الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ومثال التعمق في ذلك، مثال من ضيع عمره في تصحيح مخارج الحروف في القرآن، مقتصراً على ذلك، وذلك غرور، لأن المقصود من الحروف المعاني، وإنما الحروف ظروف وأدوات، ومن احتاج إلى شرب السكنجبين لإزالة الصفراء، فضيع عمره في تحسين القدح الذي يشرب فيه، فهو مغرور، والسعيد من أخذ من كل شئ من هذا حاجته المهمة لا غير، وتجاوز إلى العمل، واجتهد فيه وفى تصفيته من الشوائب، فهذا هو المقصود.
وفرقة أخرى عظم غرورهم، فوضعوا الحيل في دفع الحقوق، وظنوا أن ذلك ينفعهم، بل ذلك غرور، فان الإنسان إذا ألجأ زوجته إلى أن تبرئه من حقها لم يبرأ فيما بينه وبين الله تعالى.
وكذلك هبة الرجل مال الزكاة في آخر الحول لزوجته، واتهابه مالها لإسقاط الزكاة، ونحو ذلك من أنواع الحيل.
الصنف الثاني: أرباب التعبد والعمل، وهم فرق:
فرقة أهملوا الفرائض واشتغلوا بالنوافل الفضائل، وربما تعمقوا في استعمال الماء حتى خرجوا إلى الوسوسة في الوضوء، فترى أحدهم لا يرضى بالماء المحكوم له بالطهارة شرعاً، بل يقدر الاحتمالات البعيدة في التنجس، ولا يقدر ذلك في مطعمه، فلو انقلب هذا الاحتياط من الماء إلى المطعم، لكان أشبه بسير السلف، فإن عمر رضى الله عنه توضأ من جرة نصرانية مع ظهور احتمال النجاسة، وكان مع هذا يدع أنواعاً من الحلال خوفاً من الوقوع في الحرام.
وقد صح أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم توضأ من مزادة مشركة (1).
ثم منهم من يخرج إلى الإسراف في الماء، ويطول به الأمر، حتى تضيع الصلاة ويخرج وقتها.
ومنهم من غلبت عليه الوسوسة في تكبيرة الإحرام في الصلاة، حتى ربما فاتته ركعة مع الإمام.
(1) الخبر مطولاً في البخاري 1/ 379، 384 من حديث عمران، وفيه أن أحد الصحابة كانت قد أصابته جنابة، فأعطاه النبي صلى الله عليه وسلم إناء من ماء أخذه من مزادة مشركة، وقال له: اذهب فأفرغه عليك.
ومنهم من يتوسوس في إخراج حروف الفاتحة وسائر الأذكار من مخارجها، فلا يزال يحتاط في التشديدات، والفرق بين الضاد والظاء فوق الحاجة، ونحو ذلك، بحيث يهتم بذلك حتى لا يتفكر فيما سواه، ويذهل عن معنى القرآن والاتعاظ به، وهذا من أٌقبح أنواع الغرور فان الخلق لم يتكلفوا من تحقيق مخارج الحروف في تلاوة القرآن إلا بما جرت به العادة في الكلام.
ومثال هؤلاء مثال من حمل رسالة إلى سلطان، فأخذ يؤدى الرسالة بالتأنق في مخارج الحروف وتكراره، وهو غافل عن مقصود الرسالة ومراعاة حرمة المجلس، فما أحراه بالطرد والتأديب.
وفرقة أخرى اغتروا بقراءة القرآن، فهم يهذونه هذاً، وربما ختموا في اليوم مرتين، فلسان أحدهم يجرى به وقلبه يتردد في أودية الأمانى، ولا يتفكر في معاني القرآن ولا يتعظ بمواعظه، ولا يقف عند أوامره ونواهيه، فهذا مغرور يظن أن المقصود من القرآن التلاوة فقط.
ومثال ذلك، مثال عبد كتب إليه مولاه كتاباً يأمره فيه وينهاه، فلم يصرف عنايته إلى فهمه والعمل به، بل اقتصر على حفظه وتكراره، ظاناً أن ذلك هو المراد منه، مع مخالفته أمر مولاه ونهيه.
ومنهم من يلتذ بصوته بالقرآن، معرضاً عن معانيه، فينبغي أن يتفقد قلبه فيعرف هل التذاذه بالنظم، أو بالصوت، وبالمعاني.
وفرقة أخرى اغتروا بالصوم وأكثروا منه، وهم لا يحفظون ألسنتهم عن الغيبة والفضول، ولا بطونهم من الحرام عند الإفطار، ولا خواطرهم عن الرياء.
ومنهم من اغتر بالحج، فيخرج إليه من غير خروج عن المظالم، وقضاء الديون، واسترضاء الوالدين، وطلب الزاد الحلال، وقد يفعلون ذلك بعد سقوط فرض الحج، ويضيعون في الطريق العبادة والفرائض ويعجزون عن طهارة الثوب والبدن، ولا يحترزون من الرفث والخصام، وهم مع ذلك يظنون انهم على خير وهم مغرورون.
وفرقة أخرى أخذوا في الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، ونسوا أنفسهم.
ومنهم من يؤم في مسجد، ولو تقدم عليه أورع منه وأعلم، ثقل عليه.