الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أنفسنا لا تواتينا إلا كرهاً.
ومما يستعان به عليها أن يسمعها أخبار المجتهدين، وما ورد في فضلهم، ويصحب من يقدر عليه منهم، فيقتدي بأفعاله.
قال بعضهم: كنت إذا اعترتني فترة في العبادة نظرت إلى وجه محمد بن واسع وإلى اجتهاده؟ فعملت على ذلك اسبوعاً. وقد كان عامر بن عبد قيس يصلى كل يوم ألف ركعة. وكان الأسود بن يزيد يصوم حتى يخضر ويصفر، وحج مسروق فما نام إلا ساجداً، وكان داود الطائى يشرب الفتيت مكان الخبز، ويقرأ بينهما خمسين آية، وكان كرز بن وبرة يختم كل يوم ثلاث ختمات، وكان عمر بن عبد العزيز وفتح الموصلي يبكيان الدم، وصلى أربعون نفساً من القدماء الفجر بوضوء العتمة، وجاور أبو محمد الحريري سنة فلم ينم ولم يتكلم، ولم يستند إلى حائط، ولم يمد رجله، فقال له أبو بكر الكتاني: بم قدرت على هذا؟ قال: علم صدق باطني فأعانني على ظاهري.
ودخلوا على زحلة العابدة فكلموها بالرفق بنفسها فقالت: إنما هي أيام مبادرة، فمن فاته اليوم شئ لم يدركه غداً والله يا إخوتاه! لأصلين لله ما أقلتني جوارحي، ولأصومن له في أيام حياتي، ولأبكين ما حملت الماء عيناي.
ومن أراد أن ينظر في سير القوم، ويتفرج في بساتين مجاهداتهم، فلينظر في كتابي المسمى بـ "صفة الصفوة" فإنه يرى من أخبار القوم ما يعد نفسه بالإضافة إليهم من الموتى، بل من أخبار المتعبدات من النسوة ما يحتقر نفسه عند سماعه.
المقام السادس: في معاتبة النفس وتوبيخها:
قال أبو بكر الصديق رضى الله عنه: من مقت نفسه في ذات الله آمنه الله من مقته.
وقال أنس رضى الله عنه: سمعت عمر بن الخطاب رضى الله عنه ودخل حائطاً فسمعته يقول وبيني وبينه جدار: عمر بن الخطاب أمير المؤمنين، بخ بخ، والله لتتقين الله يا ابن الخطاب أو ليعذبنك.
وقال البخترى بن حارثة: دخلت على عابد فإذا بين يديه نار قد أججها وهو يعاتب نفسه، فلم يزل يعاتبها حتى مات.
وكان بعضهم يقول إذا ذكر الصالحون: فأف لى وتف.
واعلم: أن أعدى عدوٍ لك نفسك التي بين جنبيك، وقد خلقت أمارة بالسوء، ميالة إلى الشر، وقد أمرت بتقويمها وتزكيتها وفطامها عن مواردها، وأن تقودها بسلاسل الدهر إلى عبادة ربها، فإن أهملتها جمحت وشردت، ولم تظفر بها بعد ذلك، وإن لزمها بالتوبيخ رجونا أن تصير مطمئنة، فلا تغفلن عن تذكيرها. وسبيلك أن تقبل عليها، فتقرر عندها جهلها وغباوتها وتقول: يا نفس، ما أعظم جهلك، تدعين الذكاء والفطنة وأنت أشد الناس غباوة وحمقاً، أما تعلمين أنك صائرة إلى الجنة أو النار؟ فكيف يلهو من لا يدرى إلى أيتهما يصير؟! وربما اختطف في يومه أو في غده! أما تعلمين أن كل ما هو آت قريب، وأن الموت يأتى بغتة من غير موعد، ولا يتوقف على سن دون سن، بل كل نفس من الأنفاس يمكن أن يكون فيه الموت فجأة، وإن لم يكن الموت فجأة كان المرض فجأة، ثم يفضي إلى الموت. فمالك لا تستعدين للموت وهو قريب منك؟! يا نفس، إن كانت جرأتك على معصية الله تعالى لاعتقادك أن الله لا يراك فما أعظم كفرك، وإن كانت مع علمك باطلاعه عليك، فما أشد رقاعتك، وأقل حياءك! ألك طاقة على عذابه؟ جربى ذلك بالقعود ساعة في الحمام، فاطلبي الشهوات الباقية الصافية عن الكدر، ورب أكلة منعت أكلات.
وما قولك في عقل مريض أشار عليه الطبيب بترك الماء ثلاثة أيام ليصح ويتهيأ لشربه طول العمر؟ فما مقتضى العقل في قضاء حق الشهوة؟ أيصبر ثلاثة أيام ليتنعم إلى الأبد الذي هو مدة نعيم أهل الجنة وعذاب أهل النار أقل من ثلاثة أيام بالإضافة إلى جميع العمر، بل أقل من لحظة بالإضافة إلى عمر الدنيا. وليت شعري! ألم الصبر عن الشهوات أشد وأطول، أم النار في الدركات؟ فمن لا يطيق الصبر على ألم المجاهدة، كيف يطيق ألم العذاب في الآخرة؟ أشغلك حب الجاه؟ أما بعد ستين سنه أو نحوها، لا تبقين أنت ولا من كان لك عنده جاه. هلا تركت الدنيا لخسة شركائها، وكثرة عنائها وخوفاً من سرعة فنائها؟ أتستبدلين بجوار رب العالمين صف النعال في صحبة الحمقى؟ قد ضاع أكثر البضاعة، وقد بقيت من العمر صبابة، ولو استدركت ندمت على ما ضاع، فكيف إذا أضفت الأخير إلى الأول؟ اعملي في أيام قصار لأيام طول، وأعدى الجواب للسؤل. أخرجي من الدنيا خروج الأحرار قبل أن تكون خروج اضطرار إنه من كانت مطيته الليل والنهار سير به وإن لم يسر. تفكري في هذه