الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وعظماً ودماً على هذه الهيئة حتى يطبخ طبخاً تاماً، فجعل الله المعدة على هيئة قدر يقع فيه الطعام، فتحتوى عليه وتغلق عليه الأبواب، وينضج بالحرارة التي تتعدى إليها من الأعضاء الأربعة، وهى الكبد من جانبها الأيمن، والطحال من جانبها الأيسر، والثرب (1) من أمامها، ولحم الصلب من خلفها، فينضج الطعام ويصير مائعاً متشابهاً يصلح للنفوذ في تجاويف العروق، ثم ينصب الطعام من العروق إلى الكبد، فيستقر فيها ريثما يصلح له نضج آخر.
ثم يتفرق في الأعضاء ويبقى منه ثقل ثم يندفع.
ولو استوفينا الكلام في ذلك لطال.
وفى الآدمي من العضلات والعروق ما لا يحصى، مختلف بالصغر والكبر والدقة والغلظ، ولا شئ منها إلا وفيه حكمة، وكل ذلك من الله سبحانه، ولو سكن من جملتها عرق متحرك أو تحرك عرق ساكن، لهلكت يا مسكين.
فانظر إلى نعم الله تعالى عليك، لتقوى على الشكر، فإنك لا تعرف من نعمة الله تعالى إلا نعمة الأكل، وهى أخسها، ثم لا تعرف منها إلا أنك تجوع وتأكل، والبهيمة أيضاً تعرف أنها تجوع وتأكل، وتتعب فتنام، وتشتهى فتجامع، وإذ لم تعرف أنت من نفسك إلا ما يعرف الحمار، فكيف تقوم بشكر الله؟! وهذا الذي رمزنا إليه على الإيجاز قطرة من بحر نعم الله تعالى، فقس على ذلك.
وجملة ما عرفنا وعرفه الخلق كلهم من نعم الله تعالى بالإضافة إلى ما لم يعرفوه، أقل من قطرة في بحر. قال الله تعالى:{وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا} [إبراهيم: 34 والنحل: 17].
10 ـ فصل [في عجائب الأغذية والأدوية]
واعلم: أن الأطعمة كثيرة مختلفة، والله تعالى في خلقها عجائب لا تحصى، وهى تنقسم إلى أغذية وأدوية وفواكه وغيرها:
فنتكلم عن بعض الأغذية، فنقول: إذا كان عندك شئ من الحنطة، فلو أكلتها
(1) الثرب: شحم رقيق يغطى الكرش والأمعاء
لفنيت وبقيت جائعاً، فما أحوجك إلى عمل ينمى به حب الحنطة ويتضاعف حتى يفي بتمام حاجتك، وهو زرعها، وهو أن تجعلها في أرض فيها ماء يمتزج ماؤها بالأرض فيصير طيناً، ثم لا يكفى الماء والتراب، إذ لو تركت في الأرض ندية صلبة، لم تنبت لفقد الهواء، فيحتاج إلى تركها إلى أرض متخلخلة يتغلغل الهواء فيها، ثم الهواء لا يتحرك إليه بنفسه، فيحتاج إلى ريح تحرك الهواء، وتصرفه بقهر على الأرض، حتى ينفذ فيها، ثم كل ذلك لا يغنى، فيحتاج إلى حرارة الربيع والصيف، فإنه لو كان في البرد المفرط لم ينبت.
ثم انظر إلى الماء الذي يحتاج إليها هذه الزراعة كيف خلقه الله تعالى؟ فجر العيون وأجرى منها الأنهار، ولما كان بعض الأرض مرتفعاً لا يناله الماء، أرسل إليها الغيوم، وسلط عليها الرياح لتسوقها بإذنه إلى أقطار العالم، وهى سحب ثقال، ثم يرسله على الأرض مدراراً في وقت الحاجة.
وانظر كيف خلق الله الجبال حافظة للماء، تنفجر منها العيون تدريجاً، فلو خرجت دفعة واحدة لغرقت البلاد وهلك الزرع وغيره.
وانظر كيف سخر الشمس وخلقها، مع بعدها عن الأرض، مسخنة لها في وقت دون وقت، ليحصل البرد عند الحاجة إليه، والحر عند الحاجة إليه.
وخلق القمر وجعل من خاصيته الترطيب، كما جعل من خاصية الشمس التسخين فهو ينضج الفواكه بتقدير الحكيم الخبير، وكل كوكب خلق في السماء، فهو مسخر لنوع فائدة، كما سخرت الشمس والقمر، ولا يخلو كل واحد منها عن حكم كثيرة لا تفي قوة البشر بإحصائها، وكذلك الشمس والقمر، فيهما حكم آخر غير ما ذكرنا لا تحصى.
ولما كانت كل الأطعمة لا توجد في كل مكان، سخر الله تعالى التجار، وسلط عليهم الحرص على جمع المال، مع أنه لا يغنيهم في غالب الأمر شئ، بل يجمعون الأموال، فإما أن تغرق بها السفن أو تنهبها قطاع الطرق، أو يموتون في بعض البلاد، فتأخذها السلاطين، وأحسن أحوالها أن يأخذها ورثتهم، وهم أشد أعدائهم لو عرفوا، فانظر كيف سلط الله عليهم الأمل والغفلة، حتى يقاسوا الشدائد في طلب الريح في ركوب البحار، وركوب الأخطار، فيحملون الأطعمة وأنواع الحوائج من أقصى
الشرق والغرب إليك.
واعلم: أن الخلق لم يقصروا عن شكر النعمة إلا للجهل والغفلة، فإنهم منعوا بذلك عن معرفة النعم، ولا يتصور شكر النعمة إلا بعد معرفتها، ثم إن عرفوا نعمة ظنوا أن الشكر عليها أن يقول أحدهم بلسانه: الحمد لله، والشكر لله، ولم يعرفوا أن معنى الشكر أن تستعمل النعمة في إتمام الحكمة التي أريدت بها، وهى طاعة الله تعالى.
أما الغفلة عن النعم فلها أسباب:
أحدها: أن الناس لجهلهم لا يعدون ما يعم الخلق في جميع أحوالهم نعمة، فلذلك لا يشكرون على جملة ما ذكرناه، من النعم، لأنها عامة للخلق، فلا يعده نعمة، فلا تراهم يشكرون الله على روح الهواء، ولو أخذ بمخنقهم لحظة حتى انقطع الهواء عنهم ماتوا، ولو حبسوا في حمام أو بئر ماتوا غماً، فإن ابتلى أحدهم بشيء من ذلك ثم نجا، قدر ذلك نعمة يشكر الله عليها، وهذا غاية الجهل، إذ صار شكرهم موقوفاً على أن تسلب عنهم النعمة، ثم ترد إليهم في بعض الأحوال، فالنعم في جميع الأحوال أولى بالشكر، فلا ترى البصير يشكر صحة البصر إلا أن يعمى، فإذا أعيد بصره أحس بالنعمة وشكرها حينئذ وعدها نعمة، وهو مثل عبد السوء يضرب دائماً، فإذا ترك ضربه ساعة، شكر وتقلد ذلك منة، وإن ترك ضربه أصلا، غلبه البطر وترك الشكر، فصار الناس لا يشكرون إلا على المآل الذي يتطرق الاختصاص إليه م حيث الكثرة والقلة، وينسون جميع نعم الله تعالى عليهم.
كما روى أن بعضهم شكا فقره إلى بعض أرباب البصيرة، وأظهر شدة اغتمامه بذلك، فقال له: أيسرك أنك أعمى ولك عشرة آلاف درهم؟ قال لا، قال: أيسرك أنك أخرس ولك عشرة آلاف درهم؟ قال: لا، قال: أيسرك أنك أقطع اليدين والرجلين ولك عشرون ألفاً؟ قال: لا، قال: أيسرك أنك مجنون ولك عشرة آلاف؟ قال: لا، قال: أما تستحي أن تشكو مولاك وله عندك عروض بخمسين ألفاً.
وحكى عن بعض الفقراء أنه اشتد به الفقر حتى ضاق به ذرعاً، فرأى في المنام كأن قائلاً يقول له: أتود أن أنسيناك سورة الأنعام ولك ألف دينار؟ قال: لا، قال: فسورة هود؟ قال: لا، قال: فسورة يوسف؟ قال: لا، قال فمعك قيمة مائة ألف دينار وأنت تشكو؟ فأصبح وقد سرى عنه.
ودخل ابن السماك على الرشيد في عظة. فبكى ثم دعا بماء في قدح فقال: يا أمبر المؤمنين، لو منعت هذه الشربة إلا بالدنيا وما فيها، أكنت تفديها بها، قال: نعم، قال فاشرب رياً، بارك الله فيك. فلما شرب، قال له: يا أمير المؤمنين، أرأيت لو منعت إخراج هذه الشربة منك إلا بالدنيا وما فيها، أكنت تفتدى ذلك؟ قال: نعم قال فما تصنع بشيء شربة ماء خير منه!
وهذا يبين أن نعمة الله على العبد في شربة ماء عند العطش أعظم من ملك الأرض كلها، ثم تسهيل خروج الحدث من أعظم النعم، وهذه إشارة وجيزة إلى النعم الخاصة.
اعلم: أن ما من عبد إلا إذا أمعن النظر رأى من نعم الله نعماً كثيرة لا يشاركه فيها عموم الناس، بل قد يشاركه في ذلك كثير منهم، من ذلك العقل، فما من عبد إلا وهو راضٍ عن الله سبحانه في عقله، يعتقد أنه أعقل الناس، وقلما يسأل الله العقل، وإذا كان ذلك اعتقاده، فيجب عليه أن يشكر الله تعالى على ذلك.
ومن ذلك الخلق، فإنه ما من عبد إلا ويرى من غيره عيوباً يكرهها، وأخلاقاً يذمها، ويرى نفسه بريئاً منها، فينبغي أن يشكر الله تعالى على ذلك، حيث أحسن خلقه وابتلى غيره.
ومن ذلك أن ما من أحد إلا وهو يعرف من بواطن أمور نفسه وخفايا أركانها ما هو منفرد به، ولو كشف الغطاء عنه حتى أطلع عليه أحد من الخلق لافتضح، فكيف لو اطلع الناس كافة؟ فلم لا يشكر الله بستره الجميل على مساويه، حيث أظهر الجميل وستر القبيح.
ولننزل إلى طبقة أعم من هذا القبيل، فنقول: ما من عبد إلا وقد رزقه الله تعالى في صورته، أو أخلاقه أو صفاته، أو أهله، أو ولده، أو مسكنه أو بلده، أو رفيقه أو أقاربه، أو جاهه، أو سائر محابه، أموراً، لو سلب ذلك وأعطى ما خصص به من ذلك غيره، لكان لا يرضى به، وذلك مثل أن جعله مؤمناً لا كافراً، وحياً لا جماداً، وإنساناً لا بهيمة، وذكراً لا أنثى، وصحيحاً لا مريضاً، وسليماً لا معيباً، فإن كل هذه خصائص.
فإن كان لا يرى أن يبدل حاله بحال غيره، مثل أن يعرف شخصاً يرتضى لنفسه حاله بدلاً عن حال نفسه، إما على الجملة، أو في أمر خاص، فإن الله عليه نعماً ليست
له على أحد من عباده سواه، وإن كان يرى انه يبدل حال نفسه بحال بعضهم دون بعض، فلينظر إلى عدد المغبوطين عنده، فإنه يراه عنده لا محالة أقل من غيرهم، فيكون من دونه في الحال أكثر بكثير ممن فوقه، فما باله ينظر فوقه ولا ينظر إلى من دونه؟!
وفى "الصحيحين" عن أبى هريرة رضى الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "إذا نظر أحدكم إلى من فضل عليه في المال والخلق، فلينظر إلى من هو أسفل منه ممن فضل عليه". وقد رواه الترمذي بلفظ آخر: "انظروا إلى من هو أسفل منكم، ولا تنظروا إلى من فوقكم، فإنه أجدر أن تزدروا نعمة الله عليكم"(1).
فإن من اعتبر حال نفسه، وفتش على ما خص به، وجد لله تعالى نعماً كثيرة، لا سيما من خص الإيمان، والقرآن، والعلم، والسنة، ثم الفراغ، والصحة والأمن وغير ذلك.
وقد روى في بعض الأحاديث "من قرأ القرآن فهو غني". وفي لفظ: "القرآن غنى لا فقر بعده، ولا غنى دونه"(2).
وفى حديث آخر: "من أصبح آمناً في سربه، معافى في بدنه، عنده قوت يومه، فكأنما حيزت له الدنيا بحذافيرها".
وقال بعضهم:
إذا ما القوت يأتي لـ
…
كَ والصحة والأمن
وأصبحت أخا حزن
…
فلا فارقك الحزن
فإن قيل: فما علاج القلوب الغافلة عن شكر نعم الله تعالى؟
فالجواب: أما القلوب المبصرة، فتتأمل ما رمز إليه من أصناف نعم الله عز وجل، وأما القلوب البليدة التي لا تعد النعمة نعمة إلا إذا نزل بها البلاء، فسبيل صاحبها أن
(1) وهو في مسلم أيضاً 4/ 2275 ونصه: "انظروا إلى من هو أسفل منكم ولا تنظروا إلى من هو فوقكم، فهو أجدر أن لا تزدروا نعمة الله" قال أبو معاوية وهو أحد الرواة "عليكم".
(2)
رواه أبو يعلى والطبراني من حديث أنس رضى الله عنه وفى مسنده يزيد بن أبان الرقاشي، وهو ضعيف، قال الدراقطني: ورواه أبو معاوية عن الأعمش عن يزيد الرقاشي عن الحسن مرسلاً، وهو أشبه بالصواب.