الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أما حجة من اختار المخالطة، فمن ذلك قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم:" المؤمن الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم خير من الذي لا يخالطهم ولا يصبر على أذاهم "، واحتجوا بأشياء غير ذلك ضعيفة لا تقوم بها حجة على ذلك، منها قول الله تعالى:{وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا} [آل عمران: 105]، وهذا ضعيف، لأن المراد تفرق الآراء والمذاهب في أصل الشريعة، واحتجوا أيضاً بقوله صلى الله عليه وآله وسلم:" لا هجرة فوق ثلاث " قالوا: والعزلة هجر بالكلية، وهذا ضعيف لأن المراد به قطع الكلام والسلام والمخالطة المعتادة.
1 ـ فصل في ذكر فوائد العزلة وغوائلها وكشف الحق في فضلها
اعلم: أن اختلاف الناس في هذا أيضاً هو كاختلافهم في فضيلة النكاح والعزوبة، وقد ذكرنا أن ذلك يختلف باختلاف الأحوال والأشخاص، فكذلك نقول فيما نحن فيه، فلنذكر أولاً فوائد العزلة وهى ست.
الفائدة الأولى: الفراغ للعبادة، والاستئناس بمناجاة الله سبحانه، فإن ذلك يستدعى فراغاً، لا فراغ مع المخالطة، فالعزلة وسيلة إلى ذلك خصوصاً في البداية.
قيل لبعض الحكماء: إلى أي شئ أفضى بهم الزهد والخلوة؟ قال: إلى الأنس بالله.
وقال أويس القرني رضى الله عنه: ما كنت أرى أن أحداً يعرف ربه فيأنس بغيره.
واعلم: أن من تيسر له بدوام الذكر الأنس بالله، أو بدوام الفكر تحقيق معرفة الله، فالتجرد لذلك أفضل من كل ما يتعلق بالمخالطة.
الفائدة الثانية: التخلص بالعزلة عن المعاصيالتي يتعرض لها الإنسان غالباً بالمخالطة، وهى أربعة:
أحدهما: الغيبة، فإن عادة الناس التمضمض بالأعراض والتفكه بها، فإن خالطتهم ووافقتهم أثمت وتعرضت لسخط الله تعالى، وإن سكت كنت شريكاً، فإن المستمع أحد المغتابين، وإن أنكرت أبغضوك واغتابوك فازدادوا غيبة إلى الغيبة، وربما
خرجوا إلى الشتم.
الثانية: الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، فإن من خالط الناس لم يخل ع مشاهدة المنكرات، فإن سكت عصى الله، وإن أنكر تعرض لأنواع من الضرر، في العزلة سلامة من هذا.
الثالثة: الرياء، وهو الداء العضال الذي يعسر الاحتراز منه، وأول ما في مخالطة الناس إظهار التشوق إليهم، ولا يخلو ذلك عن الكذب، إما في الأصل، وإما في الزيادة، وقد كان السلف يحترزون في جواب قول القائل: كيف أصبحت، وكيف أمسيت؟ كما قال بعضهم وقد قيل له: كيف أصبحت؟ قال: أصبحنا ضعفاء مذنبين، نأكل أرزاقنا، وننتظر آجالنا.
واعلم: أنه إذا كان سؤال السائل لأخيه: كيف أصبحت؟ لا يبعثه عليه شفقة ولا محبة، كان تكلفاً أو رياء، وربما سأله وفى القلب ضغن وحقد يورث أن يعلم فساد حاله، وفى العزلة الخلاص عن هذا، لأنه من لقي الخلق ولم يخالقهم بأخلاقهم، مقتوه واستثقلوه واغتابوه، ويذهب دينهم فيه، ويذهب دينه ودنياه في الانتقام منهم.
الرابعة: مسارقة الطبع من أخلاقهم الرديئة، وهو داء دفين قلما ينتبه له العقلاء فضلاً عن الغافلين، وذلك أنه قل أن يجالس الإنسان فاسقاً مدة، مع كونه منكراً عليه في باطنه، إلا ولو قاس نفسه إلى ما قبل مجالسته لوجد فارقاً في النفور عن الفساد، لأن الفساد يصير بكثرة المباشرة هيناً على الطبع، ويسقط وقعه واستعظامه، ومهما طالت مشاهدة الإنسان الكبائر من غيره، احتقر الصغائر من نفسه، كما أن الإنسان إذا لاحظ أحوال السلف في الزهد والتعبد، احتقر نفسه، واستصغر عبادته، فيكون ذلك داعية إلى الاجتهاد، وبهذه الدقيقة يعرف سر قول القائل: عند ذكر الصالحين تنزل الرحمة.
ومما يدل على سقوط وقع الشيء بسبب تكرره ومشاهدته، أن أكثر الناس إذا رأوا مسلماً قد أفطر في رمضان، استعظموا ذلك، حتى يكاد يفضي إلى اعتقادهم فيه الكفر، وقد يشاهدون من يؤخر الصلاة عن أوقاتها، فلا ينفرون عنه نفورهم عن تأخير الصوم، مع أن ترك صلاة واحدة تخرج إلى الكفر، ولا سبب لذلك إلا أن الصلاة تتكرر، والتساهل فيها يكثر، وكذلك لو لبس الفقيه ثوباً حرير، أو خاتماً من ذهب، لاشتد إنكار الناس لذلك، وقد يشاهدونه يغتاب، فلا يستعظمون ذلك،
والغيبة أشد من لبس الحرير، ولكن لكثرة سماعها، ومشاهدة المغتابين، سقط عن القلوب وقعها، فافطن لهذه الدقائق واحذر مجالسة الناس، فانك لا تكاد ترى منهم إلا ما يزيد في حرصك على الدنيا، وفى غفلتك عن الآخرة، وتهون عليك المعصية، وتضعف رغبتك في الطاعات، فإن وجدت مجلساً يذكر الله فيه، فلا تفارقه فإنه غنيمة المؤمن.
الفائدة الثالثة: الخلاص من الفتن والخصومات، وصيانة الدين عن الخوض فيها، فإنه قلما تخلو البلاد من العصبية والخصومات، والمعتزل عنهم سليم.
وقد روى ابن عمر رضى الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ذكر الفتن، ووصفها وقال:"إذا رأيت الناس قد مرجت عهودهم (1)، وخفت أماناتهم، فكانوا هكذا" وشبك بين أصابعه، فقلت: ما تأمرني؟ فقال: "الزم بيتك، واملك عليك لسانك، وخذ ما تعرف، ما تنكر، وعليك بأمر الخاصة، ودع أمر العامة".
وقد روى غير ذلك من الأحاديث في معناه.
الفائدة الرابعة: الخلاص من شر الناس، فإنهم يؤذونك مرة بالغيبة، ومرة بالنميمة، ومرة بسوء الظن، ومرة بالتهمة، ومرة بالأطماع الكاذبة، ومن خالط الناس لم ينفك من حاسد وعدو، وغير ذلك من أنواع الشر التي يلقاها الإنسان من معارفه، وفى العزلة خلاص من ذلك، كما قال بعضهم:
عدوك من صديقك مستفاد
…
فلا تستكثرنَّ من الصحاب
فإن الداء أكثر ما تراه
…
يكون من الطعام أو الشراب
وقال عمر رضى الله عنه: في العزلة راحة من خلطاء السوء.
وقال إبراهيم بن أدهم: لا تتعرف إلى من لا تعرف، وأنكر من تعرف. وقال رجل لأخيه: أصحبك إلى الحج؟ فقال: دعنا نعش في ستر الله، فإنا نخاف أن يرى بعضنا من بعض ما نتماقت عليه.
وهذه فائدة أخرى في العزلة، وهى بقاء الستر على الدين والمروءة وسائر العورات.
(1) يقال: مرجت عهودهم: إذا اختلطت، ومرج العهود: اضطرابها، وقلة الوفاء بها.