الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
4 ـ فصل [في عَالمٍ لم ينفعه علمه]
واعلم: أن المناظرة الموضوعة لقصد المغالبة والمباهاة منبع الأخلاق المذمومة، ولا يسلم صاحبها من كبر، لاحتقار المقصرين عنه، وعجب بنفسه لارتفاعه على كثير من نظرائه، ولا يسلم من الرياء، لأن جمهور مقصود المناظر اليوم علم الناس بغلبته، وإطلاق ألسنتهم بشكره ومدحه، فهو يُذِهبُ عمره فى العلوم التي تعين على المناظرة مما لا ينفع فى الآخرة، كحسن اللفظ، وحفظ النوادر.
وقد روى فى الحديث عن النبى صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: "أشد الناس عذاباً يوم القيامة عالم لم ينفعه علمه"(1).
5 ـ باب فى آداب المعلم والمتعلم وآفات العلم وبيان علماء السوء وعلماء الآخرة
أما المتعلم فينبغي له تقديم طهارة النفسعن رذائل الأخلاق ومذموم الصفات. إذ العلم عبادة القلب.
وينبغى له قطع العلائق الشاغلة، فان الفكرة متى توزعت قصرت عن إدراك الحقائق.
وقد كان السلف يؤثرون العلم على كل شىء، فروى عن الإمام أحمد رحمه الله أنه لم يتزوج إلا بعد الأربعين.
وأهديت إلى أبى بكر الأنبارى جارية، فلما دخلت عليه تفكر فى استخراج مسألة فعزبت عنه، فقال: أخرجوها إلى النخاس، فقالت: هل من ذنب؟ قال: لا، إلا أن قلبي اشتغل بك، وما قدر مثلك أن يمنعني علمي.
وعلى المتعلم أن يلقى زمامه إلي المعلم اللقاء المريض زمامه إلي الطبيب، فيتواضع له، ويبالغ فى خدمته.
وقد كان ابن عباس رضى الله عنه يأخذ بركاب زيد بن ثابت رضى الله عنه ويقول: هكذا أمرنا أن نفعل بالعلماء.
(1) رواه الطبراني في "الأوسط" وابن عدي في "الكامل" والبيهقي في "شعب الإيمان" وهو ضعيف جداً.
ومتى تكبر المتعلم أن يستفيد من غير موصوف بالتقدم فهو جاهل، لأن الحكمة ضالة المؤمن أينما وجدها أخذها، وليدع رأيه لرأى معلمه فان خطأ المعلم أنفع للمتعلم من صواب نفسه.
قال على رضى الله عنه: إن من حق العالم عليك أن تسلم على القوم عامة، وتخصه بالتحية، وأن تجلس أمامه، ولا تشير عنده بيدك، ولا تغمزن بعينك، ولا تكثر عليه السؤال، ولا تعينه فى الجواب، ولا تلح عليه إذا كسل، ولا تراجعه إذا امتنع، ولا تأخذ بثوبه إذا نهض، ولا تفشى له سراً، ولا تغتابن عنده أحداً، ولا تطلبن عثرته، وان زل قبلت معذرته، ولا تقولن له: سمعت فلانا يقول كذا، ولا أن فلاناً يقول خلافك. ولا تصفن عنده عالماً، ولا تعرض من طول صحبته، ولا ترفع نفسك عن خدمته، وإذا عرضت له حاجة سبقت القوم إليها، فإنما هو بمنزلة النخلة تنتظر متى يسقط عليك منها شئ.
وينبغى أن يحترز الخائض فى العلم فى مبدأ الأمر من الإصغاء إلى اختلاف الناس، فإن ذلك يحير عقله ويفتر ذهنه.
وينبغى له أن يأخذ من كل شئ أحسنه. لأن العمر لا يتسع لجميع العلوم، ثم يصرف جُمَام قوته إلى أشرف العلوم، وهو العلم المتعلق بالآخرة، الذى به يكتسب اليقين الذى حصله
أبو بكر الصديق رضى الله عنه، حتى شهد له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال:"ما سبقكم أبو بكر بكثرة صوم ولا صلاة، ولكن بشيء وقر فى صدره"(1) فهذه وظائف المتعلم.
وأما المعلم فعليه وظائف أيضاً:
من ذلك الشفقة على المتعلمين، وأن يجريهم مجرى بنيه، ولا يطلب على إفاضة العلم أجراً، ولا يقصد به جزاءاً ولا شكراً، بل يعلم لوجه الله تعالى، ولايرى لنفسه منة على المتعلمين، بل يرى الفضل لهم إذ هيؤوا قلوبهم للتقرب إلى الله تعالى بزارعة العلم فيها، فهم كالذي يعير الأرض لمن يزرع فيها
(1) خبر موضوع أورده ابن القيم رحمه الله في "المنار المنيف" ص 115 تحت قوله: ومما وضعه جهلة المنتسبين إلى السنة في فضائل الصديق رضى الله عنه. وقال: وهذا من كلام أبي بكر بن عياش، ونقله عنه ملا علي القاري في "الأسرار المرفوعة" ص 476 وأقره. وجاء في "المقاصد الحسنة" للسخاوي وغيره من كتب الموضوعات أنه من قول بكر بن عبدالله المزني.