الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
على ذرة من ذرات المخلوقات. وما هو قادر عليه من نفسه وغيره، فليست قدرته من نفسه، بل الله خالقه وخالق قدرته وخالق أسبابه والممكن له من ذلك. ولو سلط بعوضة على أعظم ملك وأقوى شخص لأهلكته، فليس للعبد قدرة إلا بتمكين مولاه.
قال الله تعالى في حق أعظم ملوك الأرض ذي القرنين: {إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ} [الكهف: 84] فلم يكن جميع ملكه وسلطانه إلا بتمكين الله تعالى، فنواصي الخلق جميعهم في قبضته وقدرته، إن أهلكهم لم ينقص من ملكه وسلطانه ذرة، وإن خلق أمثالهم ألف مرة لم يعبأ بخلقه، فلا قادر إلا هو، فله الكمال والعظمة والبهاء والكبرياء والقهر والاستيلاء. فإن تصور أن تحب قادراً لكمال قدرته وعظمته وعلمه، فلا يستحق ذلك سواه، ولا يتصور كمال التقديس والتنزيه إلا له سبحانه، فهو الواحد الذي لا ند له، الفرد الذي لا ضد له، الصمد الذي لا منازع له، الغنى الذي لا حاجة له، القادر الذي يفعل ما يشاء، ويحكم ما يريد، لا راد لحكمه، ولا معقب لقضائه، العالم الذي لا يعزب عنه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء.
وكمال معرفة العارفين الاعتراف بالعجز عن معرفته، وهو المستحق لكمال المحبة استحقاقاً لا يساهم فيه أصلاً.
1 ـ فصل في بيان أن أجل اللذات وأعلاها معرفة الله سبحانه والنظر إلى وجهه الكريم وأنه لا يتصور أن يؤثر على ذلك لذة أخرى إلا من حرم هذه اللذة
اعلم: أن اللذات تابعة للإدراكات، والإنسان جامع لجملة من القوى والغرائز، ولكل قوة غريزة لذة، ولم تخلق هذه الغرائز عبثاً، بل لأمر من الأمور، وهو مقتضاها بالطبع، فغريزة شهور الطعام خلقت لتحصيل الغذاء الذي به القوام، ولذة البصر والسمع في الإبصار والإسماع.
وكذلك في القلب غريزة تسمى النور الإلهي، وقد تسمى العقل، وتسمى البصيرة الباطنة، وتسمى نور الإيمان واليقين، وهذه الغريزة خلقت ليعلم بها حقائق الأمور كلها بطبعها، فمقتضى طبعها العلم والمعرفة، وذاك لذتها.
وليس يخفى أن العلم والمعرفة، ولو في شئ خسيس يفرح به، وأن من ينسب إلى الجهل ولو في شئ خسيس يغتم به. وكل ذلك لفرط لذة العلم، وما يستشعره من كمال ذاته. فان العلم من أحسن الصفات ومنتهى الكمال، ولذلك يرتاح الإنسان بطبعه إذا أثنى عليه بالذكاء، وغزارة العلم، ثم ليس لذة العلم بالحراثة والخياطة كلذة العلم بسياسة الملك وتدبير أمر الخلق، ولا لذة العلم بالشعر والنحو، كلذة العلم بالله تعالى وملائكته وملكوت السموات والأرض، بل لذة العلم بقدر شرف العلم، وشرف العلم بقدر شرف المعلوم، فبهذا استبان أن ألذ المعارف وأشرفها، وشرفها بحسب شرف المعلوم، فإن كان في المعلومات ما هو الأجل والأكمل والأشرف والأعظم، فالعلم به ألذ العلوم لا محالة وأشرفها.
وليت شعري، هل في الوجود شئ أجل وأعلى وأشرف وأكمل وأعظم من خالق الأشياء كلها ومكملها. ومزينها ومبديها ومعيدها ومدبرها ومرتبها؟ وهل يتصور أن يكون حضرة في الملك والكمال والجمال والبهاء والجلال أعظم من الحضرة الربانية التي لا يحيط بجلالها وكمالها وعجائب أمورها وصف الواصفين؟!
فينبغي أن تعرف أن لذة المعرفة أقوى من جميع اللذات المدركة بالحواس الخمس، فإن المعاني الباطنة أغلب على ذوى الكمال من اللذات الظاهرة. فلو خير الرجل بين لذة أكل الدجاج السمين واللوزينج، وبين لذى الرياسة، وقهر الأعداء، ونيل درجة الاستيلاء، فان كان المخير خسيس الهمة ميت القلب شديد الشهوة البهيمية اختار اللحم والحلواء، وإن كان علي الهمة، كامل العقل، فإنه يختار الرياسة، ويهون عليه الجوع والصبر على ضرورة القوت أياماً.
فاختياره للرياسة دليل على أنه ألذ عنده من المطعومات الطيبة، وكما أن لذة الرياسة أغلب اللذات على من جاوز نقصان الناقص الهمة، فلذة معرفة الله سبحانه وتعالى والنظر إلى أسرار الأمور الإلهية ألذ من الرياسة التي هي أعلى اللذات الغالبة على الخلق وهذا لا يعرفه إلا من ذاق اللذتين جميعاً، فإنه لا محالة يؤثر التبتل والتفرد والفكر والذكر، وينغمس في بحار المعرفة، ويترك الرياسة، ويحتقر الخلق، لعلمه بفناء رياسته وفناء من عليه رياسته، وكون ذلك مشوباً بالكدر، مقطوعاً بالموت. وتعظم عنده معرفة الله سبحانه وتعالى، ومطالعة صفاته وأفعاله، ونظام مملكته، فإنها خالية عن الزاحمات والمكدرات، متسعة للمتواردين عليها، لا تضيق عنهم، فلا يزال
العارف بمطالعتها في جنة عرضها السموات والأرض، يرتع في رياضتها، ويقطف من ثمارها، ويكرع من حياضها، وهو آمن من انقطاعها، إذ هي أبدية سرمدية، لا يقطعها الموت، لأن الموت لا يهدم محل معرفة الله تعالى، إذ محلها الروح، وإنما الموت يغير أحوالها، أما أن يعدمها فلا.
والعارفون درجات عند الله تعالى متفاوتون، لا يدخل تفاوت درجاتهم تحت الحصر، وهذه الأمور لا تدرك إلابالذوق، والحكاية فيها قليلة الجدوى. فهذا القدر ينبهك على أن معرفة الله تعالى ألذ الأشياء، وأنه لا لذة فوقها ولهذا قال أبو سليمان الدارانى رحمه الله: إن لله عباداً ليس يشغلهم عن الله عز وجل خوف النار ولا رجاء الجنة، فكيف تشغلهم الدنيا عن الله تعالى؟!
وقال بعض أصحاب معروف: قلت له: أي شئ أهاجك على العبادة؟ فسكت. فقلت: ذكر الموت؟ فقال: وأي شئ الموت؟ قلت: ذكر القبر. فقال وأي شئ القبر؟ قلت: خوف النار ورجاء الجنة؟ فقال: وأي شئ هذا؟ إن ملكاً هذا كله بيده، إن أحببته أنساك جميع ذلك، وإن كانت بينك وبينه معرفة كفاك جميع ذلك.
وقال أحمد بن الفتح: رأيت بشر بن الحارث في منامى، فقلت له: ما فعل معروف الكرخى؟ فحرك رأسه ثم قال: هيهات، حالت بيننا وبينه الحجب، إن معروفا لم يعبد الله شوقاً إلى جنته ولا خوفاً من ناره، وإنما عبده شوقاً إليه، فرفعه الله إلى الرفيق الأعلى، ورفع الحجب بينه وبينه.
فمتى حصلت محبة الله تعالى لشخص، صار قلبه مستغرقاً بها، ولا يلتفت إلى جنة، ولا يخاف من نار، فإنه قد بلغ النعيم الذي ليس فوقه نعيم. قال بعضهم:
وهجره أعظم من ناره
…
ووصله أطيب من جنته
وإنما أراد بهذا لذة القلب في معرفة الله تعالى. وأنها مفضلة على لذة الأكل والشرب والنكاح، فإن الجنة معدن تمتع الحواس، وأما القلب فلذته في لقاء الله تعالى فقط.
واعلم: أن لذة النظر في الآخرة تزيد على المعرفة في الدنيا، وقد اقتضت سنة الله تعالى أن النفس ما دامت محجوبة بعوارض البدن، ومقتضى الشهوات وما يغلب عليها من الصفات البشرية، ولا تنتهي إلى المشاهدة، بل هذه الحياة حجاب عنها بالضرورة، كحجاب الأجفان عن رؤية الإبصار.