الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وإذا عبت قوماً بالذي ليس فيهم
…
فذلك عند الله والناس أكبر
وإن ظن أنه سليم من العيوب، فليتشاغل بالشكر على نعم الله عليه، ولا يلوث نفسه بأقبح العيوب وهو الغيبة، وكما لا يرضى لنفسه بغيبة غيره له، فينبغي أن لا يرضاها لغيره من نفسه.
فلينظر في السبب الباعث على الغيبة، فيجتهد على قطع، فإن علاج العلة يكون بقطع سببها. وقد ذكرنا بعض أسبابها، فيعالج الغضب بما سيأتي في كتاب الغضب، ويعالج موافقة الجلاس بأن يعلم أن الله تعالى يغضب على من طلب رضى المخلوقين بسخطه، بل ينبغي أن يغضب على رفقائه، وعلى نحو هذا معالجة البواقي.
3 ـ فصل [في حصول الغيبة بسوء الظن]
وقد تحصل الغيبة بالقلب، وذلك سوء الظن بالمسلمين.
والظن ما تركن إليه النفس ويميل القلب، فليس لك أن تظن بالمسلم شراً، إلا إذا انكشف أمر لا يحتمل التأويل فإن أخبرك بذلك عدل، فمال قلبك إلى تصديقه، كنت معذوراً، لأنك لو كذبته كنت قد أسأت الظن بالمخبر، فلا ينبغي أن تحسن الظن بواحد وتسيئه بآخر، بل ينبغي أن تبحث، هل بينهما عداوة وحسد؟ فتتطرق التهمة حينئذ بسبب ذلك، ومتى خطر لك خاطر سوء على مسلم، فينبغي أن تزيد في مراعاته وتدعو له بالخير، فإن ذلك يغيظ الشيطان ويدفعه عنك، فلا يلقى إليك خاطر السوء خيفة من اشتغالك بالدعاء والمراعاة.
وإذا تحققت هفوة مسلم، فانصحه في السر.
واعلم: أن من ثمرات سوء الظن التجسس، فان القلب لا يقنع بالظن، بل يطلب التحقيق فيشتغل بالتجسس، وذلك منهي عنه، لأنه يوصل إلى هتك ستر المسلم، ولو لم ينكشف لك، كان قلبك أسلم للمسلم.
4 ـ بيان الأعذار المرخصة في الغيبة وكفارة الغيبة
اعلم: أن المرخص في ذكر مساوئ الغير، وهو غرض صحيح في الشرع، لا
يمكن التوصل إليه إلا به، وذلك يدفع إثم الغيبة، وهو أمور:
أحدها التظلم، فإن للمظلوم أن يذكر الظالم إذا استدعاه إلى من يستوفى حقه.
الثاني: الاستعانة على تغيير المنكر، ورد الظالم إلى منهاج الصلاح.
الثالث: الاستفتاء، مثل أن يقول للمفتى ظلمني فلان، أو أخذ حقى، فكيف طريقي في الخلاص، فالتعيين مباح، والأولى التعريض، وهو أن يقول: ما تقول في رجل ظلمه أبوه أو أخوه ونحو ذلك؟
والدليل على إباحة التعيين حديث هند حين قالت: إن أبا سفيان رجل شحيح ولم ينكر عليها النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
الأمر الرابع: تحذير المسلمين، مثل أن ترى متفقهاً يتردد إلى مبتدع أو فاسق، وتخاف أن يتعدى إليه ذلك، فلك أن تكشف له الحال.
وكذلك إذا عرفت من عبدك السرقة أو الفسق، فتذكر ذلك للمشترى.
وكذلك المستشار في التزويج أو إيداع الأمانة، له أن يذكر ما يعرفه على قصد النصح للمستشير، لا على قصد الوقيعة، إذا علم أنه لا ينزجر إلا بالتصريح.
الخامس: أن يكون معروفاً بلقب، كالأعرج، والأعمش، فلا إثم على من يذكره به، وإن وجد عن ذلك معدلاً كان أولى.
السادس: أن يكون مجاهراً بالفسق، ولا يستنكف أن يذكر به.
وقد روى عن النبي صلى اله عليه وآله وسلم أنه قال: " من ألقى جلباب الحياء فلا غيبة له"(1).
وقيل للحسن: الفاجر المعلن بفجوره، ذكرى له بما فيه غيبة: قال: لا، ولا كرامة.
وأما كفارة الغيبة، فاعلم أن المغتاب قد جنى جنايتين:
(1) أخرجه ابن عدي وأبو الشيخ في الأعمال، وابن حبان في الضعفاء، والخرائطي في "مساوئ الأخلاق"، والبيهقي في "السنن" و"الشعب" والديلمي، والخطيب، وابن عساكر، وفي سنده عندهم رواد بن الجراح اختلط بآخره فترك، وقال ابن عدي: عامة ما يرويه لا يتابعه عليه الناس، وقد ضعف حديثه هذا الحافظان البيهقي والعراقي.
إحداهما: على حق الله تعالى، إذ فعل ما نهاه عنه، فكفارة ذلك التوبة والندم.
والجناية الثانية: على محارم المخلوق، فان كانت الغيبة قد بلغت الرجل، جاء إليه واستحله واظهر له الندم على فعله.
وقد روى أبو هريرة رضى الله عنه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: "من كانت عنده مظلمة لأخيه، من مال أو عرض، فليأته فليستحلها منه قبل أن يؤخذ وليس عنده درهم ولا دينار، فإن كانت له حسنات أخذ من حسناته فأعطيها هذا، وإلا أخذ من سيئات هذا فألقى عليه".
وإن كانت الغيبة لم تبلغ الرجل، جعل مكان استحلاله الاستغفار له، لئلا يخبره بما لا يعلمه، فيوغر صدره.
وقد ورد في الحديث: "كفارة من اغتبت أن تستغفر له"(1).
وقال مجاهد: كفارة أكلك لحم أخيك أن تثنى عليه وتدعو له بخير، وكذلك إن كان قد مات.
الآفة التاسعة: من آفات اللسان النميمة، وفى الحديث ان النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال:"لا يدخل الجنة قتات" وهو النمام.
واعلم: أن النميمة تطلق في الغالب على نقل قول إنسان في إنسان، مثل أن يقول: قال فيك فلان كذا وكذا، وليست مخصوصة بهذا، بل حدها كشف ما يكره كشفه، سواء كان من الأقوال أو الأعمال، حتى لو رآه يدفن مالاً لنفسه فذكره فهو نميمة وكل من نقلت إليه النميمة، مثل أن يقال له: قال فيك فلان كذا وكذا أو فعل في حقك كذا، ونحو ذلك فعليه ستة أشياء:
الأول: أن لا يصدق الناقل، لأن النمام فاسق مردود الشهادة.
الثاني: أن ينهاه عن ذلك وينصحه.
الثالث أن يبغضه في الله، فإنه بغيض عند الله.
الرابع: أن لا يظن بأخيه الغائب السوء.
الخامس: أن لا يحمله ما حكى له على التجسس والبحث، لقوله تعالى: {وَلَا
(1) لا يصح، في سنده عنبسه بن عبد الرحمن القرشي قال: البخاري: تركوه، وقال أبو حاتم: كان يضع الحديث.
تَجَسَّسُوا} [الحجرات: 12].
السادس: أن لا يرضى لنفسه ما نهى النمام عنه، فلا يحكى نميمته.
ويروى أن سليمان بن عبد الملك قال لرجل: بلغني أنك وقعت فىَّ، وقلت كذا وكذا. فقال الرجل: ما فعلت، فقال سليمان: صدقت، اذهب بسلام.
وقال يحيى بن أبى كثير: يفسد النمام في ساعة ما لا يفسد الساحر في شهر.
وقد حكى أن رجلا ساوم بعبد، فقال مولاه: إني أبرأ منك من النميمة والكذب، فقال: نعم، أنت برئ منهما، فاشتراه. فجعل يقول لمولاه إن امرأتك تبغي وتفعل، وإنها تريد أن تقتلك، ويقول للمرأة: إن زوجك يريد أن يتزوج عليك ويتسرى، فان أردت أن أعطفه عليك، فلا يتزوج ولا يتسرى، فخذ الموسى واحلقي شعرة من حلقه إذا نام، وقال للزوج: إنها تريد أن تقتلك إذا نمت. قال فذهب فتناوم لها، فجاءت بموسى لتحلق شعرة من حلقه، فأخذ بيدها فقتلها، فجاء أهلها فاستعدوا عليه فقتلوه.
الآفة العاشرة: كلام ذي اللسانين الذي يتردد بين المتعادين، وينقل كلام كل واحد إلى الآخر، ويكلم كل واحد بكلام يوافقه، أو يعده أنه ينصره، او يثنى على الواحد في وجهه ويذمه عند الأخر.
وفى الحديث: "إن شر الناس ذو الوجهين الذي يأتي هؤلاء بوجه وهؤلاء بوجه".
واعلم: أن هذا فيمن لم يضطر إلى ذلك، فأما إذا اضطر إلى مداراة الأمراء جاز.
قال أبو الدرداء رضى الله عنه: إنا لنكشر (1) في وجوه أقوام، وإن قلوبنا لتلعنهم.
ومتى قدر أن لا يظهر موافقتهم لم يجز له.
الآفة الحادية عشرة: المدح، وله آفات:
منها: ما يتعلق بالمادح، ومنها: ما يتعلق بالممدوح. فأما آفات المادح، فقد
(1) التكشير: التبسم، والخبر علقه البخاري في "صحيحه" عن أبي الدرداء.
يقول مالا يتحققه، ولا سبيل للاطلاع عليه، مثل أن يقول: إنه ورع وزاهد، وقد يفرط في المدح فينتهي إلى الكذب، وقد يمدح من ينبغي لأن يذم.
وقد روى في حديث: "إن الله تعالى يغضب إذا مدح الفاسق"(1).
وقال الحسن: من دعا لظالم بالبقاء، فقد أحب أن يعصى الله.
وأما الممدوح، فإنه يحدث فيه كبراً أو إعجاباً، وهما مهلكان ولهذا قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم لما سمع رجلاً يمدح رجلاً:"ويلك، قطعت عنق صاحبك" .. الحديث وهو مشهور.
وقد رُوِّينا عن الحسن قال كان عمر رضى الله عنه قاعداً ومعه الدرة والناس حوله، إذ أقبل الجارود، فقال رجل: هذا سيد ربيعة، فسمعها عمر رضى الله عنه ومن حوله، وسمعها الجارود، فلما دنا منه خفقه (2) بالدرة، فقال: مالي ولك يا أمير المؤمنين؟ قال: مالي ولك، أما سمعتها؟ قال: سمعتها، فمه؟ قال: خشيت أن يخالط قلبك منها شئ فأحببت أن أطأطئ (3) منك، ولأن الإنسان إذا أثنى عليه بالخير رضى عن نفسه، وظن أنه قد بلغ المقصود، فيفتر عن العمل، ولهذا قال: "قطعت عنق صاحبك
…
".
فأما إذا سلم المدح من هذه الآفات لم يكن به بأس، فقد أثنى النبي صلى الله عليه وآله وسلم على أبى بكر وعمر رضى الله عنهما وغيرهما من الصحابة رضى الله عنهم.
وعلى الممدوح أن يكون شديد الاحتراز من آفة الكبر والعجب والفتور عن العمل، ولا ينجو من هذه الآفات إلا أن يعرف نفسه، ويتفكر في أن المادح لو عرف منه ما يعرف من نفسه ما مدحه.
وقد روى أن رجلاً من الصالحين أثنى عليه، فقال: اللهم إن هؤلاء لا يعرفوني وأنت تعرفني.
الآفة الثانية عشرة: الخطأ في فحوى الكلام فيما يرتبط في أمور الدين،
(1) أخرجه ابن أبي الدنيا في "الصمت" والبيهقي في "الشعب" من حديث أنس، وفي سنده أبو خلف الأعمى كذبه يحيى ابن معين، وقال أبو حاتم: منكر الحديث.
(2)
خفقه يخفقه، بضم الفاء وكسرها: ضربه.
(3)
أي أخفض منك وأطأ منك.