الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
إلى نعيم الآخرة، أقل من لقمة بالإضافة إلي ملك الدنيا، لأن الفاني لا نسبة له إلى الباقي، كيف ومدة العمر قصيرة ولذات الدنيا مكدرة؟
وأما أقسام الزهد بالإضافة إلى المرغوب فيه، فعلى ثلاث درجات:
أحدها: الزهد للنجاة من العذاب، والحساب، والأهوال التي بين يدي الآدمي، وهذا زهد الخائفين.
الدرجة الثانية: الزهد للرغبة في الثواب، والنعيم الموعود به، وهذا زاهد الراجين فإن هؤلاء تركوا نعيماً لنعيم.
الدرجة الثالثة: وهى العليا. وه أن لا يزهد في الدنيا للتخلص نم الآلام، ولا للرغبة في نيل اللذات، بل لطلب لقاء الله تعالى وهذا زهد المحسنين العارفين، فإن لذة النظر إلى الله سبحانه وتعالى بالإضافة إلى لذات الجنة، كلذة ملك الدنيا، والاستيلاء عليها، بالإضافة إلى لذة الاستيلاء على عصفور واللعب به.
8 ـ فصل في بيان تفصيل فيما هو من ضروريات الحياة
والضروريات المهمات سبعة أشياء: المطعم، والملبس، والمسكن، وأثاثه، والمنكح، والمال، والجاه.
فأما الأول: -وهو المطعم- فاعلم أن همة الزاهد منه ما يدفع به الجوع مما يوافق بدنه من غير قصد الالتذاذ.
وفى الحديث: "إن عباد الله ليسوا بالمتنعمين".
وقالت عائشة رضى الله عنها لعروة: كان يمر بنا هلال، وهلال، ما يوقد في بيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نار. قال: قلت: يا خالة: فعلى أي شئ كنتم تعيشون؟ قالت: على الأسودين: الماء والتمر.
والأحاديث في ذلك كثيرة مشهورة. وقد كان كثير من الزهاد يخشنون المطعم، وكان فيهم من لا يطيق ذلك، فكان الثوري حسن المطعم، وربما حمل في سفرته اللحم المشوي والفالوذج.
وفى الجملة فالزاهد يقصد ما يصلح به بدنه، ولا يزيد في التنعم، إلا أن الأبدان تختلف، فمنها ما لا يحمل التخشن.
وقد يدخر بعض الناس الزاد الحلال بتقوته، فلا يخرجه ذلك من الزهد، فقد كان السبتي يعمل من السبت إلى السبت ويتقوته.
وورث داود الطائى عشرين ديناراً، فأنفقها في عشرين سنة.
الثاني: الملبس، فالزاهد يقتصر فيه على ما يدفع الحر والبرد، ويستر العورة، ولا بأس أن يكون فيه نوع تجمل، لئلا يخرجه التقشف إلى الشهرة. وكان أكثر لباس السلف خشناً، فصار لبس الخشن شهرة.
وقد روى عن أبى بردة قال: أخرجت إلينا عائشة رضى الله عنها كساء ملبداً، وإزاراً غليظاً، وقالت: قبض رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في هذين. أخرجاه في "الصحيحين".
وعن الحسن قال: خطب عمر رضى الله عنه وهو خليفة، وعليه إزار فيه اثنتا عشرة رقعة.
الثالث: المسكن، فللزاهد فيه ثلاث درجات.
أعلاها: أن لا يطلب موضعاً خاصاً لنفسه، بل يقنع بزوايا المساجد، كأصحاب الصفة.
وأوسطها: أن يطلب موضعاً خاصاً لنفسه، مثل كوخ في سعف، أو خص وما أشبه ذلك.
وأدناها: أن يطلب حجرة مبنية. ومتى طلب السعة وعلو السقف، فقد جاوز حد الزهد في المسكن. وقد توفى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ولم يضع لبنة على لبنة.
قال الحسن: كنت إذا دخلت بيوت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، نلت السقف.
وفى الحديث: "إن المسلم ليؤجر في كل شئ ينفقه إلا في شئ يجعله في هذا التراب".
وقال إبراهيم النخعى رحمه الله: إذا كان البنيان كفافاً، فلا أجر ولا وزر.
وفى الجملة: إن كل ما يراد للضرورة فلا ينبغي أن يجاوز حد الزهد.
الرابع: أثاث البيت، فينبغي للزاهد أن يقتصر فيه على الخزف، ويستعمل الإناء الواحد في مقاصده، فيأكل في القصعة، ويشرب فيها، ومن خرج إلى كثرة العدد في الآلة، أو في نفاسة الجنس، خرج عن الزهد.
ولينظر إلى سيرة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. ففى "صحيح مسلم" من حديث عمر بن الخطاب رضى الله عنه قال: دخلت على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو مضطجع على حصير، وإذا الحصير قد أثر على جنبه، فنظرت في خزانة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فإذا أنا بقبضة من شعير، نحو الصاع. وفى رواية البخاري: فوالله ما رأيت شيئاً يرد البصر. والحديث مشهور في "صحيح مسلم"(1).
وقال على رضى الله عنه: تزوجت فاطمة وما لى ولها فراش إلا جلد كبش، كنا ننام عليه بالليل، ونعلف عليه الناضح بالنهار، ومالي خادم غيرها، ولقد كانت تعجن، وإن قصتها (2) لتضرب حرف الجفنة من الجهد الذي بها.
ودخل رجل على أبى ذر رضى الله عنه، فجعل يقلب بصره في بيته، فقال: يا أبا ذر? ما أرى في بيتك متاعاً، ولا أثاثا. فقال: إن لنا بيتاً نوجه إليه صالح متاعنا. فقال: إنه لا بد لك من متاع ما دمت هاهنا، فقال: إن صاحب المنزل لا يدعنا فيه.
الخامس: المنكح، لا معنى للزهد في أصل النكاح، ولا في كثرته.
قال سهل بن عبد الله: حبب إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم النساء.
وكان على رضى الله عنه من أزهد الصحابة، وكان له أربعة نسوة، وبضع عشرة سرية.
وكان أبو سليمان الدارانى يقول: كل ما شغلك عن الله، من أهل، ومال، وولد، فهو مشؤوم.
وكشف الغطاء عن ذلك أن نقول: من غلبت عليه شهوته وخاف على نفسه، تعين عليه النكاح، فأما من لا يخاف، فهل النكاح في حقه أفضل أو التعبد؟ فيه اختلاف بين
(1) انظر "صحيح مسلم" رقم (1479) في الزهد: باب في الإيلاء واعتزال النساء وتخييرهن.
(2)
القصة، بالضم: شعر الناصية.