الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
2 ـ فصل في دواء الرجاء والسبب الذي يحصل به
اعلم: أن دواء الرجاء يحتاج إليه رجلان:
إما رجل قد غلب عليه اليأس حتى ترك العبادة.
وإما رجل غلب عليه الخوف حتى أضر بنفسه وأهله.
فأما العاصي المغرور المتمني على الله مع الإعراض عن العبادة، فلا ينبغي أن يستعمل في حقه إلا أدوية الخوف، فإن أدوية الرجاء تقلب في حقه سموماً، كما أن العسل شفاء لمن غلبت عليه البرودة، مضر لمن غلبت عليه الحرارة.
ولهذا يجب أن يكون واعظ الناس متلطفاً، ناظراً إلى مواضع العلل، معالجاً كل علة بما يليق بها، وهذا الزمان لا ينبغي أن يستعمل فيه مع الخلق أسباب الرجاء، بل المبالغة في التخويف، وإنما يذكر الواعظ فضيلة أسباب الرجاء إذا كان مقصوده استمالة القلوب إليه، لإصلاح المرضى.
وقد قال على رضى الله عنه: إنما العالم الذي لا يقنط الناس من رحمة الله، ولا يؤمنهم مكر الله.
إذا عرفت هذا، فاعلم أن من أسباب الرجاء، ما هو من طريق الاعتبار، ومنها ما هو من طريق الأخبار. أما الاعتبار، فهو أن يتأمل جميع ما ذكرناه من أصناف النعم في كتاب الشكر، فإذا علم لطائف الله تعالى بعباده في الدنيا، وعجائب حكمته التي راعاها في فطرة الإنسان، وأن لطفه الإلهي لم يقصر عن عباده في دقائق مصالحهم في الدنيا، ولم يرض أن تفوتهم الزيادات في الرتبة، فكيف يرضى سياقتهم إلى الهلاك المؤبد؟! فإن من لطف في الدنيا يلطف في الآخرة، لأن مدبر الدارين واحد.
وأما استقراء الآيات والأخبار، فمن ذلك قوله سبحانه وتعالى:{قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا} [الزمر: 53]. وقال تعالى: {وَالْمَلَائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ} [الشورى: 4].
وأخبر تعالى أنه أعد النار لأعدائه، وإنما خوف بها أولياءه، فقال:{لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ ذَلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ} [الزمر: 16]. وقال تعالى: {وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ} [آل عمران: 131]. وقال:
{فَأَنْذَرْتُكُمْ نَارًا تَلَظَّى (14) لَا يَصْلَاهَا إِلَّا الْأَشْقَى (15) الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى} [الليل: 14 - 16]. وقال تعالى: {وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ} [الرعد: 6].
ومن الأخبار ما روى أبو سعيد الخدرى رضى الله عنه، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: "إن إبليس قال لربه عز وجل: بعزتك وجلالك، لا أبرح أغوى بنى آدم ما دامت الأروح فيهم. فقال الله عز وجل: فبعزتي وجلالى، لا أبرح أغفر لهم ما استغفروني"(1).
وعن أبى هريرة رضى الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "والذي نفسي بيده، لو لم تذنبوا، لذهب الله بكم، ولجاء بقوم يذنبون، فيستغفرون فيغفر لهم" رواه مسلم.
وفى "الصحيحين" من حديث عائشة رضى الله عنها، أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال:"سدودا وقاربوا وأبشروا، فإنه لن يدخل أحداً الجنة عمله، قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: ولا أنا إلا أن يتغمدنى الله منه برحمته".
وفى "الصحيحين" من حديث أبى سعيد الخدرى رضى الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال:"يقول الله عزل وجل يوم القيامة: يا آدم: قم فابعث بعث النار فيقول: لبيك وسعديك والخير في يديك. يارب: وما بعث النار؟ قال: من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعون، فحينئذ يشيب المولود، {وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ} [الحج: 2]. فشق ذلك على الناس، حتى تغيرت وجوههم، وقالوا: يارسول الله! وأينا ذلك الواحد؟ فقال صلى الله عليه وآله وسلم: "من يأجوج ومأجوج تسعمائة وتسعة وتسعون، ومنكم واحد" فقال الناس: الله أكبر. فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: " والله إنى لأرجو أن تكونوا ربع أهل الجنة. والله إنى لأرجو أن تكونوا ثلث أهل الجنة، والله إنى لأرجو أن تكونوا نصف أهل الجنة. فكبر الناس، فقال: "ما أنتم يومئذ في الناس إلا كالشعرة البيضاء في الثور الأسود، أو كالشعرة السوداء في الثور الأبيض".
فانظر كيف جاء بالتخويف، فلما أزعج جاء باللطف، ومتى اطمأنت القلوب إلى
(1) أخرجه أحمد 3/ 29، 76 والحاكم من حديث أبى سعيد الخدرى وفيه أدراج عن أبى الهيثم وهو ضعيف في روايته عنه. وأخرجه أحمد 3/ 41 من طريق آخر ورجاله ثقات، إلا أن فيه انقطاعا.