الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
6 ـ فصل [في ترك الطاعات خوفاً من الرياء]
فأما ترك الطاعات خوفاً من الرياء، فإن كان الباعث له على الطاعة غير الدين، فهذا ينبغي أن يترك، لأنه معصية لا طاعة فيه.
وإن كان الباعث على ذلك الدين، وكان ذلك لأجل الله تعالى خالصاً، فلا ينبغي أن يترك العمل، لأن الباعث الدين.
وكذلك إذا ترك العمل خوفاً من أن يقال: إنه مراءٍ، فلا ينبغي ذلك، لأنه من مكائد الشيطان.
قال إبراهيم النخعي: إذا أتاك الشيطان وأنت في الصلاة فقال: إنك مراءٍ، فزدها طولاً.
وأما ما روي عن بعض السلف أنه ترك العبادة خوفاً من الرياء، كما روي عن إبراهيم النخعي أن إنساناً دخل عليه وهو يقرأ في المصحف، فأطبق المصحف وترك القراءة، وقال: لا يراني هذا أني أقرأ كل ساعة، فيحمل هذا علي أنهم أحسوا من نفوسهم بنوع تزين فقطعوا.
7 ـ فصل في بيان ما يصح من نشاط العبد بسبب رؤية الخلق وما لا يصح
قد يبيت الرجل مع المتهجدين، فيصلون أكثر الليل، وعادته قيام ساعة، فيوافقهم، أو يصومون فيصوم، ولولاهم ما انبعث هذا النشاط.
فربما ظن ظان أن هذا رياء، وليس كذلك على الإطلاق، بل فيه تفصيل، وهو أن كل مؤمن يرغب في عبادة الله تعالى، ولكن تعوقه العوائق، فإن الإنسان إذا كان في منزله تمكن من النوم على فراش وطيء وتمتع بزوجته، فإذا بات في مكان غريب، اندفعت هذه الشواغل، وحصلت له أسباب تبعث على الخير، منها مشاهدة العابدين.
وقد يعسر عليه الصوم في منزله لكثرة المطاعم، بخلاف غيره، ففي مثل هذه الأحوال ينتدب الشيطان للصد عن الطاعة، ويقول: إذا عملت غير عادتك كنت مرائياً فلا ينبغي أن يلتفت إليه، وإنما ينبغي أن ينظر إلى قصده الباطن، ولا يلتفت إلى وسواس الشيطان.
ويختبر أمره بأن يمثل القوم في مكان يراهم ولا يرونه، فإن رأى نفسه تسخو بالتعبد فهو لله، وإن لم تسخ كان سخاؤها عندهم رياء، وقس على هذا.
فهذه جملة آفات الرياء، فكن بحاثاً عنها، وتفقد نيتك، فإن الرياء أخفى من دبيب النمل.
وينبغي للمريد أن يلزم قلبه القناعة بعلم الله في جميع طاعته.
وإنما يقنع بذلك من خاف الله ورجاه، ولا ينبغي أن يؤيس نفسه من الإخلاص
بأن يقول: إنما يقدر على الإخلاص الأقوياء، وأنا من المخلطين، فيترك المجاهدة في تحصيل الإخلاص، لأن المخلط إلى ذلك أحوج.
قال إبراهيم بن أدهم: تعلمت المعرفة من راهب يقال له سمعان: دخلت على صومعته فقلت له: منذ كم أنت في صومعتك هذه؟ قال منذ سبعين سنة، قلت: ما طعامك؟ قال: كل ليلة حمصة، قلت: فما الذي يهيج من قلبك حتى تكفيك هذه الحمصة؟ قال: ترى (الدير) الذي بحذائك؟ قلت: نعم، قال: إنهم يأتوني في كل سنة يوماً واحداً فيزينون صومعتي ويطوفون حولها يعظموني بذلك، فكلما تثاقلت نفسي عن العبادة، ذكرتها عز تلك الساعة، فأنا أحتمل جهد سنة لعز ساعة، فاحتمل ياحنيفي جهد ساعة لعز الأبد، فوقر في قلبي المعرفة، فقال: أزيدك؟ قلت: نعم، قال: أنزل عن الصومعة، فنزلت فأدلى إلي ركوة فيها عشرين حمصة، ثم قال لي: ادخل الدير، فقد رأوا ما أدليت إليك، فلما دخلت الدير، اجتمعت النصارى فقالوا: يا حنيفي، ما الذي أدلى إليك الشيخ؟ قلت: شيئاً من قوته. قالوا: وما تصنع به؟ نحن أحق به، ساوم به، قلت: عشرون ديناراً، فأعطوني عشرين ديناراً، فرجعت إلى الراهب، فقال: أخطأت، لو ساومتهم عشرين ألفاً لأعطوك، هذا عز من لا يعبده، فانظر كيف يكون عز من يعبده، يا حنيفي أقبل على عبادة ربك.
فقد بان بهذا أن استشعار النفوس عز العظمة في القلوب يكون باعثاً إلى الخلوة، فهذه آفة عظيمة، وعلامة سلامته منها أن يكون الخلق عنده والبهائم بمثابة واحدة، ويكون عمله عمل من ليس على الأرض غيره، فإذا خطرت خطرات ضعيفة ردها الله، والله تعالى أعلم.
***