الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
2 ـ الفصل الثاني في العجب:
روى عن أبى هريرة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: "بينما رجل يتبختر في بردين وقد أعجبته نفسه، خسف الله به الأرض، فهو يتجلجل (1) فيها إلى يوم القيامة".
وقال صلى الله عليه وآله وسلم: "ثلاث مهلكات: شح مطاع، وهوىً متبع، وإعجاب المرء بنفسه".
وروى عن ابن مسعود أنه قال: الهلاك في شيئين: العجب والقنوط. وإنما جمع بينهما لأن السعادة لا تنال إلا بالطلب والتشمير، والقانط لا يطلب، والمعجب يظن أنه قد ظفر بمراده فلا يسعى.
قال مطرف رحمه الله: لأن أبيت نائماً وأصبح نادماً، أحبُ إلى من أن أبيت قائما وأصبح معجباً.
واعلم: أن العجب يدعو إلى الكبر، لأنه أحد أسبابه، فيتولد من العجب الكبر، ومن الكبر الآفات الكثيرة، وهذا مع الخلق.
فأما مع الخالق، فإن العجب بالطاعات نتيجة استعظامها، فكأنه يمن على الله تعالى بفعلها، وينسى نعمته عليه بتوفيقه لها، ويعمى عن آفاتها المفسدة لها.
وإنما يتفقد آفات الأعمال من خاف ردها دون من رضيها وأعجب بها.
والعجب إنما يكون بوصف كمال من علم أو عمل، فإن انضاف إلى ذلك أن يرى حقاً له عند الله إدلالاً، فالعجب، يحصل باستعظام ما عجب به، والإدلال يوجب توقع الجزاء، مثل أن يتوقع إجابة دعائه وينكر رده.
1 ـ فصل في علاج العجب
اعلم أن الله سبحانه هو المنعم عليك بإيجادك وإيجاد أعمالك، فلا معنى لعجب عامل بعمله، ولا عالم بعلمه، ولا جميل بجماله، ولا غنى بغناه، إذ كل ذلك من فضل الله تعالى، وإنما الآدمي محل لفيض النعم عليه، وكونه محلاً له نعمة أخرى.
(1) أي: يغوص في الأرض حين يخسف به، والجلجلة: الحركة مع الصوت.
فان قلت: إن العمل حصل بقدرتك ولا يتصور العمل إلا بوجودك ووجود عملك وإرادتك وقدرتك فمن أين قدرتك، وكل ذلك من الله تعالى لا منك، فإن كان العمل بالقدرة فالقدرة مفتاحه، وهذا المفتاح بيد الله تعالى، وما لم تعط المفتاح لا يمكنك العمل كما لو قعدت عند خزانة مغلقة لم تقدر على ما فيها إلا أن تعطى مفتاحها.
وفى "الصحيحين" من حديث أبى هريرة، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال:"لن يدخل أحداً منكم عمله الجنة"، قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: "ولا أنا، إلا أن يتغمدني الله برحمة منه وفضل".
واعلم: أن العجب يكون بالأسباب التي يقع بها الكبر، وقد سبق ذكرها وعلاجها.
ومن ذلك العجب بالنسب، كما يتخيل الشريف أنه ينجو بشرف آبائه، وعلاجه أن يعلم أنه متى خالف آباءه، وظن أنه ملحق بهم، فقد جهل، وإن اقتدى بهم، فإنه لم يكن العجب من أخلاقهم، بل الخوف والإزراء على النفس.
وإنما شرفوا بالطاعة المحمودة، لا بنفس النسب. قال الله تعالى:{إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات: 13]، وقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم:"يا فاطمة، لا أغنى عنك من الله شيئاً".
فإن قلت: إنما يرجو الشريف أن يشفع فيه ذوو قرابته.
فالجواب: أن كل المسلمين يرجون الشفاعة، وقد يشفع في الشخص بعد إحراقه بالنار، وقد يقوى الذنب فلا تنجى الشفاعة.
وفي "الصحيحين" من حديث أبى هريرة أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: "لا ألفين (1) أحدكم يجئ يوم القيامة على رقبته بعير له رغاء، فيقول: يا رسول الله، أغثني. فأقول: لا أملك لك شيئاً، قد أبلغتك".
ومثل المنهمك في الذنوب اعتماداً على رجاء الشفاعة، كمثل المريض المنهمك في الشهوات، اعتماداً على طبيبه الحاذق المشفق، وذلك جهل، فإن اجتهاد الطبيب، ينفع بعض الأمراض لا كلها.
(1) أي، لا أجد ولا ألفى، يقال: ألفيت الشيء: إذا وجدته
ويوضح هذا أن سادات الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين كانوا يخافون من الآخرة، فكيف يتكل من ليس في مثل مراتبهم؟!
ومن ذلك العجب بالرأي الخطأ، كما قال الله تعالى:{أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا} [فاطر: 8]. وعلاج هذا أشد من علاج غيره، فإن هذا متى كان معجباً برأيه لم يصغ إلى نصح ناصح، وكيف يترك ما يعتقده نجاة؟! وإنما علاجه في الجملة أن يكون متهماً لرأيه أبداً، لا يغتر به، إلا أن يشهد له قاطع من كتاب، أو سنة أو دليل عقلي جامع لشروط الأدلة، ولن يعرف ذلك إلا بمجالسة أهل العلم وممارسة الكتاب والسنة.
والأولى لمن يتفرغ لاستغراق العمر في العلم أن لا يخوض في المذاهب، ولكن يقف عند اعتقاد الجمل، وأن الله سبحانه واحد لا شريك له، {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} ، وأن رسول الله صادق فيما جاء به ويؤمن بما جاء به القرآن من غير بحث ولا تنقير، ويصرف زمنه في التقوى، وأداء الطاعات، فمتى خاض في المذاهب ورام ما لا يصل إلى معرفته، هلك.
***