الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وسلم أنه قال: "لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر"، فقال رجل: إن الرجل يجب أن يكون ثوبه حسنة، ونعله حسنة، فقال:"إن الله جميل يحب الجمال، الكبر بطر الحق وغمط الناس".
ومن الناس من يؤثر إظهار نعمة الله عليه، وقد أمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بذلك.
1 ـ فصل [في أن أبواب الرياء بعضها أشد من بعض]
واعلم: أن بعض أبواب الرياء أشد من بعض، لأنه درجات.
أشدها وأغلظها أن لا يكون مراده بالعبادة الثواب أصلاً، كالذي يصلى بين الناس، ولو انفرد لم يصل.
الدرجة الثانية: أن يقصد الثواب مع الرياء قصداً ضعيفاً بحيث لو كان خالياً لم يفعله، فهو قريب من القسم الأول في كونهما ممقوتين عند الله تعالى.
الدرجة الثالثة: أن يكون قصد الرياء، وقصد الثواب متساويين، بحيث لو انفرد كل واحد منهما عن الآخر لم يبعثه على العمل، فهذا قد أفسد مثل ما اصلح، ولا يسلم من الإثم.
الرابعة: أن يكون إطلاع الناس عليه مقوياً لنشاطه، ولو لم يطلع عليه أحد لم يترك العبادة، فهذا يثاب على قصده الصحيح، ويعاقب على قصده الفاسد، وقريب من ذلك الرياء بأوصاف العبادة لا بأصلها، كالذي يصلى وغرضه تخفيف الركوع والسجود ولا يطيل القراءة، فإذا رآه الناس أحسن ذلك فهذا أيضاً من الرياء المحظور، لأنه يتضمن تعظيم الخلق، ولكنه دون الرياء بأصول العبادات.
2 ـ بيان الرياء الخفي الذي هو أخفى من دبيب النمل
اعلم أن الرياء جلي وخفي.
فالجلي: هو الذي يبعث على العمل ويحمل عليه.
وأخفى منه قليلاً رياء لا يبعث على العمل بمجرده، لكن يخفف العمل الذي أريد به وجه الله تعالى، كالذي يعتاد التهجد كل ليلة ويثقل عليه فإذا نزل عنده ضيف نشط له وسهل عليه. وأخفى من ذلك ما لا يؤثر في العمل ولا في التسهيل، لكنه مع ذلك مستبطن في القلب، ومتى لم يؤثر الدعاء في العمل لم يكن أن يعرف إلا بالعلامات، وأجلى علاماته أنه يسر باطلاع الناس على طاعته، فرب عبد مخلص يخلص العمل، ولا يقصد الرياء بل يكرهه، ويتم العمل على ذلك، لكن إذا اطلع الناس عليه سره ذلك وارتاح له، وروح ذلك عن قلبه شدة العبادة، فهذا السرور يدل على رياء خفي منه يرشح السرور، ثم إذا استشعر تلك اللذة بالاطلاع لم يقابل ذلك بكراهة، بل قد يتحرك حركة خفيفة، ويتكلف أن يطلع عليه بالتعريض لا بالتصريح.
وقد يخفى، فلا يدعو إلى الإظهار بالنطق تعريضاً ولا تصريحاً، ولكن بالشمائل كإظهار النحول، والصفار، وخفض الصوت، ويبس الشفتين وآثار الدموع وغلبة النعاس الدالة على طول التهجد.
وأخفى من ذلك أن يختفي بحيث لا يريد الاطلاع عليه، ولكنه مع ذلك إذا رأى الناس أحب أن يبدؤوه بالسلام، وأن يقابلوه بالبشاشة والتوقير وينشطوا في قضاء حوائجه، ويسامحوه في المعاملة، ويوسعوا له المكان، فان قصر في ذلك مقصر، ثقل ذلك على قلبه، كأن نفسه تتقاضى الاحترام على الطاعة التي أخفاها.
ومتى لم يكون وجود العبادة كعدمها في كل ما يتعلق بالخلق، لم يكن خالياً عن شوب خفي من الرياء، وكل ذلك يوشك أن يقص الأجر، ولا يسلم منه إلا الصديقون.
وقد روينا عن وهب بن منبه، أن رجلاً من العباد قال لأصحابه: إنا قد فارقنا الأموال والأولاد مخافة الطغيان، وأنا نخاف أن يكون قد دخل علينا في أمرنا من هذا الطغيان أكثر مما دخل على الأهل الأموال في أموالهم، إن أحدنا إذا لقي أحب أن يعظم لمكان دينه، وإن كان له حاجة أحب أن تقضى لمكان دينه: وإن اشترى شئياً أحب أن يرخص له لمكان دينه، فبلغ ذلك ملكهم، فركب في موكبه، فإذا السهل والجبل قد امتلأ من الناس، فقال العابد: ما هذا؟ قيل: هذا الملك، فقال لصاحبه: ائتني بطعام، فأتاه
ببقل وزبيب وقلوب الشجر، فجعل يحشو شدقيه ويأكل أكلاً عنيفاً، فقال الملك: أين صاحبكم؟ فقالوا: هذا، كيف أنت؟ قال: كالناس، فقال الملك ما عند هذا خير، وانصرف عنه، فقال: الحمد لله الذي صرفه عنى وهو لى لائم.
ولم يزل المخلصون خائفين من الرياء الخفى، يجتهدون في مخادعة الناس عن أعمالهم الصالحة، ويحرصون على إخفائها أعظم ما يحرص الناس على إخفاء فواحشهم، كل ذلك رجاء أن يخلص عملهم ليجازيهم الله تعالى في القيامة بإخلاصهم.
وشوائب الرياء الخفى كثيرة لا تنحصر، ومتى أدرك الإنسان من نفسه تفرقة بين أن يطلع على عبادته أو لا يطلع، ففيه شعبة من الرياء، ولكن ليس كل شوب محبطاً للأجر ومفسداً للعمل، بل فيه تفصيل.
فإن قيل: فما ترى أحداً ينفك عن السرور إذا عرفت طاعته، فهل جميع ذلك مذموم؟
فالجواب: أن السرور ينقسم إلى محمود ومذموم.
فالمحمود: أن يكون قصده إخفاء الطاعة والإخلاص لله، ولكن لما اطلع عليه الخلق علم أن الله تعالى أطلعهم وأظهر الجميل من أحواله، فيسر بحسن صنع الله ونظره له ولطفه به، حيث كان يستر الطاعة والمعصية، فأظهر الله سبحانه عليه الطاعة، وستر عليه المعصية، ولا لطف أعظم من ستر القبيح، وإظهار الجميل، فيكون فرحه بذلك، لا بحمد الناس وقيام المنزلة في قلوبهم، أو يستدل بإظهار الله الجميل، وستر القبيح عليه في الدنيا، أنه كذلك يفعل به في الآخرة، فإنه قد جاء معنى ذلك في الحديث.
فأما إن كان فرحه باطلاع الناس عليه لقيام منزلته عندهم، حتى يمدحوه ويعظموه ويقضوا حوائجه، فهذا مكروه مذموم.
فإن قيل: فما وجه حديث أبى هريرة رضى الله عنه قال: قال رجل: يا رسول الله، الرجل يعمل العمل فيسره، فإذا اطلع عليه، أعجبه، فقال:"له أجران: أجر السر، وأجر العلانية".
فالجواب: أن هذا الحديث ضعيف، وقد رواه الترمذي، وفسره بعض أهل العلم بأن معناه: أن يعجبه ثناء الناس عليه بالخير، لقوله عليه السلام:"أنتم شهداء الله في الأرض".