الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفائدة الخامسة: أن ينقطع طمع الناس عنك، وطمعك عنهم.
أما طمعهم، فإن رضاهم غاية لا تدرك، فالمنقطع عنهم قاطع لطمعهم في حضور ولائمهم وإملاكاتهم (1)، وغير ذلك.
وقد قيل: من عم الناس بالحرمان رضوا عنه كلهم.
وأما انقطاع طمعك، فإن من نظر إلى زهرة الدنيا تحرك حرصه، وانبعث بقوة الحرص طمعه، ولا يرى إلا الخيبة في أكثر المطامع فيتأذى.
وفى الحديث: "انظروا إلى من دونكم، ولا تنظروا إلى من فوقكم، فإنه أجدر أن لا تزدروا نعمة الله عليكم".
وقال الله تعالى: {وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [طه: 131].
الفائدة السادسة: الخلاص من مشاهدة الثقلاء والحمقى، ومقاساة أخلاقهم، وإذا تأذى الإنسان بالثقلاء، لم يلبث، أن يغتابهم، فإن آذوه بالقدح فيه كافأهم، فانجر الأمر إلى فساد الدين، وفى العزلة سلامة من ذلك.
2 ـ فصل في آفات العزلة
اعلم: أن من المقاصد الدينية والدنيوية ما يستفاد من الاستعانة بالغير، ولا يحصل ذلك إلا بالمخالطة.
ومن فوائد المخالطة: التعلم والتعليم، والنفع والانتفاع، والتأديب والتأدب، والاستئناس والإيناس، ونيل الثواب في القيام بالحقوق، واعتياد التواضع، واستفادة التجارب من مشاهدة هذه الأحوال، والأحوال، والاعتبار بها، فهذه فوائد الخلطة، ولنفصلها:
الفائدة الأولى: التعلم والتعليم، وقد ذكرنا فضلهما في كتاب العلم، فأما من تعلم الفرض ورأى أنه لا يتأتى منه الخوض في العلوم، ورأى الاشتغال بالعبادة، فليعتزل، وإن كان يقدر على التبرز في علوم الشرع فالعزلة في حقه قبل التعلم غاية الخسران
(1) الملاك لأملاك: التزويج وعقد النكاح.
ولهذا قال الربيع بن خثيم: تفقه ثم اعتزل، والعلم أصل الدين، ولا خير في عزلة العوام.
سئل بعض العلماء: ما تقول في عزلة الجاهل؟ فقال: خبال ووبال، فقيل له: فالعالم؟ فقال: مالك ولها، دعها حذاؤها وسقاؤها، ترد الماء، وتأكل الشجر حتى يلقاها ربها (1).
وأما التعليم، ففيه ثواب عظيم إذا صحت النية فيه، ومتى كان القصد إقامة الجاه والاستكثار من الأتباع، فهو هلاك الدين، وقد سبق ذلك في كتاب العلم، والغالب في هذا الزمان سوء القصد من المتعلمين، فيقتضي الدين الاعتزال عنه، ولا يحل كتمان العلم، ولا ينبغي أن يغتر بقول من قال: تعلمنا العلم لغير الله فأبى أن يكون إلا لله، فإنه أشار بهذه إلى علوم القرآن والحديث ومعرفة سير الأنبياء والصحابة، وذلك يتضمن التخويف والتحذير، وهو سبب لإثارة الخوف من الله سبحانه، فإن لم يؤثر في الحال أثر في المال، فأما علم الكلام وعلم الخلاف، فإنه لا يرد الراغب في الدنيا إلى الله تعالى، بل لا يزال صاحبة متمادياً في حرصه إلى آخر عمره.
الفائدة الثانية: النفع والانتفاع، أما الانتفاع بالناس، فبالكسب والمعاملة، والمحتاج إلى ذلك مضطر إلى ترك العزلة، وأما إن كان معه ما يقنعه، فالعزلة أفضل، إلا أن يقصد التصديق بكسبه، فذلك أفضل من العزلة، إلا أن تكون العزلة مفيدة له معرفة الله تعالى والأنس به، عن كشف وبصيرة، لا عن أوهام وخيالات فاسدة.
وأما النفع: فهو أن ينفع الناس، إما بماله أو ببدنه لقضاء حوائجهم، ومن قدر على ذلك مع القيام بحدود الشرع، فهو أفضل من العزلة إن كان لا يشتغل في عزلته إلا بنوافل الصلوات والأعمال البدنية، وإن كان ممن انفتح له طريق العمل بالقلب بدوام ذكر أو فكر، فذاك الذي لا يعدل به البتة.
(1) شبه عزلة العالم بالإبل التي معها حذاؤها وسقاؤها، يريد أنها تقوى على المشي وقطع الأرض وقصد المياه ووردها ورعى الشجر والامتناع عن السباع المفترسة، شهت بمن كان معه في السفر حذاء وسقاء، وهكذا العزلة إذا كانت من العالم. فإنه يكون أميناً على نفسه من الشيطان والنفس الأمارة بالسوء. عدؤاها وسقاؤها.
والمجاهدة في تحمل أذاهم، وكسر النفس، وقهر الشهوة، وذلك أفضل من العزلة في حق من لم تتهذب أخلاقه.
وينبغي أن يفهم أن الرياضة لا تراد لنفسها كما لا يراد ذلك من رياضة الدابة، بل المراد منها أن تتخذ مركباً تقطع عليه المراحل، والبدن مطيه يسلك بها طريق الآخرة، وفيها شهوات إن لم تكسر جمحت براكبها في الطريق، فمن اشتغل طول عمره بالرياضة كان كمن اشتغل طول عمره برياضة الدابة ولم يركبها، ولا يستفيد إلا الخلاص من عضها ورفسها، وهى لعمري فائدة، ولكن ليست معظم المقصود، قيل لراهب: يا راهب، فقال: لست براهب، إنما أنا كلب عقور، حبست نفسي حتى لا أعقر الناس، وهذا حسن بالإضافة إلى من يعقر، من يعقر، لكن لا ينبغي أن يقتصر عليه.
وأما التأديب: فهو أن يؤدب غيره، ويتطرق إليه من دقائق الآفات ما يتطرق إلى نشر العلم على ما ذكره.
الفائدة الرابعة: الاستئناس والإيناس، وقد يكون مستحباً كالاستئناس بأهل التقوى وقد يقصد به ترويح القلوب من كرب الوحدة، فينبغي أن يكون الاستئناس في بعض الساعات بمن لا يفسد بقيتها، وليحصل أن يكون حديثه عند اللقاء في أمور الدين.
الفائدة الخامسة: في نيل الثواب وإنالته.
أما الأول فبحضور الجنائز، وعيادة المرضى، وحضور الإملاكات، والدعوات، ففيها ثواب من جهة إدخال السرور على المؤمن.
وأما الثاني: فهو أن يفتح بابه للناس ليعزوه أو يهنوه أو يعودوه، فإنهم ينالون بذلك ثواباً، وكذلك إن كان من العلماء فأذن لهم في زيارته.
ولكن ينبغي أن يزن ثواب هذه المخالطات بآفاتها، فيرجح العزلة أو المخالطة، وقد كان أكثر السلف يؤثرون العزلة عليها.
الفائدة السادسة: التواضع، ولا يقدر على ذلك في الوحدة، فقد يكون الكبر سبباً في اختياره العزلة، ويمنعه في المحافل التقصير في إكرامه وتقديمه، وربما ترفع عن مخالطتهم لارتفاع محله عند نفسه، أو نحو ذلك.
وعلامة من هذه صفته أن يحب أن يزار ولا يحب أن يزور، ويفرح بتقرب السلاطين والعوام إليه واجتماعهم على بابه، وتقبيل يده، فالعزلة بهذا السبب جهل، لأن التواضع لا يغض من منصب الكبير.
فإذا عرفت فوائد العزلة وغوائلها تحققت أن الحكم عليها مطلقاً بالتفضيل نفياً وإثباتاً خطأ، بل ينبغي أن ينظر إلى الشخص وحاله، وإلى الخليط وحاله، وإلى الباعث على مخالطته، وإلى الفائت بسبب مخالطته من الفوائد، ويقاس الفائت بالحاصل، فعند ذلك يتبين الحق ويتضح الأفضل.
فقد قال الشافعي رحمه الله: الانقباض عن الناس مكسبة للعداوة، والانبساط إليهم مجلبة للسوء، فكن بين القبض والبسط، ومن ذكر سوى هذا فهو قاصر، وإنما هو إخبار عن حاله، فلا يجوز أن يحكم بها على غيره المخالف له في الحال.
فإن قيل: فما آداب العزلة؟
قلنا: ينبغي للمعتزل أن ينوى بعزلته كف شره عن الناس، ثم طلب السلامة من شر الأشرار، ثم الخلاص من آفة القصور عن القيام بحقوق المسلمين، ثم تجريد الهمة لعبادة الله تعالى أبداً، فهذه آداب بينة.
ثم ليكن في خلواته مواظباً على العلم والعمل، والذكر والفكر، فيجتنى ثمرة العزلة وليمنع الناس عن أن يكثروا غشيانه وزيارته ليصفو وقته، وليكف عن السؤال عن أخبارهم، وعن الإصغاء إلى أراجيف البلد وما الناس مشغولون به، فإن جميع ذلك ينغرس في القلب حتى ينبعث في أثناء الصلاة، فوقع الأخبار في السمع كوقوع البذر في الأرض، وليقنع باليسير من المعيشة، وإلا اضطره التوسع إلى مخالطة الناس.
وليكن صبوراً على ما يلقاه من أذى الناس، ولا يصغي إلى الثناء عليه بالعزلة، ولا القدح فيه بترك الخلطة، فإن ذلك يؤثر في القلب فيقف عن السير في طريق الآخرة.
وليكن له جليس صالح يستريح إليه ساعة عن كد المواظبة، ففى ذلك عون على بقية الساعات، ولا يتم الصبر في العزلة إلا بقطع عن الدنيا، ولا ينقطع طمعه إلا بقصر أمله، فيقدر أنه إذا أصبح لا يمسي، وإذا أمسى لا يصبح، فيسهل عليه صبر يوم.
وليكن كثير الذكر للموت ووحدة القبر متى ضاق عليه قلبه من الوحدة، وليتحقق أن من لم يحصل في قلبه من ذكر الله ومعرفته ما يأنس به، لم يطق وحشة الوحدة بعد الموت، وأن من انس بذكر الله ومعرفته لم يزل الموت أنسه، لأن الموت لا يهدم محل الأنس والمعرفة، كما قال الله تعالى في حق الشهداء:{بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} [سورة آل عمران: 169] وكل متجرد لله في جهاد نفسه، فهو شهيد، كما ورد عن بعض الصحابة أنه قال: رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر.
***