الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
عليك قبل أن أخلق الدنيا، أفتريد أن أعيد خلق الدنيا من أجلك؟ أم تريد أن أبدل ما قدرت لك؟ فيكون ما تحب فوق ما أحب، ويكون ما تريد فوق ما أريد، وعزتي وجلالى، لئن تلجلج هذا في صدرك مرة أخرى لأمحونك من ديوان النبوة.
وفي "زبور داود" عليه السلام: هل تدرى من أسرع الناس مراً على الصراط؟ الذين يرضون بحكمي وألسنتهم رطبة من ذكرى.
وقال داود عليه السلام: يارب! أي عبادك أبغض إليك؟ قال: عبد استخارتي في أمر، فخرجت له، فلم يرض.
وقال عمر بن العزيز: ما بقى لى سرور إلا في مواقع القدر.
وقيل له: ما تشتهى؟ فقال: ما يقضى الله عز وجل.
وقال الحسن: من رضى بما قسم له، وسعه، وبارك الله فيه، ومن لم يرض لم يسعه، ولم يبارك له فيه.
وقال عبد الواحد بن زيد: الرضى باب الله الأعظم، وجنة الدنيا، ومستراح العابدين.
وقال بعضهم: لن يرد الآخرة أرفع درجات من الراضين عن الله تعالى على كل حال، فمن وهب له الرضى، فقد بلغ أفضل الدرجات.
وأصبح أعرابي وقد مات له أباعر كثيرة، فقال:
لا والذي أنا عبد في عبادته
…
لولا شماتة أعداء ذوى إحن
ما سرني أن إبلي في مباركها
…
وأن شيئاً قضاه الله لم يكن
6 ـ فصل [يتصور الرضى فيما يخالف الهوى]
ويتصور الرضى فيما يخالف الهوى. وبيان ذلك إذا جرى على الإنسان الألم، فتارة يحس به ويدرك ألمه، ولكنه يكون راضياً به، راغباً في زيادته بعقله، وإن كان كارها له بطبعه لما يوصله من الثواب. مثاله أن يلتمس من الحجام الحجامة والفصد، فإنه يدرك ألم ذلك، إلا أنه راض به، وراغب فيه ومتقلد منه الحجام.
وكذلك كل من يسافر في طلب الربح، فإنه يدرك مشقة السفر، لكن حبه لثمرة سفره طيب عنده تلك المشقة، وجعله راضياً بها، وكل من أصابه بلية من الله تعالى وكان له يقين، فانه يتوقع الأجر فوق ما فاته، فيرضى بما أصابه، ويشكر الله تعالى عليه، ويجوز أن يغلبه الحب، بحيث يكون حظ المحب في مراد محبوبه، ويبطل الإحساس بالألم لفرط الحب، وليس ذلك بعجيب، فان الرجل المحارب في حال غضبة أو خوفه، تصيبه الجرحات ولا يحس بها، ولا يشعر بها في تلك الحال، وذلك لأن قلبه مستغرق، وإذا كان القلب مستغرقاً بأمر من الأمور لم يدرك ما عداه، وذلك موجود في المشاهدات.
قال الجنيد رحمة الله: سألت سرياً: هل يجد المحب ألم البلاء؟ قال: لا.
وقد روينا عن خلق كثير من أهل البلاء، أنهم كانوا يقولون: لو قطعنا إرباً إرباً، ما ازددنا له إلا حباً.
وقد تقدم أن فرط الحب يزيل إحساس الألم، وهو متصور في حب الخلق، كما حكى بعضهم. قال: كان في جيراننا رجل له جارية يحبها، فاعتلت، فجلس يصلح لها حساء (1)، فبينا هو يحرك القدر، قالت: أوه، فدهش وسقطت الملعقة من يده، وجعل يحرك القدر بيده حتى تساقطت أصابعه وهو لا يعلم. ويؤيد هذا قصة النسوة حين شاهدن يوسف عليه السلام، فإنهن قطعن الأيدي، وما أحسن بألم، فقد بان بما ذكرنا أن الرضى بما يخالف الهوى ليس مستحيلاً، وإذا كان ذلك ممكناً في حق الخلق وحظوظهم، كان ممكنا في حق الله سبحانه، وحظوظ الآخرة بطريق الأولى.
وإمكان ذلك في ثلاثة أوجه:
أحدهما: علم المؤمن بأن تدبير الله تعالى خير من تدبيره.
وقد قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: "ما قضى الله لمؤمن من قضاء إلا كان خيراً له".
وعن مكحول قال: سمعت ابن عمر رضى الله عنه يقول: إن الرجل يستخير الله فيختار له، فيسقط فلا يلبث أن ينظر في العاقبة، فإذا هو قد خير له.
(1) بالفتح والمد: طعام يتخذ من دقيق وماء ودهن، وقد يحلى ويكون رقيقاً يحسى.
وعن مسروق قال: كان رجل بالبادية له كلب وحمار وديك، فالديك يوقظ للصلاة، والحمار ينقلون عليه الماء ويحمل خباءهم، والكلب يحرسهم. فجاء الثعلب فأخذ الديك، فحزنوا فقال الرجل: عسى أن يكون خيراً، ثم جاء ذئب فخرق بطن الحمار، فحزنوا، فقال، الرجل: عسى أن يكون خيراً، ثم أصبحوا ذات يوم، فنظروا فإذا قد سبي من حولهم وبقوا هم، وإنما أخذ أولئك بما كان عندهم من الصوت والجلبة، ولم يكن عند أولئك شىء يجلب، قد ذهب كلبهم وحمارهم وديكهم.
وعن سعيد بن المسيب قال: قال لقمان لابنه: يابنى: لا ينزلن بك أمر رضيته أو كرهته، إلا جعلت في الضمير أن ذلك خير لك. قال: أما هذه فلا أقدر أن أعطيكها دون أن أعلم ما قلت أنه كما قلت. قال: يابنى: فإن الله قد بعث نبياً هلم حتى نأتيه، فعنده بيان ما قلت لك. قال: اذهب بنا إليه، فخرج على حمار وابنه على حمار، وتزودوا ما يصلحهما، ثم سارا أياماً وليالى، حتى تلقهما مفازة، فأخذا أهبتهما ودخلاها، فسارا ما شاء الله أن يسيرا، حتى تعالى النهار واشتد الحر ونفد الماء والزاد، فاستبطآ حماريهما، فنزلا يمشيان، فبينما هما كذلك، إذ نظر لقمان أمامه، فإذا هو بسواد ودخان، فقال في نفسه: السواد شجر، والدخان عمران وناس، فبينما هما كذلك يشهدان، إذ وطئ ابن لقمان على عظم على الطريق، فدخل في باطن قدمه حتى ظهر من أعلاها، فخر مغشياً عليه، فحانت من لقمان التفاتة، فإذا هو بابنه صريع، فوثب إليه فضمه إلى صدره، واستخرج العظم بأسنانه، وشق عمامة كانت عليه فعصب رجله، ثم نظر إلى وجه ابنه فذرفت عيناه فقطرت قطرة من دموعه على خد الغلام فانتبه لها، فنظر إلى أبيه يبكى، فقال يا أبت: أنت تبكى وأنت تقول هذا خير لي، فكيف ذلك وأنت تبكى؟! وقد نفذ الطعام والشراب وبقيت أنا وأنت في هذا المكان. قال: أما بكائي يابنى، فوددت أنى افتديتك بجميع حظي من الدنيا، ولكنى والد ومنى رقة الوالد. وأما قولك: كيف يكون هذا خيراً لى؟ فلعل ما صرف عنك أعظم مما ابتليت به، ولعل ما ابتليت به أيسر مما صرف عنك، فبينما هو يحاوره، إذ نظر لقمان أمامه، فلم ير الدخان والسواد، فقال في نفسه: لم أر شيئاً، ثم قال: قد رأيت، ولكن لعله أن يكون قد أحدث ربى بما رأيت شيئاً، فبينما هو يتفكر في ذلك، إذا نظر فإذا هو بشخص قد أقبل على فرس أبلق، عليه ثياب بيض، يمسح الهواء مسحاً. فلم يزل يرمقه بعينيه حتى كان منه قريباً، فتوارى عنه ثم صاح به