الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
5 ـ باب في الحقد والحسد
اعلم: أن الغيظ إذا كظم لعجز عن التشفي في الحال رجع إلى الباطن، فاحتقن فيه فصار حقداً.
وعلامته دوام بغض الشخص واستثقاله والنفور منه، فالحقد ثمرة الغضب، والحسد من نتائج الحقد.
وعن الزبير بن العوام رضى الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "دب إليكم داء الأمم قبلكم الحسد والبغضاء"(1).
وفى "الصحيحين" عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: "لا تباغضوا، ولا تقاطعوا، ولا تحاسدوا، ولا تدابروا، كونوا عباد الله إخواناً".
وفى حديث آخر عنه صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: " إن الحسد يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب (2) ".
وفى حديث آخر أنه قال: "يطلع عليكم من هذا الفج (3) رجل من أهل الجنة، فطلع رجل، فسئل عن عمله، فقال: إني لا أجد لأحد من المسلمين في نفسي غشاً ولا حسداً على خير أعطاه الله إياه".
وروينا أن الله تبارك وتعالى يقول:
"الحاسد عدو نعمتي، متسخط لقضائي، غير راض بقسمتي بين عبادي".
وقال ابن سيرين: ما حسدت أحداً على شئ من أمر الدنيا، لأنه إن كان من أهل الجنة، فكيف أحسده على شئ من أمر الدنيا، وهو يصير إلى الجنة، وإن كان من أهل النار، فكيف أحسده على شئ من أمر الدنيا، وهو يصير إلى النار.
وقال إبليس لنوح عليه السلام: إياك والحسد، فإنه صيرني إلى هذه الحال.
(1) ضعيف أخرجه أحمد والترمذي عن الزبير بن العوام.
(2)
أخرجه ابن ماجه (4210) من حديث أنس وفي سنده عيسى بن أبي عيسى الحناط وهو ضعيف، وأخرجه بنحوه أبو داود (4903).
(3)
الفج بالفتح: الطريق الواسع بين الجبلين، والجمع فجاج.
واعلم: أن الله تعالى إذا نعم على أخيك نعمة، فلك فيها حالتان:
إحداها: أن تكره تلك النعمة وتحب زوالها، فهذا هو الحسد.
والحالة الثانية: أن لا تكره وجودها ولا تحب زوالها، ولكنك تشتهى لنفسك مثلها، فهذا يسمى غبطة.
قال المصنف رحمه الله:
قلت: واعلم أنى ما رأيت أحداً حقق الكلام في هذا كما ينبغي، ولابد لى من كشفه فأقول:
اعلم: أن النفس قد جلبت على حب الرفعة، فهي لا تحب أن يعلوها جنسها، فإذا علا عليها، شق عليها وكرهته، وأحبت زوال ذلك ليقع التساوي، وهذا أمر مركوز في الطباع. وقد روى أبو هريرة رضى الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال:"ثلاث لا ينجو منهن أحد: الظن، والطِّيرة، والحسد، وسأحدثكم ما المخرج من ذلك، إذا ظننت فلا تحقق، وإذا تطيرت فامض، وإذا حسدت فلا تبغ"(1).
وعلاج الحسد، تارة بالرضى بالقضاء، وتارة بالزهد في الدنيا، وتارة بالنظر فيما يتعلق بتلك النعم من هموم الدنيا وحساب الآخرة، فيتسلى بذلك ولا يعمل بمقتضى ما في النفس أصلاً، ولا ينطق، فإذا فعل ذلك لم يضره ما وضع في جبلته.
فأما من يحسد نبياً على نبوته، فيجب أن لا يكون نبياً، أو عالماً على علمه، فيؤثر أن يرزق ذلك أو يزول عنه، فهذا لا عذر له، ولا تجبل عليه إلا النفوس الكافرة أو الشريرة، فأما إن أحب أن يسبق أقرانه، ويطلع على ما لم يدركوه، فإنه لا يأثم بذلك، فإنه لم
يؤثر زوال ما عندهم عنهم، بل أحب الارتفاع عنهم ليزيد حظه عند ربه، كما لو استبق عبدان إلى خدمة مولاهما، فأحب أحدهما أن يستبق. وقد قال الله تعالى:{وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ} [المطففين: 26](2).
وفى "الصحيحين" من حديث ابن عمر رضى الله عنهما، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: "لا حسد إلا في اثنتين: رجل آتاه الله عز وجل القرآن، فهو يقوم
(1) أخرجه ابن أبي الدنيا في كتاب "ذم الحسد" من حديث أبي هريرة، وفيه يعقوب بن محمد الزهري، وموسى بن يعقوب الزمعي ضعفهما الجمهور.
(2)
يقال نافست في الشيء منافسة، ونفاساً: إذا رغبت فيه على وجه المباراة في الكرم، وتنافسوا فيه، أي: رغبوا.
به آناء الليل وآناء النهار، ورجل آتاه الله مالاً، فهو ينفقه في الحق آناء الليل وآناء النهار".
والحسد له أسباب:
أحدها: العداوة، والتكبر، والعجب، وحب الرياسة، وخبث النفس، وبخلها، وأشدها: العداوة والبغضاء، فإن من آذاه إنسان بسبب من الأسباب، وخالفه في غرضه، أبغضه قلبه، ورسخ في نفسه الحقد.
والحقد يقتضي التشفي والانتقام، فمهما أصاب عدوه من البلاء فرح بذلك، وظنه مكافأة من الله تعالى له، ومهما أصابته نقمة ساءه ذلك، فالحسد يلزم البغض والعداوة ولا يفارقهما، وإنما غاية التقى أن لا يبغي، وأن يكره ذلك من نفسه، فأما أن يبغض إنساناً فيستوي عنده مسرته ومساءته، فهذا غير ممكن.
وأما الكبر، فهو أن يصيب بعض نظرائه مالاً أو ولاية، فيخاف أن يتكبر عليه ولا يطيق تكبره، وأن يكون من أصاب ذلك دونه، فلا يحتمل ترفعه عليه أو مساواته. وكان حسد الكفار لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قريباً من ذلك. قال الله تعالى:{وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ} [الزخرف: 31] وقال في حق المؤمنين: {أَهَؤُلَاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا} [الأنعام: 53] وقال في آية أخرى: {مَا أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا} [يس: 15] وقال: {وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَرًا مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذًا لَخَاسِرُونَ} [المؤمنون: 34] فعجبوا وأنفوا من أن يفوز برتبة الرسالة بشر مثلهم فحسدوهم.
وأما حب الرياسة والجاه، فمثاله أن الرجل الذي يريد أن يكون عديم النظير في فن من الفنون، إذا غلب عليه حب الثناء، واستفزه الفرح بما يمدح به، من أنه أوحد العصر، وفريد الدهر في فنه، إذا سمع بنظير له في أقصى العالم، ساءه ذلك وأحب موته، أو زوال النعمة التي بها يشاركه في علم، أو شجاعة، أو عبادة، أو صناعة، أو ثروة، أو غير ذلك، وليس ذلك إلا لمحض الرياسة بدعوى الانفراد.
وقد كان علماء اليهود ينكرون معرفة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ولا يؤمنون خوفاً من بطلان رئاستهم.
وأما خبث النفس وشحها على عباد الله، فإنك تجد من الناس من لا يشتغل برئاسة