الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وهذه كانت سير العلماء وعاداتهم في الأمر بالمعروف، والنهى عن المنكر، وقلة مبالاتهم بسطوات السلاطين إيثاراً لإقامة حق الله تعالى على تقاتهم (1)، إلا أن السلاطين كانوا يعرفون حق العلم وفضله فيصبرون على مضض مواعظ هؤلاء.
والذى أراه الآن الهرب من السلاطين، فهو الأولى، فإن قدر لقاء، أقتنع بلطف الموعظة حسب.
ولذلك سببان:
أحدهما: يتعلق بالواعظ، وهو سوء قصده وميله إلى الدنيا والرياء، فلا يخلص له وعظه.
والثانى: يتعلق بالموعوظ، فإن حب الدنيا قد شغل الأكثرين عن ذكر الآخرة، وتعظيمهم الدنيا أنساهم تعظيم العلماء، وليس لمؤمن أن يذل نفسه.
…
آخر كتاب الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، وذكر المصنف قبل ذلك كتاباً في السماع والوجد، فلنذكر شيئاً منه ها هنا مختصراً.
فصل في حكم السماع
اعلم: أن السماع الذي نعنى به الغناء من أكبر ما تطرق به إبليس إلى فساد القلوب، وغر به خلقاً لا يحصون من العلماء والزهاد، فضلاً عن العوام، حتى ادعوا حضور القلب مع الله عند سماع الأغانى المطربة، وظنوا أن ما أوجبه السماع من طرب القلوب وانزعاجها، وجد يتعلق بالآخرة.
وإذا أردت أن تعرف الحق، فانظر في القرن الأول، هل فعل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم شيئاً من ذلك أو أصحابه، ثم انظر إلى أقوال التابعين وتابعيهم، وفقهاء الأمة، كمالك، وأبى حنيفة، والشافعى، وأحمد رحمهم الله، فكل القوم ذموا الغناء، حتى قال مالك: إذا اشترى جارية، فوجدها مغنية، كان له ردها، وسئل عن الغناء، قال: إنما يفعله الفساق.
(1) كذا في الأصلين، ولعل الصواب: على أنفسهم أو حياتهم.
وسئل الإمام أحمد عن رجل مات وخلف ولداً وجارية مغنية، فاحتاج الصبي إلى بيعها، فقال: تباع على أنها ساذجة لا مغنية، فقيل له: إنها تساوى ثلاثين ألفاً إذا كانت مغنية، وإذا بيعت ساذجة ربما ساوت عشرين ديناراً، فقال: لا تباع إلا على أنها ساذجة. وقد أطبق الفقهاء على الزجر عن الغناء.
ومن المتأخرين أبو الطيب الطبرى من كبار أصحاب الشافعى، وصنف كتاباً، وبالغ في النهى عنه، وإنما تعلق بإباحته قوم مفتونون، قالوا: قد أجازه قوم من السلف. وقد سمع أحمد بن حنبل قول قوال، فقال: لا بأس بهذا، فينبغى أن يتأمل الذي أفتى بجوازه ماهو، وليس إلا الأشعار الزهدية وما يشبهها، من غير ضرب بقضيب، أو آلة تطرب، ولا ضم إلى ذلك تصفيق ولا رقص.
وعلى هذا يحمل حديث عائشة في الجاريتين المغنيتين لما غنتا بما تقاولته الأنصار يوم بعاث فإن ذلك لا يطرب.
ومعلوم أنه لم يكن للأوائل ما أحدثه الأواخر من الدف والصنج والشبابة والشعر الرقيق، فإن هذه الأشياء تثير دفائن الهوى الكامنة في النفوس وتزعج، فيحسب الجاهل هذا الانزعاج معلقاً بالأبخرة، وهيهات.
وليتهم قالوا: إن هذا مباح من اللهو فنستريح إليه، وإنما يظنونه قربة، ويسمون الطرب المخرج عن حد العقل وجداً، وربما أوجد الطرب مالا يحل، من تمزيق الثياب، والتخبط، وكل هذا بمعزل عن طريق السلف، وغير خاف أنه ضلال عن الجادة، فلا ينبغى للإنسان أن يغالط نفسه، وإنما الوجد الصحيح وجد القلب عند سماع القرآن والوعظ، فحينئذ يثور من الباطن خوف من الوعيد، وشوق من الوعد، وندم على التفريط، وجميع هذه الحركات الباطنة توجب سكون الظاهر، لا الجمز والتصفيق، ولم يضق علينا القرآن والوعظ وأشعار الزهد، حتى نحتاج في إحضار القلوب إلى باب الله تعالى أن نذكر سلمى وسعدى، ولا ننكر أنه قد يتفق في بعض تلك الأشعار ما يصح أن يوجد إشارة، إلا أن الأغلب منها إمالة القلوب إلى الهوى الدنيوى.
ومثل من أراد أن يأخذ منها للآخرة، كمثل من قال: أنا أنظر إلى الأمرد المستحسن لأتعجب من صنعة القادر، فإنه قد أخطأ الطريق، لأن ما تستلبه الشهوة والطبع عند النظر يكدر طريق الفكر ويشغل عنه، فلذلك نمنعه ونقول: انظر إلى مالا مكدر فيه قوله تعالى: {أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا} [ق: 6]. ومن قال: إنه لا يؤثر عندى ما يؤثر عند غيرى من انجذاب الطبع إلى الهوى، كان مدعياً ما يخالف