الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وأعلى هذه الخامسة: الحالة الأولى، وهى: الزهد، ووراءها حالة أخرى أعلى منها، وهى أن يستوي عنده وجود المال وعدمه، فإن وجده لم يفرح به، ولم يتأذ إن فقده، كما روينا عن عائشة رضى الله عنها أنها جاءها مال في غرارتين (1)،ففرقته في يومها، فقالت لها جاريتها: أما استطعت أن تشترى لنا مما قسمت لحماً بدرهم نقطر عليه؟ فقالت: لو ذكريني لفعلت.
فمن هذه حاله لو كانت الدنيا بحذافيرها في يده لم تضره، إذ هو يرى الأموال في خزانة الله تعالى، لا في يد نفسه.
وينبغى أن يسمى صاحب هذه الحالة المستغنى، لأنه غنى عن عند فقد المال وجوده جميعاً، ومتى كان الزاهد في الدنيا لا يرغب في وجودها، ولاعدمها، فهو في غاية الكمال.
قال أحمد بن أبى الحواري لأبى سليمان الدارانى: قال مالك بن دينار للمغيرة: اذهب إلى البيت فخذ الزكاة التي أهديتها لى، فإن الشيطان يوسوس لى أن اللص قد أخذها، فقال أبو سليمان: هذا من ضعف الزهد، هو قد زهد في الدنيا ما عليه من أخذها. فالهرب من المال والزهد فيه في حق الضعفاء كمال، فآما في حق الأنبياء والأقوياء، فسواء عليهم وجوده وعدمه. وقد يظهر القوى النفار من المال ليقتدي به الضعفاء في الترك، والله أعلم.
1 ـ فصل في فضيلة الفقر وتفضيل الفقر على الغنى
أما الآيات فقد قال الله تعالى في معرض المدح في حق الفقراء: {لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} الآية [البقرة: 273]. وقال: {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ} . . . الآية [الحشر: 8].
وأما الأخبار فكثيرة، منها: قول صلى الله عليه وآله وسلم: " قمت على باب الجنة فإذا عامة من يدخلها الفقراء، إلا أن أصحاب الجد محبوسون " وذكر تمام الحديث. وهو في "الصحيحين".
(1) الغرارة: الجوالق وهو وعاء توضع به الدراهم. جمعها: غرائر.
وفيهما من حديث أبى هريرة رضى الله عنه أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: "اللهم اجعل رزق آل محمد قوتاً".
وفيهما من حديث عائشة رضى الله عنها قالت: ما شبع آل محمد منذ قدم المدينة من طعام البر ثلاث ليال تباعاً حتى قبض.
وفي أفراد مسلم من حديث عمر رضي الله عنه قال: لقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يظل اليوم يتلوي ما يجد دقلا (1) يملأ بطنه.
وروى أبو هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: "يدخل فقراء المؤمنين الجنة قبل أغنيائهم بخمسمائة عام" وقال الترمذي: حديث صحيح.
وقال صلى الله عليه وآله وسلم لعائشة رضي الله عنها: "إياك ومجالسة الأغنياء"(2).
وقال: "يؤتى بالعبد يوم القيامة فيعتذر الله عز وجل إليه كما يعتذر الرجل إلى الرجل في الدنيا، فيقول: وعزتي وجلالى ما زويت الدنيا عنك لهوانك على، ولكن لما أعددت لك من الكرامة. اخرج يا عبدى إلى هذه الصفوف، فمن أطعمك أو كساك يريد بذلك وجهي، فخذ بيده فهو لك"(3).
وقيل لموسى عليه السلام: إذا رأيت الفقر مقبلاً، فقل: مرحباً بشعار الصالحين، وإذا رأيت الغنى مقبلاً فقل: ذنب عجلت عقوبته.
وقال أبو الدرداء: حساب ذي الدرهمين أشد حساباً من ذي الدرهم.
وكان الفقراء يتقدمون في مجلس الثوري على الأغنياء.
وجاء رجل إلى إبراهيم بن أدهم بعشرة آلاف درهم فلم يقبلها، وقال: تريد أن تمحو اسمي من ديوان الفقراء!؟ لا أفعل.
(1) الدقل: أردأ التمر.
(2)
أخرجه الترمذي (1781) من حديث عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لها: "إذا أردت اللحوق بي، فليكفك من الدنيا كزاد الراكب، وإياك ومجالسة الأغنياء، ولا تستخلقي ثوباً حتى ترقيعه" وفي سنده صالح بن حسان النضري متروك اتفقوا على ضعفه.
(3)
حديث لا يصح انظر "شرح الأحياء" 9/ 278، 279.
وقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: "طوبى لمن هدى إلى الإسلام وكان عيشه كفافاً، وقنع بما آتاه عز وجل".
وقد ذكرنا في القناعة وذم الحرص والطمع في كتاب ذم المال ما يغنى عن الإعادة، ولا يقدر على ذلك إلا بعد القوة الصبر.
وأما التفضيل بين الغنى والفقير، فظاهر النقل يدل على تفضيل الفقير، ولكن لابد من تفصيل، فنقول: إنما يتصور الشك والخلاف في فقير صابر ليس بحريص بالإضافة إلى غنى شاكر ينفق ماله في الخيرات، أو فقير حريص مع غنى حريص، إذ لا يخفى أن الفقير القانع الحريص، فإن كان متمتعاً بالمال في المباحات، فالفقير القنوع أفضل منه.
وكشف الغطاء في هذا أن ما يراد لغيره، ولا يرد لعينه، ينبغي أن يضاف إلى مقصوده، إذ به يظهر فضله، والدنيا ليست محذورة لعينها، بل لكونها عائقة عن الوصول إلى الله تعالى، والفقر ليس مطلوباً لعينه، ولكن لأن فيه فقد العائق عن الله تعالى، وعدم التشاغل عنه.
وكم من غنى لا يشغله عن الله تعالى، كسليمان عليه السلام، وكذلك عثمان [بن عفان] وعبد الرحمن بن عوف رضى الله عنهما.
وكم من فقير شغله فقره عن المقصود، وصرفه عن حب الله تعالى والأنس به، وإنما الشاغل له حب الدنيا، وإذا لا يجتمع معه حب الله تعالى، فإن المحب للشيء مشغول به، سواء كان في فراقه، أو في وصاله، بل قد يكون شغله في الفراق أكثر.
والدنيا معشوقة الغافلين، فالمحرم منها مشغول بطلبها، والقادر عليها مشغول بحفظها والتمتع بها. وإن أخذت الأمر باعتبار الأكثر، فالفقير عن الخطر أبعد، لأن فتنة السراء أشد من فتنة الضراء، ومن العصمة أن لا تجد، ولما كان ذلك طبع الآدميين إلا القليل منهم، جاء الشرع بذم الغنى وفضل الفقر. وقد تقدم ما يدل على فضله.
ومن ذلك ما روى عن ابن عباس رضى الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "التقى مؤمنان على باب الجنة: مؤمن غنى، ومؤمن فقير، كانا في الدنيا، فأدخل الفقير الجنة، وحبس الغنى ما شاء الله تعالى أن يحبس، ثم أدخل