الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وقال رجل للإمام أحمد: كيف تجدك يا أبا عبد الله؟ قال: بخير في عافية. فقال له: حممت البارحة؟ قال: إذا قلت لك: أنا في عافية فحسبك، لا تخرجني إلى ما أكره.
وقال شقيق البلخى: من شكي مصيبة به إلى غير الله، لم يجد في قلبه لطاعة الله حلاوة أبداً.
وقال بعض الحكماء: من كنوز البر كتمان المصائب، وقد كانوا يفرحون بالمصائب نظراً إلى ثوابها، وحكاياتهم مشهورة في ذلك.
منها: ما روى أن عبد الملك بن عمر بن عبد العزيز لما مات دفنه عمر، وسوى عليه ثم استوى قائماً، فأحاط به الناس، فقال: رحمك الله بابني! قد كنت براً بأبيك، والله ما زلت منذ وهبك الله لى مسروراً بك، ولا والله ما كنت قط أشد بك سروراً، ولا أرجى بحظي من الله تعالى فيك منذ وضعتك في هذا المنزل الذي صيرك الله إليه.
فإن قيل: إن كان المراد من الصبر عدم كراهية المصائب، فلا قدرة للآدمي على ذلك، وإن كان الفرح بوجودها كما حكيتم، فهو أبعد.
والجواب: أن الصبر لا يكون إلا عن محبوب أو على مكروه، ولا ينهى عما لا يدخل تحت الكسب، وهو انزعاج الباطن، وإنما ينهى عن المكتسب، كشق الجيوب، ولطم الخدود، والقول باللسان، فأما ما ذكرنا من فرح بعضهم، فذلك فرح شرح لا طبعي، إذ الطبع لابد له من كراهة المصائب.
ومثال هذا رجل مريض له شربة لمرضه، فسعى في طلب حوائجها، وأنفق عليها مالاً، فلما تمت، فرح بتمامها وتناولها لما يرجو لها من العافية، فأما طبعه، فما زالت عنه كراهة التناول أصلاً. ولو أن ملكاً قال لرجل فقير: كلما ضربتك بهذا العود اللطيف ضربة أعطيتك ألف دينار، لأحب كثرة الضرب، لا لأنه لا يؤلم، ولكن لما يرجوا من عاقبة، وإن أنكاه الضرب، فكذلك السلف تلمحوا الثواب، فهان عليهم البلاء.
3 ـ فصل في بيان دواء الصبر وما يستعان به عليه
اعلم أن الذي أنزل الداء أنزل الدواء ووعد بالشفاء، فالصبر وإن كان شاقاً فتحصيله ممكن بمعجون العلم والعمل، فمنهما تركب الأدوية لأمراض القلوب كلها،
فيحتاج كل مرض إلى علم وعمل يليق به، فإن العلل إذا اختلفت اختلف العلاج، إذ معنى العلاج: مضادة العلة.
ونضرب لك مثالاً، فنقول: إذا افتقر الإنسان إلى الصبر عن شهوة الجماع، وقد غلبت عليه بحيث لا يملك فرجه ولا عينه ولا قلبه، فعلاج ذلك بثلاثة أشياء:
أحدها: مواظبة الصوم، والاقتصار عند الإفطار على قليل من الطعام.
الثاني: قطع أسباب المهيجة، فإنه إنما يهيج بالنظر، والنظر بالقلب، والقلب يحرك الشهوة، ودواء هذا العزلة، والاحتراز عن مظان وقوع البصر على الصور المشتهاة، فان النظر سهم مسموم من سهام إبليس، ولا يمنع عنه إلا غمض الجفن أو الهرب.
الثالث: تسلية النفس بالمباح من جنس المشتهى، وذلك بالنكاح، وكل ما يشتهيه الطبع من الحرام، ففى المباحات غنية عنه، وهذا هو العلاج الأرفع في حق أكثر الناس، لأن قطع الغذاء يضعف، ولا يقمع الشهوة بخلاف هذا.
وينبغى للإنسان أن يعود نفسه المجاهدة، فإن من عَّود نفسه مخالفة الهوى، غلبها متى أراد.
واعلم: أن أشد أنواع الصبر والمجاهدة، كف الباطن من حديث النفس، وإنما يشتد ذلك على من تفرغ واعتزل، فان الوساوس لا تزال تجاذبه، ولا علاج لهذا إلا قطع العلائق، وجعل الهم هماً واحداً، وصرف الفكر إلى ملكوت السموات والأرض وعجائب صنع الله تعالى، وجميع أبواب معرفة الله تعالى، حتى إذا استولى ذلك على قلبه، دفع اشتغاله مجاذبة الشيطان ووسواسة، وإن لم يكن له سير الباطن فلا ينجيه إلا الأوراد المتواصلة، من القراءة، والأذكار، والصلوات، ويحتاج مع ذلك إلى تكليف القلب الحضور، فإن الفكر الباطن هو الذي يستغرق القلب دون الأوراد الظاهرة، فهذا الذي يمكن أن ينال بالاكتساب والجهد.
فأما مقادير ما ينكشف، ومبالغ ما يرد من لطف الله تعالى من الأحوال والأعمال، فذلك يجرى مجرى الصيد، وهو بحسب الرزق، فقد يقل الجهد، ويكثر الصيد، وقد يطول الجهد ويقل الصيد، والمعلوم وراء هذا الاجتهاد على جذبه من جذبات الرحمن عز وجل، فإنها توازى أعمال الثقلين، وليس ذلك اختيار العبد، بل