الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
موعد لقاء حبيبه. هذا في غالب الأمر يستبطئ مجيء الموت، ويحبه ليتخلص من دار العاصين، وينتقل إلى جوار رب العالمين، كما قال بعضهم: حبيب جاء على فاقة.
فإذن: التائب معذور في كراهة الموت، وهذا معذور في حب الموت وتمنيه، وأعلى منهما من فوض أمره إلى الله تعالى، فصار لا يختار لنفسه موتاً ولا حياة، بل تكون الأشياء إليه أحبها إلى مولاه، فهذا قد انتهى بفرط الحب والولاء إلى مقام التسليم والرضى، وهو الغاية والمنتهى.
وعلى كل حال، ففى ذكر الموت ثواب وفضل، فإن المنهمك في الدنيا قد يستفيد بذكر الموت التجافى عن الدنيا، لأن ذكره ينغص عليه نعيمه ويكدره.
20 ـ باب ما جاء في فضل ذكر الموت
عن أبى هريرة رضى الله عنه رضى الله عنه قال: رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "أكثروا ذكر هاذم اللذات: الموت".
وعن أنس رضى الله عنه: أن رجلاً ذكر عند النبي صلى الله عليه وآله وسلم فأحسنوا عليه الثناء، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم:"كيف كان ذكر صاحبكم للموت؟ " قالوا: ما كنا نسمعه يذكر الموت. قال: "فإن صاحبكم ليس هناك"(1).
وعن ابن عمر رضى الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم سئل: "أي المؤمنين أكيس، قال: أكثرهم للموت ذكراً وأشدهم استعداداً له أولئك هم الأكياس"(2).
وقال الحسن البصري: فضح الموت الدنيا، فلم يترك لذي لب فيها فرحاً، وما ألزم عبد قلبه ذكر الموت إلا صغرت الدنيا عليه، وهان عليه جميع ما فيها.
وكان ابن عمر رضى الله إذا ذكر الموت انتفض انتفاض الطير، وكان يجمع كل ليلة الفقهاء، فيتذكرون الموت والقيامة ثم يبكون، حتى كأن بين أيدهم جنازة.
(1) نسبة العراقي في "تخريج الإحياء" إلى ابن أبى الدنيا في "الموت" بإسناد ضعيف.
(2)
ضعيف أخرجه ابن ماجة (4295) من حديث ابن عمر، وفى سنده مجهولان.
وكان حامد القيصري يقول: كلنا قد أيقن الموت، وما نرى له مستعداً، وكلنا قد أيقن بالجنة وما نرى لها عاملاً، كلنا قد أيقن بالنار وما نرى لها خائفاً، فلا تفرحون؟ وما عسيتم تنتظرون؟! الموت، فهو أول وارد عليكم من أمر الله بخير أو بشر، فيا إخوتاه! سيروا إلى ربكم سيراً جميلاً.
وقال شميط بن عجلان: من جعل الموت نصب عينيه، لم يبال بضيق الدنيا ولا بسعتها.
واعلم: أن خطر الموت عظيم، وإنما غفل الناس عنه لقلة فكرهم وذكرهم له، ومن يذكره منهم إنما يذكره بقلب غافل، فلهذا لا ينجع فيه ذكر الموت، والطريق في ذلك أن يفرغ العبد قلبه لذكر الموت الذي هو بين يديه، كالذي يريد أن يسافر إلى مفازة مخطرة، أو يركب البحر، فإنه لا يتفكر إلا في ذلك. وأنفع طريق في ذلك ذكر أشكاله وأقرانه الذين مضوا قلبه، فيذكر موتهم ومصارعهم تحت الثرى.
قال ابن مسعود رضى الله عنه: السعيد من وعظ بغيره. وقال أبو الدرداء رضى الله عنه: إذا ذكر الموتى، فعد نفسك كأحدهم.
وينبغى أن يكثر دخول المقابر، ومتى سكنت نفسه إلى شىء في الدنيا، فليتفكر في الحال أنه لا بد من مفارقته، ويقصر أمله.
وقد روى عن عبد الله بن عمر رضى الله عنهما قال: أخذ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بمنكبي فقال: "كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل" وكان ابن عمر يقول: إذا أمسيت فلا تنتظر الصباح، وإذا أصبحت فلا تنتظر المساء، وخذ من صحتك لمرضك، ومن حياتك لموتك.
وفى حديث آخر "إن أخوف ما أخاف على أمتي: الهوى وطول الأمل، فأما الهوى فيضل عن الحق، وأما طول الأمل فينسى الآخرة"(1).
وعن الحسن قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لأصحابه: "أكلكم يحب أن يدخل الجنة؟ " قالوا: نعم يارسول الله؟ قال: "قصروا الأمل، وأثبتوا آجالكم بين أبصاركم، واستحيوا من الله عز وجل حق حيائه (2) ".
(1) أخرجه ابن عدى والحاكم عن جابر وسنده ضيف، وانظر شرح الإحياء 10/ 237.
(2)
ضعيف رواه ابن أبى الدنيا في "قصر الأمل" عن الحسن مرسلا.
وعن أبى زكريا التيمى قال: بينما سليمان بن عبد الملك في المسجد الحرام، إذا أتى بحجر منفوش، فطلب من يقرأه، فإذا فيه: ابن آدم! لو رأيت قرب ما بقى من أجلك لزهدت في طول أملك، ولرغبت في الزيادة من عملك، ولقصرت من حرصك وحيلك، وإنما يلقاك ندمك لو قد زلت بك قدمك، وألمك أهلك وحشمك، فبان منك الوالد والنسب، فلا أنت إلى دنياك عائد، ولا في حسناتك زائد، فاعمل ليوم القيامة يوم الحسرة والندامة.
واعلم: أن السبب في طول الأمل شيئان:
أحدهما: حب الدنيا، والثاني: الجهل.
أما حب الدنيا فإن الإنسان إذا أنس بها وبشهواتها ولذاتها وعلائقها، ثقل على قلبه مفارقتها، فامتنع قلبه من الفكر في الموت الذي هو سبب مفارقتها، وكل من ذكره شيئاً دفعه عن نفسه، والإنسان مشغول بالأماني الباطلة، فيمنى نفسه أبدأ بما يوافق مراده من البقاء في الدنيا، وما يحتاج إليه من مال وأهل ومسكن وأصدقاء وسائر أسباب الدنيا، فيصير قلبه عاكفاً على هذا الفكر، فيلهو عن ذكر الموت، ولا يقدر قربه. فإن خطر له الموت في بعض الأحوال والحاجة إلى الاستعداد له، سوف بذلك ووعد نفسه، وقال: الأيام بين يديك إلى أن تكبر ثم تتوب. وإذا كبر قال: إلى أن تصير شيخاً، وإن صار شيخاً، قال: إلى أن يفرغ من بناء هذه الدار، وعمارة هذه الضيعة، أو يرجع من هذه السفرة. فلا يزال يسوف ويؤخر، ولا يحرص في إتمام شغل إلا ويتعلق بإتمام ذلك الشغل عشرة أشغال، وهكذا على التدريج يؤخر يوماً بعد يوم، ويشتغل بشغل بعد شغل، إلى أن تختطفه المنية في وقت لا يحتسبه، فتطول عند ذلك حسرته.
وأكثر صياح أهل النار من "سوف" يقولون: واحسرتاه! من "سوف". وأصل هذه الأماني كلها، حب الدنيا والأنس بها، والغفلة عن قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم:"أحبب ما شئت فإنك مفارقه".
السبب الثاني: الجهل، وهو أن الإنسان يعول على شبابه، ويستبعد قرب الموت مع الشباب، أو ليس يتفكر المسكين في أن مشايخ بلده لو عدوا كانوا أقل من العشر؟ وإنما قلوا لأن الموت في الشباب أكثر، والى أن يموت شيخ قد يموت ألف صبى وشباب وقد يغتر بصحته، ولا يدرى أن الموت يأتى فجأة، وإن استبعد ذلك، فإن