الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فنحيت نفسي عنه، فأخذ ثيابي فجرني إليه وقال: لم تفعلون بى ما تفعلون بالجبابرة، وإني لا أعرف منكم رجلا شراً منى؟ !
ومنها أن لا يتعاطى بيده شغلاً في بيته، وهذا بخلاف ما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
ومنها أن لا يحمل متاعه من سوقه إلى بيته، وقد اشترى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم شيئاً وحمله. وكان أبو بكر رضى الله عنه يحمل الثياب إلي السوق يتجر فيها. واشترى عمر رضى الله عنه لحماً فعلقه بيده وحمله إلى بيته. واشترى على رضى الله عنه تمراً فحمله في ملحفة، فقال له قائل: أحمل عنك؟ قال: لا، أبو العيال أحق أن يحمل.
وأقبل أبو هريرة رضى الله عنه يوماً من السوق وقد حمل حزمة حطب، وهو يومئذ خليفة مروان، فقال لرجل: أوسع الطريق للأمير.
ومن أراد إن ينفى الكبر، ويستعمل التواضع، فعليه بسيرة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وقد سبقت الإشارة إليها في كتاب "آداب المعيشة".
…
2 ـ بيان معالجة الكبر واكتساب التواضع
واعلم: أن الكبر من المهلكات، ومداواته فرض عين، ولك في معالجته مقامان:
الأول: في استئصال أصله وقطع شجرته، وذلك بأن يعرف الإنسان نفسه ويعرف ربه، فإنه إذا عرف نفسه حق المعرفة، علم أنه أذل من كل ذليل، ويكفيه أن ينظر في أصل وجوده بعد العدم من تراب، ثم من نطفة خرجت من مخرج البول، ثم من علقة، ثم من مضغة، فقد صار شيئاً مذكوراً، بعد أن كان جماداً لا يسمع ولا يبصر، ولا يحس ولا يتحرك، فقد ابتدأ بموته قبل حياته، وبضعفه قبل قوته، وبفقره قبل غناه.
وقد أشار الله تعالى إلى هذا بقوله: {مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ (18) مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ} [عبس: 18 و 19] ثم امتن عليه بقوله: {ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ} [عبس: 20]، وبقوله:
{فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا} [الدهر: 2] فأحياه بعد الموت، وأحسن تصويره، وأخرجه إلى الدنيا، فأشبعه وأرواه، وكساه وهداه وقواه.
فمن هذا بدايته، فأي وجه لكبره وفخره؟
على أنه لو دام له الوجود على اختياره لكان لطغيانه طريق، بل قد سلط عليه الأخلاط المتضادة، والأمراض الهائلة، بينما بنيانه قد تم، إذ هو قد وهى وتهدم، لا يملك الشيء لنفسه ضراً ولا نفعاً، بينها هو يذكر الشيء فينساه، ويستلذ بشيء فيرديه، ويروم الشيء فلا يناله، ثم لا يأمن أن يسلب حياته بغتة.
هذا أوسط حاله، وذاك أول أمره، وأما آخر أمره، فالموت الذي يعده جماداً كما كان، ثم يلقى في التراب فيصير جيفة منتنه، وتبلى أعضاؤه، وتنخر عظامه، ويأكل الدود أجزاؤه، ويعود تراباً يعمل منه الكيزان، ويعمر منه البنيان، ثم بعد طول البلى تجمع أجزاؤه المتفرقة، ويحضر عرصة القيامة، فيرى أرضاً مبدلة، وجبالاً مسيرة، وسماءً منشقة، ونجوماً منكدرة، وشمساً مكورة، وأحوالاً مظلمة، وجحيماً تزفر، وصحائف تنشر، ويقال له:{اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا} [الإسراء: 14]. فيقول: وما كتابي؟ فيقال: كان قد وكل بك في حياتك التي كنت تفرح بها وتتكبر بنعيمها ملكان يحصيان ما تنطق به وتعمل من قليل وكثير، وقيام وقعود، وأكل وشرب، وقد نسيت ذلك، وأحصاه الله تعالى، فهلم إلى الحساب عليه، وأعد جواباً به، وإلا فأنت تساق إلى النار، فما لمن هذه حاله التكبر؟ فإن صار إلى النار، فالبهائم أحسن حالاً منه، لأنه تعود إلى التراب، ومن هذا حاله وهو على شك من العفو عن أخطائه، كيف يتكبر؟! ومن الذي يسلم من ذنب يستحق به العقوبة، وما مثله إلا كمثل رجل جنى على ملك جناية استحق أن يضرب لأجلها ألف سوط، فحبس في السجن ليخرج فيعاقب، وهو منتظر أن يدعى به لذلك. أفتراه يتكبر على أهل السجن؟ وهل الدنيا إلا سجن، وهل المعاصي إلا موجبة للعقاب؟.
وأما معرفة ربه، فيكفيه أن ينظر في آثار قدرته وعجائب صنعته، فتلوح له العظمة، وتظهر له المعرفة، فهذا هو العلاج القالع لأصل الكبر.
ومن العلاج العملي التواضع بالفعل لله تعالى ولعباده، وذلك بالمواظبة على استعمال خلق المتواضعين، وقد تقدمت الإشارة إلى طريقة رسول الله صلى الله عليه
وآله وسلم، وما كان عليه من التواضع والأخلاق الجميلة.
المقام الثاني: فيما يعرض من التكبر بالأنساب، فمن اعتراه الكبر من جهة النسب، فليعلم أن هذا تعزز بكمال غيره، ثم يعلم أباه وجده، فإن أباه القريب نطفة قذرة، وأباه البعيد تراب، ومن اعتراه الكبر بالجمال، فلينظر إلى باطنه نظر العقلاء، ولا ينظر إلى ظاهره نظر البهائم، ومن اعتراه من جهة القوة، فليعلم أنه لو آلمه عرق، عاد أعجز من كل عاجز، إن حمى يوم تحلل من قوته ما لا يود في مدة، وإن شوكة لو دخلت في رجله لأعجزته، وبقة لو دخلت في أذنه لأقلقته.
ومن تكبر بسبب الغنى، فإذا تأمل خلقاً من اليهود، وجدهم أغنى منه، فأف لشرف تسبق به اليهود ويستلبه السارق في لحظة، فيعود صاحبه ذليلاً.
ومن تكبر بسبب العلم، فليعلم أن حجة الله على العالم آلد من الجاهل، وليتفكر في الخطر العظيم الذي هو بصدده، فإن خطره أعظم من خطر غيره، كما أن قدره أعظم من قدر غيره.
وليعلم أيضاً أن الكبر لا يليق بالله سبحانه، وأنه إذا تكبر صار ممقوتاً عند الله تعالى بغيضاً عنده. وقد أحب الله منه أن يتواضع، وكذلك كل سبب يعالجه بنقيضه ويستعمل التواضع.
واعلم: أن هذا الخلق كسائر الأخلاق له طرفان ووسط:
فطرفه الذي يميل إلى الزيادة تكبراً.
وطرفه الذي يميل إلى النقصان يمسي تخاسساً ومذلة.
والوسط يمسي تواضعاً، وهو المحمود وهو أن يتواضع من غير مذلة، فخير الأمور أوساطها، فمن تقدم على أقرانه فهو متكبر، ومن تأخر عنهم، فهو متواضع، لأنه قد وضع شيئاً من قدره، فأما إذا أدخل على العالم إسكاف أو نحوه، فتنحى له عن مجلسه أو أجلسه فيه، ثم قدم له نعله ومشى معه إلى الباب، فقد تخاسس وتذلل، فذلك غير محمود، بل المحمود العدل، وهو أن يعطى كل ذي حق حقه، لكن تواضعه للسوقة بالرفق في السؤال واللين في الكلام، وإجابة الدعوة، والسعى في الحاجة، ولا يحقره، ولا يستصغره، والله أعلم.