الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
البشر الاطلاع عليها، وكذلك يجوز العفو عن المعاصي وإن كثرت سيئاته، والغضب على المطيع وإن كثرت طاعاته الظاهرة، فإن الاعتماد على التقوى، والتقوى في القلب، وأحوال القلب قد تخفى على صاحبه، فكيف على غيره؟
وأما الناجون، ونعنى بالنجاة السلامة فقط دون السعادة والفوز، وهم قوم لم يخدموا فيخلع عليهم، ولم يقصروا فيعذبوا، ويشبه أن يكون هذا حال المجانين، وأولاد الكفار، والذين لم تبلغهم الدعوة، فلم يكن لهم معرفة، ولا جحود، ولا طاعة ولا معصية، ويصلح أن يكونوا على الأعراف.
وأما الفائزون، فهم العارفون، وهم المقربون والسابقون، وهؤلاء الذين لم تعلم نفس ما أخفى لهم من قرة أعين، وليس حرصهم على الجنة، بل على لقاء الله سبحانه وتعالى والنظر إليه.
ومثالهم مثال المحب، فإنه في تلك الحال غافل عن نفسه، لا يحس بما يصيبه في بدنه، ولا همَّ له سوى محبوبه، فهؤلاء الواصلون إلى قرة أعين، ولا تخطر على قلب بشر، فهذا القدر كافي بيان توزيع الدرجات على الحسنات.
3 ـ فصل في بيان ما تعظم به الصغائر من الذنوب
اعلم: أن الصغيرة تكبر بأسباب: منها الإصرار والمواظبة.
وفى الحديث من رواية ابن عباس رضى الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال:"لا صغيرة مع إصرار ولا كبيرة مع استغفار"(1).
واعلم: أن العفو عن كبيرة قد انقضت ولم يتبعها مثلها، أرجى من العفو عن صغيرة يواظب عليها العبد.
ومثال ذلك قطرات من الماء تقع على حجر متواليات، فإنها تؤثر فيه، ولو جمعت تلك القطرات في مرة وصبت عليه لم تؤثر، ولهذا قال صلى الله عليه وآله وسلم "أحب العمل إلى الله أدومه وإن قل".
(1) رواه أبو الشيخ ومن طريقه الديلمي في "مسند الفردوس" من حديث سعيد بن سليمان سعدويه، عن أبي شيبة الخراساني، عن ابن أبي مليكة عن ابن عباس .. وأبو شيبة الخراساني قال البخاري: لا يتابع على حديثه، وقال الذهبي في "الميزان": أتى بخبر منكر رواه عنه سعدويه، فذكره وقد ذكره ابن المنذر في تفسيره من قول ابن عباس.
ومن الأسباب التي تعظم الصغائر أن يستصغر الذنب، فإن الذنب كلما استعظمه العبد، صغر عند الله تعالى، وكلما استصغره العبد، كبر عند الله تعالى، فإن استعظامه يصدر عن نفور القلب منه وكراهيته له.
قال ابن مسعود رضى الله عنه: إن المؤمن يرى ذنوبه كأنه في أصل جبل يخاف أن يقع عليه، وإن الفاجر يرى ذنوبه كذباب وقع على أنفه، فقال به هكذا. أخرجاه في "الصحيحين".
وإنما يعظم الذنب في قلب المؤمن لعلمه بجلال الله تعالى، فإذا نظر إلى عظمة من عصى، رأى الصغيرة كبيرة.
وفى البخاري من حديث أنس رضى الله عنه: "إنكم لتعملون أعمالاً هي أدق في أعينكم من الشعر إن كنا لنعدها على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من الموبقات".
وقال بلال بن سعد رحمه الله: لا تنظر إلى صغر الخطيئة، ولكن انظر إلى عظمة من عصيت.
ومن الأسباب أن يفرح بالصغيرة ويتمدح بها، كما يقول: أما رأيتني كيف مزَّقت عرض فلان، وذكرت مساويه حتى خجلته، أو يقول التاجر: أما رأيت كيف روجت عليه الزائف، وكيف خدعته وغبنته، فهذا وأمثاله تكبر به الصغائر.
ومنها أن يتهاون بستر الله تعالى وحلمه عنه وإمهاله إياه ولا يدرى أن ذلك قد يكون مقتاً ليزداد بالإهمال إثماً.
ومنها أن يأتى الذنب ثم يذكره بمحضر من غيره، وفى "الصحيحين" من حديث أبى هريرة رضى الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال:"كل أمتي معافى إلا المجاهرين، وإن من المجاهرة أن يعمل الرجل العمل بالليل، ثم يصبح وقد ستره الله عليه، فيقول: يا فلان: عملت البارحة كذا وكذا، وقد بات يستره الله عليه، ويصبح يكشف ستر الله عنه".
ومنها أن يكون المذنب عالماً يُقتدي به، فإذا علم منه الذنب، كبر ذنبه، كلبسه الحرير، ودخوله على الظلمة مع ترك الإنكار عليهم، وإطلاق اللسان في الأعراض، واشتغاله من العلوم بما لا يقصد منه إلا الجاه، كعلم الجدل، فهذه ذنوب يتبع العالم