الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
لتمحوها وتكفرها، والحسنات المكفرة تكون بالقلب واللسان والجوارح على حسب السيئات، فما كان بالقلب، فنحو التضرع والتذلل، وأما اللسان، الاعتراف بالظلم والاستغفار، مثل أن يقول: رب ظلمت نفسي فاغفر لي.
روى في الحديث، أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال:"ما من رجل يذنب ذنباً، فيتوضأ ويحسن الوضوء، ثم يصلى ركعتين، ويستغفر الله عز وجل، إلا غفر له".
وأما الجوارح فبالطاعات، والصدقات، وأنواع العبادات.
8 ـ فصل في دواء التوبة وطريق علاج حل عقد الإصرار
اعلم: أنه لا يقف على الدواء من لا يقف على الداء، إذ لا معنى بالدواء إلا مناقضة أسباب الداء، ولا يبطل الشيء إلا بضده، وسبب الإصرار الغفلة والشهوة، ولا تضاد الغفلة إلا بالعلم، ولا تضاد الشهوة إلا بالصبر على قطع الأسباب المحركة للشهوة.
الغفلة رأس الخطايا، فلا دواء إذاً للتوبة إلا بمعجون يعجن من حلاوة العلم ومرارة الصبر، كما يجمع في السكنجبين حلاوة السكر وحموضة الخل، فيحصل بمجموعهما قمع الصفراء.
والأطباء لهذا المرض هم العلماء، لأنه مرض القلوب ومرض القلوب أكثر من مرض الأبدان، وإنما صار مرضها أكثر لأمور:
أحدها: أن المريض لا يدرى أنه مريض.
الثاني: أن عاقبته غير مشاهدة في هذا العالم، بخلاف مرض الأبدان، فإن عاقبته مشاهد ينفر الطبع عنه، وما بعد الموت غير مشاهد، فقلّت النفرة عن الذنوب وإن علمها مرتكبها، فلذلك تراه يتكل على فضل الله في مرض القلب، ويجتهد في علاج البدن من غير اتكال.
الأمر الثالث: وهو الداء العضال فقد الطبيب، فإن الأطباء هم العلماء، وقد مرضوا في هذه الأعصار، لأن الداء المهلك هو حب الدنيا، وقد غلب هذا الداء على
الأطباء، فلم يقدروا على تحذير الخلق استنكافاً من أن يقال لهم: فما لكم تأمرون بالعلاج وتنسون أنفسكم؟ فبهذا السبب عم الداء وانقطع الدواء.
فإن قيل: فما ينبغي للواعظ سلوكه من الخلق؟
فالجواب: أن ذلك يطول، لكنا نشير إلى الأعمال النافعة في ذلك، وهى أربعة أنواع:
الأول: أن يذكر ما في القرآن العزيز من الآيات المخوفة للمذنبين، وما ورد في الأخبار والآثار من ذلك، ويمزج ذلك بمدح التائبين.
النوع الثاني: حكايات الأنبياء عليهم السلام، والسلف الصالح، وما أصابهم من المصائب بسبب الذنوب، كحال آدم عليه السلام، وما لقي في عصيانه الإخراج من الجنة، وما جرى لداود وسليمان ويوسف عليهم السلام، ولم يورد القرآن هذه الأشياء إلا للاعتبار.
وكان من سعادتهم معالجتهم بذلك، والأشقياء يمهلون ليزدادوا إثما، ولأن عذاب الآخرة أشد، فينبغي أن يكثر من هذا على أسماع المصرين، فإنه نافع في تحريك دواعي التوبة.
النوع الثالث: أن يقرر عندهم، أن تعجل العقوبة في الدنيا متوقع، وأن كل ما يصيب العبد من المصائب، فهو سبب جناياته، فرب عبد يتساهل في أمر الآخرة يخاف عقوبة الدنيا أكثر لفرط جهله، والذنوب قد يتعجل في الدنيا شؤمها، كما قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم:"إن العبد ليحرم الرزق بالذنب يصيبه"(1).
وقال الفضيل بن عياض: إنى لأعصى الله، فأعرف ذلك في خلق حماري وخادمي.
وقال أبو سليمان الداراني: الاحتلام عقوبة، ولا يفوت أحداً صلاة إلا بذنب يذنبه.
(1) أخرجه أحمد 5/ 277 و 280 و 282، وابن حبان (1090) والحاكم 1/ 493، وابن ماجة (4022) والطحاوي في "مشكل الآثار" 4/ 169 من حديث ثوبان رضى الله عنه وتمامه:"ولا يرد القدر إلا الدعاء ولا يزيد في العمر إلا البر وفي سنده جهالة أو انقطاع، لكن لقوله: "ولا يرد القدر إلا الدعاء
…
" شاهد يحسن به.
وعن أبى هريرة رضى الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: " إن المؤمن إذا أذنب كان نكتة سوداء في قلبه، فإن تاب ونزع واستغفر، صقل قلبه، وذلك الران الذي ذكر الله عز وجل في كتابه:{كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [المطففين: 14] قال الترمذي: حديث حسن صحيح.
وقال الحسن رحمه الله: الحسنة نور في القلب، وقوة في البدن، والسيئة ظلمة في القلب، ووهن في البدن.
النوع الرابع: ذكر ما ورد من العقوبات في آحاد الذنوب، كشرب الخمر، والزنى، والقتل، والكبر، والحسد، والغيبة.
وينبغى أن يكون طبيباً يعلم الداء، ويدرى كيف يصنع الدواء، فإن رجلاً سأل النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال: أوصني، قال:"لا تغضب".
وقال آخر: أوصني، فقال:"عليك باليأس مما في أيدي الناس".
فكأنه تخايل في الأول مخايل الغضب، وفى الثاني مخايل الطمع.
وهذا الذي ذكرنا هو علاج الغفلة، فيبقى علاج الشهوة، وطريق علاجها يؤخذ مما ذكرنا في كتاب " رياضة النفس " ولابد من الصبر، فإن المريض إنما يطول مرضه لتناوله ما يضره، وإنما يحمله على ذلك شدة شهوته، أو غفلته أو مضرته، فلابد من مرارة الصبر، وكذلك يعالج الشهوة في المعاصي، كالشاب مثلاً إذا غلبته شهوة، فصار لا يقدر على حفظ عينه وقلبه وجوارحه في السعى وراء الشهوة، فينبغي أن يستحضر المخوفات التي جاءت في كتاب الله تعالى، وسنة رسوله صلى الله عليه وآله وسلم، فإذا اشتد خوفه تباعد عن الأسباب المهيجة للشهوة.
والذي يهيج الشهوة من خارج، هو حضور المشتهى، والنظر إليه، وعلاجه: الجوع والصوم الدائم، وكل ذلك لا يتم إلا بصبر، ولا يصبر إلا عن خوف، ولا يخاف إلا عن علم، ولا يعلم إلا عن بصيرة، فأول الأمر حضور مجالس الذكر، والاستماع بقلب مجرد عن الشواغل، ثم التفكر فيما قيل، فينبعث الخوف، ويسهل الصبر، وتتيسر الدواعي لطلب العلاج، وتوفيق الحق سبحانه من وراء ذلك كله.
فإن قيل: ما بال الإنسان يقع في الذنب مع علمه بقبح عواقبه؟
فعن ذلك أجوبة: منها: أن العقاب الموعود ليس بحاضر.
ومنها: أن المؤمن إذا أذنب لابد أن يعزم على التوبة، وقد وعد أن التوبة تجبر ما فعل، وطول الأمل غالب على الطباع، فلا يزال يسوف بالتوبة، فلما رجا التوبة أقبل على الذنب.
ومنها: أنه يرجو عفو الله عنه، وعلاج هذه الأسباب أن يفكر في نفسه أن كل ما هو آتٍ قريب، والمسوف يبنى الأمر على ما ليس إليه، وهو البقاء، فلعله لا يبقى، وإن بقى فربما لا يقدر على الترك غداً كما يقدر عليه اليوم، وهل عجز عن الحال إلا لغلبة الشهوة وهى غير مفارقة له غداً؟ بل يتأكد بالاعتياد، ومن هذا هلك المسوفون، لأنهم يظنون الفرق بين المتماثلين، وما مثال المسوف إلا مثال من احتاج إلى قلع شجرة، فرآها قوية لا تنقطع إلا بمشقة شديدة، فقال: أؤخرها سنة ثم أعود إليها، وهو لا يعلم أن الشجرة كلما بقيت ازداد رسوخها، وهو كلما طال عمره ازداد ضعفه، فالعجب من عجزه مع قوته عن مقاومتها في حال ضعفها، كيف ينظر الغلبة إذا ضعف وقويت.
وأما انتظار عفو الله تعالى، فعفو الله سبحانه ممكن، إلا أن الإنسان ينبغي له الأخذ بالحزم، وما مثال ذلك إلا كمثل رجل أنفق أمواله كلها، وترك نفسه وعياله فقراء ينتظر من الله تعالى أن يرزقه العثور على كنز في خربة، وهذا ممكن إلا أن صاحبه ملقب بالأحمق، والله سبحانه وتعالى أعلم.
***
كتاب الصبر (1) والشكر
وهو شطران:
الأول: فضل الصبر وحقيقته وأقسامه ونحو ذلك. وقد ذكر الله تعالى الصبر في القرآن في نحو من تسعين موضعاً، وأضاف إليه أكثر الخيرات والدرجات وجعلها ثمرة له، فقال تعالى:{وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا} [السجدة: 24]. وقال: {وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا} [الأعراف: 137]. وقال: {وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [النحل: 96] وقال تعالى: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [الزمر: 10].
فما من قربة إلا أجرها بتقدير وحساب إلا الصبر، ولأجل كون الصوم من الصبر قال الله تعالى (2):"الصوم لى وأنا أجزى به". وقد وعد الله الصابرين بأنه معهم، وجمع للصابرين بين أمور لم يجمعها لغيرهم، فقال:{أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} [البقرة: 157] والآيات في هذا كثيرة.
وأما الأحاديث، ففى "الصحيحين" من حديث أبى سعيد رضى الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال:"ما أعطى أحد عطاءً خيراً وأوسع من الصبر" وفى حديث آخر: "الصبر من الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد"(3).
وقال الحسن: الصبر كنز من كنوز الخير، لا يعطيه الله عز وجل إِلا لعبد كريم عنده. وكان بعض العارفين في جيبه رقعة يخرجها كل ساعة فيطالعها، وفيها:{وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا} [الطور: 48].
واعلم: أن الصبر من خاصية الإنسان، ولا يتصور في البهائم لنقصانها، وغلبة الشهوات عليها من غير شئ يقابلها، ولا يتصور الصبر أيضاً في الملائكة لكمالها، فإن الملائكة جردوا للشوق إلى حضرة الربوبية، ولم تسلط عليهم شهوة صارفة عنها حتى يحتاج إلى مصادمة ما يصدها عن حضرة الجلال.
(1) انظر من منشورات دار البيان بدمشق كتاب "تسلية أهل المصائب" للمنبجي الحنبلي.
(2)
أي في الحديث القدسي.
(3)
أخرجه الديلمي في مسند الفردوس من حديث علي مرفوعاً وهو ضعيف جداً، وروي عنه موقوفاً بسند ضعيف أيضاً.