلى أماكن مغصوبة، ولو فرض أنه في موضع غير مغصوب، ففى الغالب يكون ما تحته أو ما يظله من خيمة أو نحوها من ماله الحرام، والانتفاع بذلك حرام، ولو فرض ذلك حلالاً، فربما يقع في غيره من المحذورات، إما أن يسجد له، أو يتمثل له قائماً، ويخدمه، ويتواضع له بسبب ولايته التي هي آلة ظلمه.
والتواضع للظالم معصية، بل من تواضع لغنى لأجل غناه لا لمعنى آخر يقتضي التواضع، ذهب ثلثا دينه، فكيف إذا تواضع للظالم؟!
وتقبيل اليد له معصية، إلا أن يكون عند خوف، أو لإمام عادل، أو عالم يستحق ذلك، فأما غير ما ذكرنا، فلا يباح في حقهم إلا مجرد السلام.
وأما القول: فهو أن يدعو للظالم، أو يثنى عليه، أو يصدقه فيما يقول من باطل بصريح قوله، أو بتحريك رأسه، أو باستبشار في وجهه، أو يظهر له الحب والموالاة والاشتياق إلى لقائه، والحرص على طول بقائه، فإنه في الغالب لا يقتصر على السلام، بل يتكلم ولا يعدو كلامه هذه الأقسام.
وقد جاء في الأثر: "من دعا لظالم بطول البقاء، فقد أحب أن يعصى الله".
ولا يجوز دعاؤه له إلا أن يقول: أصلحك الله، أو وفقك الله، أو نحو ذلك.
وأما السكوت: فهو أن يرى في مجالسهم في الفرش الحرير، وأوانى الفضة، والملبوس المحرم على غلمانهم من الحرير، ونحو ذلك، فيسكت. وكل من رأى شيئاً من ذلك وسكت فهو شريك فيه، وكذا إذا سمع من كلامهم ما هو فحش وكذب وشتم وإيذاء، فإن السكوت عن ذلك كله حرام، لأنه يجب عليه الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر.
فإن قلت: إنه يخاف على نفسه، فهو معذور في السكوت.
قلنا: صدقت، إلا أنه مستغن عن أن يعرض نفسه لارتكاب ما لا يباح إلا بعذر، لأنه لو لم يدخل ويشاهد، لم يجب عليه الأمر والنهى، وكل من علم بفساد فى مكان، وعلم أنه إذا حضر لم يقدر على إزالته، لم يجز له أن يحضر.