الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بَعِيدٌ) - جُمْلَةُ حَالِيَّةٌ - (صَلَّى، ثُمَّ نَفَرَ) إجَابَةً لِلدُّعَاءَيْنِ، وَإِنْ نُودِيَ بِالصَّلَاةِ (وَ) النَّفِيرِ (مَعَ قُرْبِهِ) أَيْ: الْعَدُوِّ (يَنْفِرُ، وَيُصَلِّي رَاكِبًا أَفْضَلُ) نَصًّا، وَيَجُوزُ أَنْ يُصَلِّيَ ثُمَّ يَنْفِرَ (وَلَا يُنْفِرُ) أَيْ: لَا يُنَادِي بِالنَّفِيرِ (ل) أَجْلِ (آبِقٍ) لِئَلَّا يَهْلَكَ النَّاسُ بِسَبَبِهِ (وَلَوْ نُودِيَ: الصَّلَاةُ جَامِعَةٌ لِحَادِثَةٍ يُشَاوَرُ فِيهَا، لَمْ يَتَأَخَّرْ أَحَدٌ بِلَا عُذْرٍ) لَهُ، لِوُجُوبِ جِهَادٍ بِغَايَةِ مَا يُمْكِنُ كَمَا تَقَدَّمَ مِنْ بَدَنٍ وَرَأْيٍ وَتَدْبِيرٍ، وَالْحَرْبُ خُدْعَةٌ.
(ومَنَعَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مَنْ نَزَعَ لَأْمَةَ الْحَرْبِ إذَا لَبِسَهَا حَتَّى يَلْقَى الْعَدُوَّ) لِحَدِيثِ أَحْمَدَ، وَحَسَّنَهُ الْبَيْهَقِيُّ، وَرَوَاهُ الْبُخَارِيُّ تَعْلِيقًا. وَاللَّأْمَةُ كَ: تَمْرَةٍ، تُجْمَعُ عَلَى: لَأْمٍ كَتَمْرٍ، وَعَلَى لُؤَمٍ كَصُرَدٍ عَلَى غَيْرِ قِيَاسٍ، قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: وَلَعَلَّهُ جَمَعَ لُؤَمَةٍ كَجُمُعَةٍ، وَجُمَعٍ (وَ) مَنَعَ (مِنْ رَمْزٍ بِعَيْنٍ وَإِشَارَةٍ بِهَا) لِخَبَرِ:«مَا يَنْبَغِي لِنَبِيٍّ أَنْ تَكُونَ لَهُ خَائِنَةُ الْأَعْيُنِ» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد، وَصَحَّحَهُ الْحَاكِمُ عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ، وَهِيَ: الْإِيمَاءُ إلَى مُبَاحٍ مِنْ غَيْرِ ضَرْبٍ أَوْ قَتْلٍ عَلَى خِلَافِ مَا هُوَ ظَاهِرٌ، سُمِّيَ بِذَلِكَ لِشَبَهِهِ بِالْخِيَانَةِ بِإِخْفَائِهِ، وَلَا يَحْرُمُ ذَلِكَ عَلَى غَيْرِهِ إلَّا فِي مَحْظُورٍ (وَ) مَنَعَ مِنْ (شِعْرٍ وَخَطٍّ وَتَعَلُّمِهَا) لِقَوْلِهِ تَعَالَى:{وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ} [يس: 69] وَقَوْلُهُ: {وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ} [العنكبوت: 48] .
[فَصْلٌ أَفْضَلُ مُتَطَوَّعٍ بِهِ مِنْ الْعِبَادَاتِ الْجِهَادُ]
(فَصْلٌ) وَأَفْضَلُ مُتَطَوَّعٍ بِهِ مِنْ الْعِبَادَاتِ الْجِهَادُ، قَالَ أَحْمَدُ: لَا أَعْلَمُ شَيْئًا مِنْ الْعِلْمِ بَعْدَ الْفَرَائِضِ أَفْضَلَ مِنْ الْجِهَادِ، لِحَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ:«قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَيُّ النَّاسِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: مَنْ يُجَاهِدُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَلِأَنَّ الْجِهَادَ بَذْلُ الْمُهْجَةِ وَالْمَالِ، وَنَفْعُهُ يَعُمُّ الْمُسْلِمِينَ كُلَّهُمْ صَغِيرَهُمْ وَكَبِيرَهُمْ، قَوِيَّهُمْ وَضَعِيفَهُمْ، ذَكَرَهُمْ وَأُنْثَاهُمْ
وَغَيْرُهُ لَا يُسَاوِيهِ فِي نَفْعِهِ وَخَطَرِهِ، فَلَا يُسَاوِيهِ فِي فَضْلِهِ (وَغَزْوُ الْبَحْرِ أَفْضَلُ) مِنْ غَزْوِ الْبَرِّ، «لِحَدِيثِ أُمِّ حَرَامٍ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم نَامَ عِنْدَهَا ثُمَّ اسْتَيْقَظَ، وَهُوَ يَضْحَكُ، قَالَتْ: فَقُلْت: مَا يُضْحِكُكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: نَاسٌ مِنْ أُمَّتِي عُرِضُوا عَلَيَّ غُزَاةً فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَرْكَبُونَ ثَبَجَ الْبَحْرِ مُلُوكًا عَلَى الْأَسِرَّةِ، أَوْ مِثْلَ الْمُلُوكِ عَلَى الْأَسِرَّةِ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. قَالَ فِي الْقَامُوسِ ثَبَجُ الشَّيْءِ: وَسَطُهُ.
وَرَوَى ابْنُ مَاجَهْ مَرْفُوعًا: «شَهِيدُ الْبَحْرِ مِثْلُ شَهِيدَيْ الْبَرِّ، وَالْمَائِدُ فِي الْبَحْرِ كَالْمُتَشَحِّطِ فِي دَمِهِ فِي الْبَرِّ، وَمَا بَيْنَ الْمَوْجَتَيْنِ كَقَاطِعِ الدُّنْيَا فِي طَاعَةِ اللَّهِ، وَإِنَّ اللَّهَ قَدْ وَكَّلَ مَلَكَ الْمَوْتِ بِقَبْضِ الْأَرْوَاحِ إلَّا شُهَدَاءَ الْبَحْرِ، فَإِنَّهُ يَتَوَلَّى قَبْضَ أَرْوَاحِهِمْ، وَيَغْفِرُ لِشَهِيدِ الْبَرِّ الذُّنُوبَ كُلَّهَا إلَّا الدَّيْنَ، وَيَغْفِرُ لِشَهِيدِ الْبَحْرِ الذُّنُوبَ كُلَّهَا وَالدَّيْنَ» وَلِأَنَّ الْبَحْرَ أَعْظَمُ خَطَرًا وَمَشَقَّةً، قَالَ فِي الْقَامُوسِ: وَالْمَائِدُ: الَّذِي يُصِيبُهُ غَثَيَانٌ مِنْ رُكُوبِ الْبَحْرِ.
(وَلَا بَأْسَ بِخَلْعِ نَعْلِهِ) أَيْ: مُشَيِّعِ الْغُزَاةِ (لِتَغْبَرَّ قَدَمَاهُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، فَعَلَهُ) الْإِمَامُ (أَحْمَدُ) حِينَ شَيَّعَ أَبَا الْحَارِثِ الصَّائِغَ، وَنَعْلَاهُ فِي يَدِهِ (وَتُكَفِّرُ الشَّهَادَةُ كُلَّ الذُّنُوبِ غَيْرَ الدَّيْنِ) لِلْخَبَرِ (إلَّا شَهِيدَ بَحْرٍ) فَيُكَفَّرُ عَنْهُ الدَّيْنُ (قَالَ الشَّيْخُ) تَقِيُّ الدِّينِ:(وَغَيْرُ مَظَالِمِ الْعِبَادِ كَقَتْلٍ وَظُلْمٍ) وَزَكَاةٍ وَحَجٍّ أَخَّرَهُمَا، فَلَا تُكَفِّرُهُمَا الشَّهَادَةُ (وَهَذَا) أَيْ: تَكْفِيرُ شَهَادَةِ الْبَحْرِ بِخُصُوصِهَا لِلدَّيْنِ (فِي مُتَهَاوَنٍ فِي قَضَائِهِ) أَيْ: لِلدَّيْنِ (وَإِلَّا) بِتَهَاوُنٍ فِي قَضَائِهِ، بَلْ تَرَكَهُ عَجْزًا عَنْهُ (فَاَللَّهُ يَقْضِيه عَنْهُ) سَوَاءٌ (مَاتَ) حَتْفَ أَنْفِهِ (أَوْ قُتِلَ حَيْثُ أَنْفَقَهُ فِي غَيْرِ سَرَفٍ، وَلَا تَبْذِيرٍ، قَالَ الْآجُرِّيُّ) وَقَالَ الْمَجْدُ فِي شَرْحِ الْهِدَايَةِ: إذَا لَمْ يَقْدِرْ الْغَارِمُ فِي وَقْتٍ مِنْ الْأَوْقَاتِ عَلَى قَضَاءِ دَيْنِهِ فَغَيْرُ مُطَالَبٍ بِهِ فِي الدُّنْيَا، وَلَا فِي الْآخِرَةِ. انْتَهَى.
وَقَالَ ابْنُ عَقِيلٍ فِي الْمُجَلَّدِ التَّاسِعَ عَشَرَ مِنْ الْفُنُونِ: أَنَا أَقُولُ: الْمُطَالَبَةُ فِي الْآخِرَةِ فَرْعٌ عَلَى مُطَالَبَةِ الدُّنْيَا وَكُلُّ حَقٍّ لَمْ يَثْبُتْ فِي الدُّنْيَا فَلَا ثَبَاتَ لَهُ فِي الْآخِرَةِ، وَقَالَ بَعْدَ كَلَامٍ طَوِيلٍ: كُلُّ حَقٍّ مُوَسَّعٌ لَا يَحْصُلُ بِتَأْخِيرِهِ فِي زَمَانِ السَّعَةِ وَالْمُهْلَةِ نَوْعُ مَأْثَمٍ، بِدَلِيلِ مَنْ مَاتَ قَبْلَ خُرُوجِ وَقْتِ الصَّلَاةِ، بِخِلَافِ مَنْ مَاتَ بَعْدَ خُرُوجِ الْوَقْتِ مَعَ التَّأْخِيرِ وَإِمْكَانِ الْأَدَاءِ، قَالَ أَيْضًا: الْمُعْسِرُ الْعَازِمُ عَلَى قَضَاءِ دَيْنِهِ مَتَى اسْتَطَاعَ إذَا مَاتَ قَبْلَ الْيَسَارِ، وَعَزَمَ عَلَى الْقَضَاءِ، قَامَ الْعَزْمُ فِي دَفْعِ مَأْثَمِهِ مَقَامَ الْقَضَاءِ، فَلَا مَأْثَمَ. انْتَهَى. وَقَالَ أَبُو يَعْلَى الصَّغِيرُ فِي مَسْأَلَةِ حِلِّ الدَّيْنِ بِالْمَوْتِ: مَعْنَى كَلَامِ ابْنِ عَقِيلٍ، وَالْحَاصِلُ: أَنَّ كَلَامَ الْأَصْحَابِ كَمَا تَرَى صَرِيحٌ فِي عَدَمِ الْمُطَالَبَةِ فِي الْآخِرَةِ. وَاخْتَلَفَ كَلَامُهُمْ: هَلْ تُعْتَبَرُ الْقُدْرَةُ عَلَى الْوَفَاءِ أَوْ الْمُطَالَبَةِ، فَظَاهِرُ كَلَامِ الْآجُرِّيُّ وَالْمَجْدِ: اعْتِبَارُ الْقُدْرَةِ، وَظَاهِرُ كَلَامِ ابْنِ عَقِيلٍ وَأَبِي يَعْلَى الصَّغِيرِ، بَلْ صَرِيحُهُ: اعْتِبَارُ الْمُطَالَبَةِ مِنْ رَبِّ الدَّيْنِ، فَإِذَا لَمْ يُطَالِبْ الدَّائِنُ الْمَدِينَ حَتَّى مَاتَ، وَتَعَذَّرَ الِاسْتِيفَاءُ، لَمْ يَكُنْ الْمَدِينُ مُؤَاخَذًا إنْ كَانَ قَادِرًا كَمَا فَهِمَهُ صَاحِبُ الرِّعَايَةِ مِنْ كَلَامِ ابْنِ عَقِيلٍ.
(وَيُغْزَى مَعَ كُلِّ بَرٍّ وَفَاجِرٍ يَحْفَظَانِ الْمُسْلِمِينَ) لِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ
مَرْفُوعًا: «الْجِهَادُ وَاجِبٌ عَلَيْكُمْ مَعَ كُلِّ أَمِيرٍ بَرًّا كَانَ أَوْ فَاجِرًا» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد.
وَ (لَا) يُغْزَى مَعَ أَمِيرٍ (مُخَذِّلٍ وَنَحْوِهِ) كَمَعْرُوفٍ بِهَزِيمَةٍ وَتَضْيِيعِ الْمُسْلِمِينَ، لِفَوَاتِ الْمَقْصُودِ (وَيُقَدَّمُ أَقْوَاهُمَا) أَيْ: الْأَمِيرَيْنِ (وَلَوْ عُرِفَ بِغُلُولٍ وَشُرْبِ خَمْرٍ) لِحَدِيثِ: «إنَّ اللَّهَ لَيُؤَيِّدُ هَذَا الدَّيْنَ بِالرَّجُلِ الْفَاجِرِ» (وَجِهَادُ عَدُوٍّ مُجَاوِرٍ مُتَعَيَّنٌ) لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ} [التوبة: 123] وَلِأَنَّ الِاشْتِغَالَ بِالْبَعِيدِ يُمَكَّنُ الْقَرِيبَ مِنْ انْتِهَازِ الْفُرْصَةِ (إلَّا لِحَاجَةٍ) إلَى قِتَالِ الْأَبْعَدِ، كَكَوْنِ الْأَقْرَبِ مُهَادَنًا، أَوْ مَنَعَ مَانِعٌ مِنْ قِتَالِهِ، أَوْ كَانَ الْأَبْعَدُ أَخْوَفَ، أَوْ لِعِزَّتِهِ وَنَحْوِهَا، فَلَا بَأْسَ بِالْبَدَاءَةِ بِالْأَبْعَدِ لِلْحَاجَةِ. (مَعَ تَسَاوٍ) فِي قُرْبٍ وَبُعْدٍ بَيْنَ عَدُوَّيْنِ وَأَحَدُهُمَا أَهْلُ كِتَابٍ
(جِهَادُ أَهْلِ الْكِتَابِ أَفْضَلُ) لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم «لِأُمِّ خَلَّادٍ: إنَّ ابْنَك لَهُ أَجْرُ شَهِيدَيْنِ، قَالَتْ: وَلِمَ ذَاكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: لِأَنَّهُ قَتَلَهُ أَهْلُ كِتَابٍ» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. وَلِأَنَّهُمْ يُقَاتِلُونَ عَنْ دِينٍ. (وَيُقَاتِلُونَ) أَيْ: أَهْلَ الْكِتَابِ وَالْمَجُوس (إلَّا إنْ أَسْلَمُوا) لِحَدِيثِ: «أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَشْهَدُوا أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ» (أَوْ بَذَلُوا الْجِزْيَةَ) بِشَرْطِهِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ} [التوبة: 29] الْآيَةَ (وَ) يُقَاتَلُ (نَحْوُ وَثَنِيٍّ) مِمَّنْ لَا تُقْبَلُ مِنْهُ الْجِزْيَةُ كَعَابِدِ كَوْكَبٍ (حَتَّى يُسْلِمَ) لِلْحَدِيثِ السَّابِقِ، خَصَّ مِنْهُ أَهْلَ الْكِتَابِ لِلْآيَةِ، وَالْمَجُوسُ لِأَخْذِهِ صلى الله عليه وسلم الْجِزْيَةَ مِنْ مَجُوسِ هَجَرَ وَبَقِيَ مَنْ عَدَاهُمْ (فَإِنْ امْتَنَعُوا) مِنْ بَذْلِ الْجِزْيَةِ حَيْثُ تُقْبَلُ مِنْهُمْ، وَمِنْ الْإِسْلَامِ (وَضَعُفَ الْمُسْلِمُونَ عَنْ قِتَالِهِمْ، انْصَرَفُوا) عَنْ الْكُفَّارِ بِلَا قِتَالٍ لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ مُصَالَحَتِهِ صلى الله عليه وسلم قُرَيْشًا عَلَى تَرْكِ الْقِتَالِ عَشْرَ
سِنِينَ، وَإِنْ خِيفَ عَلَى مَنْ يَلِي الْكُفَّارَ مِنْ الْمُسْلِمِينَ، فَلَا يَجُوزُ الِانْصِرَافُ عَنْ الْكُفَّارِ، لِئَلَّا يُسَلِّطُوهُمْ عَلَى الْمُسْلِمِينَ.
(وَسُنَّ دَعْوَةُ) كُفَّارٍ إلَى الْإِسْلَامِ (قَبْلَ قِتَالٍ لِمَنْ بَلَغَتْهُ) الدَّعْوَةُ قَطْعًا لِحُجَّتِهِ (وَتَجِبُ) الدَّعْوَةُ (لِمَنْ لَمْ تَبْلُغْهُ) لِحَدِيثِ بُرَيْدَةَ قَالَ: «كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إذَا بَعَثَ أَمِيرًا عَلَى سَرِيَّةٍ أَوْ جَيْشٍ أَمَرَهُ بِتَقْوَى اللَّهِ تَعَالَى فِي خَاصَّةِ نَفْسِهِ، وَبِمَنْ مَعَهُ مِنْ الْمُسْلِمِينَ، وَقَالَ: إذَا لَقِيتَ عَدُوَّك مِنْ الْمُشْرِكِينَ فَادْعُهُمْ إلَى إحْدَى ثَلَاثٍ، فَإِنْ هُمْ أَجَابُوك إلَيْهَا فَاقْبَلْ مِنْهُمْ، وَكُفَّ عَنْهُمْ: اُدْعُهُمْ إلَى الْإِسْلَامِ، فَإِنْ هُمْ أَبَوْا، فَادْعُهُمْ إلَى إعْطَاءِ الْجِزْيَةِ، فَإِنْ أَجَابُوك فَاقْبَلْ مِنْهُمْ، وَكُفَّ عَنْهُمْ، فَإِنْ أَبَوْا فَاسْتَعِنْ بِاَللَّهِ وَقَاتِلْهُمْ» رَوَاهُ مُسْلِمٌ (مَا لَمْ يَبْدَءُونَا) أَيْ: يَقْصِدُونَا (بَغْتَةً فِيهِمَا) أَيْ: فِي الِاسْتِحْبَابِ وَالْوُجُوبِ، قَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ: وُجُوبُ الدَّعْوَةِ وَاسْتِحْبَابُهَا بِمَا إذَا قَصَدَ الْمُسْلِمُونَ الْكُفَّارَ، أَمَّا إذَا كَانَ الْكُفَّارُ قَاصِدِينَ بِالْقِتَالِ، فَلِلْمُسْلِمِينَ قِتَالُهُمْ مِنْ غَيْرِ دَعْوَةٍ دَفْعًا عَنْ نُفُوسِهِمْ وَحَرِيمِهِمْ.
(وَأَمْرُ الْجِهَادِ مُفَوَّضٌ لِلْإِمَامِ وَاجْتِهَادِهِ) لِأَنَّهُ أَعْرَفُ بِحَالِ النَّاسِ، وَحَالِ الْعَدُوِّ وَنِكَايَتِهِمْ، وَقُرْبِهِمْ وَبُعْدِهِمْ (وَيَلْزَمُ الرَّعِيَّةَ طَاعَتُهُ فِيمَا يَرَاهُ مِنْهُ) لِقَوْلِهِ تَعَالَى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ} [النساء: 59] وقَوْله تَعَالَى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ} [النور: 62](وَيَنْبَغِي أَنْ يُرَتِّبَ قَوْمًا بِأَطْرَافِ الْبِلَادِ يَكْفُونَ مَنْ بِإِزَائِهِمْ مِنْ كُفَّارٍ وَيَعْمَلُ حُصُونَهُمْ وَ) يَحْفِرُ (خَنَادِقَهُمْ وَجَمِيعَ مَصَالِحِهِمْ) لِأَنَّ أَهَمَّ الْأُمُورِ الْأَمْنُ، وَهَذَا طَرِيقُهُ (وَيُؤَمِّرُ فِي كُلِّ نَاحِيَةٍ أَمِيرًا يُقَلِّدُهُ أَمْرَ الْحَرْبِ) وَتَدْبِيرَ الْجِهَادِ يَكُونُ (ذَا رَأْيٍ وَعَقْلٍ وَخِبْرَةٍ بِهِ)
أَيْ: الْحَرْبِ، وَمَكَايِدِ الْعَدُوِّ مَعَ أَمْنٍ (وَرِفْقٍ بِالْمُسْلِمِينَ، وَنُصْحٍ لَهُمْ) لِيَحْصُلَ الْمَقْصُودُ مِنْ إقَامَتِهِ (وَيُوصِيهِ أَنْ لَا يَحْمِلَهُمْ عَلَى مَهْلَكَةٍ، وَلَا يَأْمُرَهُمْ بِدُخُولِ مَطْمُورَةٍ يُخَافُ مِنْهُ) الْقَتْلُ تَحْتَهَا، لِحَدِيثِ بُرَيْدَةَ السَّابِقِ (فَإِنْ فَعَلَ) أَيْ: حَمَلَهُمْ عَلَى مَهْلَكَةٍ أَوْ أَمَرَهُمْ بِدُخُولِ مَطْمُورَةٍ يُخَافُ أَنْ يُقْتَلُوا تَحْتَهَا (فَقَدْ أَسَاءَ وَاسْتَغْفَرَ اللَّهَ) وَتَابَ إلَيْهِ مِنْ ذَلِكَ، لِوُجُوبِ التَّوْبَةِ مِنْ كُلِّ مَعْصِيَةٍ، (وَلَا عَقْلَ) أَيْ: دِيَةَ (عَلَيْهِ، وَلَا كَفَّارَةَ إذَا أُصِيبَ أَحَدٌ مِنْهُمْ بِطَاعَتِهِ) لِأَنَّهُ فَعَلَ ذَلِكَ بِاخْتِيَارِهِ.
(وَسُنَّ رِبَاطٌ) نَصَّ عَلَيْهِ، لِحَدِيثِ سَلْمَانَ، قَالَ: سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ، «، يَقُولُ: رِبَاطُ لَيْلَةٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ خَيْرٌ مِنْ صِيَامِ شَهْرٍ وَقِيَامِهِ، فَإِنْ مَاتَ جَرَى عَلَيْهِ عَمَلُهُ الَّذِي كَانَ يَعْمَلُ، وَأُجْرِيَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ، وَأَمِنَ الْفَتَّانَ» رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
وَعَنْ فَضَالَةَ بْنِ عُبَيْدٍ مَرْفُوعًا: «كُلُّ مَيِّتٍ يُخْتَمُ عَلَى عَمَلِهِ إلَّا الْمَرَابِطَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، فَإِنَّهُ يَنْمُو لَهُ عَمَلُهُ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَيَأْمَنُ مِنْ فَتَّانِ الْقَبْرِ» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: حَسَنٌ صَحِيحٌ.
(وَهُوَ) أَيْ: الرِّبَاطُ: (لُزُومُ ثَغْرٍ لِجِهَادٍ) تَقْوِيَةً لِلْمُسْلِمِينَ (وَلَوْ سَاعَةً) قَالَ أَحْمَدُ: يَوْمٌ رِبَاطٌ، وَلَيْلَةٌ رِبَاطٌ، وَسَاعَةٌ رِبَاطٌ. وَالثَّغْرُ: كُلُّ مَكَان يُخِيفُ أَهْلَهُ الْعَدُوَّ، وَيُخِيفُهُمْ وَسُمِّيَ الْمُقَامُ بِالثُّغُورِ رِبَاطًا، لِأَنَّ هَؤُلَاءِ يَرْبِطُونَ خُيُولَهُمْ، وَهَؤُلَاءِ يَرْبِطُونَ خُيُولَهُمْ (وَتَمَامُهُ) أَيْ: الرِّبَاطِ: (أَرْبَعُونَ يَوْمًا) رَوَاهُ أَبُو الشَّيْخِ فِي كِتَابِ الثَّوَابِ مَرْفُوعًا (وَأَفْضَلُهُ) أَيْ: الرِّبَاطِ (بِأَشَدَّ خَوْفٍ) مِنْ الثُّغُورِ، لِأَنَّ مُقَامَهُ بِهِ أَنْفَعُ، وَأَهْلَهُ أَحْوَجُ (وَهُوَ) أَيْ: الرِّبَاطُ (أَفْضَلُ مِنْ مُقَامٍ بِمَكَّةَ) ذَكَرَهُ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ إجْمَاعًا (قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ:
رِبَاطُ يَوْمٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ أَنْ أُوَافِقَ لَيْلَةَ الْقَدْرِ فِي أَحَدِ الْمَسْجِدَيْنِ) مَسْجِدِ الْحَرَامِ، وَمَسْجِدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَمَنْ رَابَطَ أَرْبَعِينَ يَوْمًا فَقَدْ اسْتَكْمَلَ الرِّبَاطَ، رَوَاهُ سَعِيدٌ.
(وَصَلَاةٌ بِهِمَا) أَيْ: الْمَسْجِدَيْنِ، (أَفْضَلُ مِنْهَا) أَيْ: صَلَاةٍ (بِثَغْرٍ) قَالَ أَحْمَدُ: فَأَمَّا فَضْلُ الصَّلَاةِ، فَهَذَا شَيْءٌ خَاصَّةُ فَضْلٍ لِهَذِهِ الْمَسَاجِدِ.
(وَكُرِهَ) لِغَيْرِ أَهْلِ ثَغْرٍ (نَقْلُ أَهْلِهِ) مِنْ الذُّرِّيَّةِ وَالنِّسَاءِ (لِثَغْرٍ مَخُوفٍ) لِقَوْلِ عُمَرَ: لَا تُنْزِلُوا الْمُسْلِمِينَ خِيفَةَ الْبَحْرِ رَوَاهُ الْأَثْرَمُ. وَقَالَ أَحْمَدُ: كَيْفَ لَا أَخَافُ الْإِثْمَ وَهُوَ يُعَرِّضُ ذُرِّيَّتَهُ لِلْمُشْرِكِينَ (وَإِلَّا) يَكُنْ الثَّغْرُ مَخُوفًا (فَلَا) يُكْرَهُ نَقْلُ أَهْلِهِ إلَيْهِ (كَ) مَا لَا تُكْرَهُ إقَامَةُ (أَهْلِ الثَّغْرِ) بِهِ بِأَهْلِيهِمْ، إنْ كَانَ مَخُوفًا، لِأَنَّهُمْ لَا بُدَّ لَهُمْ مِنْ السُّكْنَى بِهِمْ، وَإِلَّا لَخَرِبَتْ الثُّغُورُ وَتَعَطَّلَتْ.
(وَالْحَرْسُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثَوَابُهُ عَظِيمٌ) لِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَرْفُوعًا «عَيْنَانِ لَا تَمَسُّهُمَا النَّارُ: عَيْنٌ بَكَتْ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ، وَعَيْنٌ بَاتَتْ تَحْرُسُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: حَسَنٌ غَرِيبٌ.
وَعَنْ عُثْمَانَ مَرْفُوعًا قَالَ: «حَرَسُ لَيْلَةٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَفْضَلُ مِنْ أَلْفِ لَيْلَةٍ قِيَامِ لَيْلِهَا وَصِيَامِ نَهَارِهَا» رَوَاهُ ابْنُ سَنْجَرٍ.
(وَالْهِجْرَةُ حُكْمُهَا بَاقٍ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ) لِحَدِيثِ مُعَاوِيَةَ مَرْفُوعًا: «لَا تَنْقَطِعُ الْهِجْرَةُ حَتَّى تَنْقَطِعَ التَّوْبَةُ، وَلَا تَنْقَطِعُ التَّوْبَةُ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِنْ مَغْرِبِهَا» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَعَنْهُ صلى الله عليه وسلم: «لَا تَنْقَطِعُ الْهِجْرَةُ مَا كَانَ الْجِهَادُ» رَوَاهُ سَعِيدٌ وَغَيْرُهُ مَعَ إطْلَاقِ الْآيَاتِ وَالْأَخْبَارِ، وَتَحَقُّقِ الْمَعْنَى الْمُقْتَضِي لَهَا فِي كُلِّ زَمَانٍ. وَأَمَّا حَدِيثُ «لَا هِجْرَةَ بَعْدَ الْفَتْحِ» يَعْنِي: مِنْ مَكَّةَ، وَكُلُّ بَلَدٍ فُتِحَ لَا تَبْقَى مِنْهُ هِجْرَةٌ إنَّمَا الْهِجْرَةُ إلَيْهِ، لِأَنَّ الْهِجْرَةَ الْخُرُوجُ مِنْ بَلَدِ الْكُفَّارِ،
فَإِذَا فُتِحَ لَمْ يَبْقَ بَلَدُ الْكُفَّارِ، فَلَا تَبْقَى مِنْهُ هِجْرَةٌ (فَ) يَجِبُ (عَلَى عَاجِزٍ عَنْ إظْهَارِ دِينِهِ بِمَحَلٍّ يَغْلِبُ) فِيهِ (حُكْمُ كُفْرٍ أَوْ) يَغْلِبُ فِيهِ حُكْمُ (بِدَعٍ مُضِلَّةٍ) كَاعْتِزَالِ وَتَشَيُّعٍ (الْهِجْرَةُ) أَيْ: الْخُرُوجُ مِنْ تِلْكَ الدَّارِ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ وَالسُّنَّةُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا} [النساء: 97] الْآيَاتِ.
وَعَنْهُ صلى الله عليه وسلم: «أَنَا بَرِيءٌ مِنْ كُلِّ مُسْلِمٍ يُقِيمُ بَيْنَ أَظْهُرِ الْمُشْرِكِينَ، قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَلِمَ؟ قَالَ: لَا تَرَاءَى نَارَاهُمَا» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ: أَيْ: لَا يَكُونُ بِمَوْضِعٍ يَرَى نَارَهُمْ وَيَرَوْنَ نَارَهُ إذَا أُوقِدَتْ وَلِأَنَّ الْقِيَامَ بِأَمْرِ الدِّينِ وَاجِبٌ، وَالْهِجْرَةُ مِنْ ضَرُورَةِ الْوَاجِبِ، وَمَا لَا يَتِمُّ الْوَاجِبُ إلَّا بِهِ وَاجِبٌ، وَقَوْلُهُ: لَا تَرَاءَى أَصْلُهُ: تَتَرَاءَى، فَحُذِفَتْ إحْدَى التَّاءَيْنِ، وَهِيَ جُمْلَةٌ أُرِيدَ بِهَا النَّهْيُ.
فَائِدَةٌ: لَا تَجِبُ الْهِجْرَةُ مِنْ بَيْنِ أَهْلِ الْمَعَاصِي، وَعَلَى مَنْ كَانَ بَيْنَهُمْ الْإِنْكَارُ عَلَيْهِمْ بِحَسَبِ إمْكَانِهِ لِلْخَبَرِ (إنْ قَدَرَ) عَلَى الْهِجْرَةِ مِنْ أَرْضِ الْكُفْرِ، وَمَا أُلْحِقَ بِهَا، بِقَوْلِهِ تَعَالَى:{إِلا الْمُسْتَضْعَفِينَ} [النساء: 98] .
وَلَوْ كَانَ مَنْ يَعْجِزُ عَنْ إظْهَارِ دِينِهِ امْرَأَةً فِي عِدَّةٍ أَوْ كَانَتْ (بِلَا رَاحِلَةٍ وَلَا مَحْرَمٍ) بِخِلَافِ الْحَجِّ. (وَسُنَّتْ) الْهِجْرَةُ (لِقَادِرٍ عَلَى إظْهَارِهِ) أَيْ دِينِهِ لِيَتَخَلَّصَ مِنْ تَكْثِيرِ الْكُفَّارِ وَمُخَالَطَتِهِمْ، وَرُؤْيَةِ الْمُنْكَرِ بَيْنَهُمْ، وَيَتَمَكَّنَ مِنْ جِهَادِهِمْ، وَإِعَانَةِ الْمُسْلِمِينَ وَيُكْثِرَهُمْ.
(وَيَتَّجِهُ) : أَنَّ الْمَرْأَةَ إنْ أَمْكَنَهَا إظْهَارَ دِينِهَا، وَأَمِنَتْ عَلَى نَفْسِهَا الْفِتْنَةَ فِيهِ (فَيَحْرُمُ عَلَيْهَا) الْهِجْرَةُ (إذَنْ) مِنْ أَرْضِ الْكُفْرِ وَمَا أُلْحِقَ
بِهَا (بِلَا مَحْرَمٍ) وَإِنْ لَمْ تَأْمَنْهُمْ، جَازَ الْخُرُوجُ حَتَّى وَحْدَهَا، قَالَهُ الْمَجْدُ وَغَيْرُهُ، وَهُوَ مُتَّجِهٌ، بَلْ مُصَرَّحٌ بِهِ فِي الْإِنْصَافِ وَغَيْرِهِ.
(وَحَرُمَ سَفَرٌ إلَيْهِ) أَيْ: إلَى مَحَلٍّ يَغْلِبُ فِيهِ حُكْمُ كُفْرٍ أَوْ بِدَعٍ مُضِلَّةٍ، وَلَا يَقْدِرُ عَلَى إظْهَارِ دِينِهِ بِهِ، (وَلَوْ) كَانَ سَفَرُهُ (لِتِجَارَةٍ) لِأَنَّ رِبْحَهُ الْمَظْنُونَ لَا يَفِي بِخُسْرَانِهِ الْمُحَقَّقِ فِي دِينِهِ (وَإِنْ قَدَرَ عَلَى إظْهَارِ دِينِهِ) بِذَلِكَ الْمَحِلِّ (كُرِهَ) لَهُ ذَلِكَ، لِمَا فِيهِ مِنْ مُخَالَطَةِ الْمُجْرِمِينَ، وَالنَّظَرِ إلَى أَعْدَاءِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.
(وَلَا يَتَطَوَّعُ بِجِهَادٍ مَدِينٍ آدَمِيٌّ لَا وَفَاءَ لَهُ) حَالًّا كَانَ الدَّيْنُ أَوْ مُؤَجَّلًا، لِأَنَّ الْجِهَادَ يُقْصَدُ مِنْهُ الشَّهَادَةُ، فَتَفُوتُ بِهِ النَّفْسُ فَيَفُوتُ الْحَقُّ، فَإِنْ كَانَ الدَّيْنُ لِلَّهِ أَوْ لِآدَمِيٍّ، وَلَهُ وَفَاءٌ جَازَ لَهُ التَّطَوُّعُ (إلَّا مَعَ إذْنِ) رَبِّ الدَّيْنِ، فَيَجُوزُ لِرِضَاهُ (أَوْ) مَعَ (رَهْنٍ يُحْرَزُ) بِأَنْ يُمْكِنُ وَفَاؤُهُ مِنْهُ (أَوْ) مَعَ (كَفِيلٍ مَلِيءٍ) بِالدَّيْنِ، فَيَجُوزُ إذَنْ لِأَنَّهُ لَا ضَرَرَ عَلَى رَبِّ الدَّيْنِ، فَإِنْ تَعَيَّنَ عَلَيْهِ الْجِهَادُ، فَلَا إذْنَ لِغَرِيمِهِ، لِتَعَلُّقِ الْجِهَادِ بِعَيْنِهِ، فَيُقَدَّمُ عَلَى مَا فِي ذِمَّتِهِ كَسَائِرِ فُرُوضِ الْأَعْيَانِ، وَلَا يَتَطَوَّعُ بِجِهَادٍ مِنْ أَحَدِ أَبَوَيْهِ (حُرٌّ مُسْلِمٌ عَاقِلٌ إلَّا بِإِذْنِهِ) لِمَا رَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ، قَالَ:«جَاءَ رَجُلٌ إلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أُجَاهِدُ؟ فَقَالَ: لَكَ أَبَوَانِ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: فَفِيهِمَا فَجَاهِدْ» وَرَوَى الْبُخَارِيُّ مَعْنَاهُ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ، وَلِأَنَّ بِرَّ الْوَالِدَيْنِ فَرْضُ عَيْنٍ، وَالْجِهَادَ فَرْضُ كِفَايَةٍ، فَإِنْ كَانَا رَقِيقَيْنِ أَوْ غَيْرَ مُسْلِمَيْنِ أَوْ أَحَدُهُمَا كَذَلِكَ، فَلَا إذْنَ لِفِعْلِ الصَّحَابَةِ وَلِعَدَمِ الْوِلَايَةِ (إلَّا إنْ تَعَيَّنَ) عَلَيْهِ الْجِهَادُ، لِحُضُورِ
الصَّفِّ أَوْ حَصْرِ الْعَدُوِّ أَوْ اسْتِنْفَارِ الْإِمَامِ لَهُ (فَيَسْقُطُ إذْنُهُمَا كَإِذْنِ غَرِيمٍ) لِأَنَّهُ يَصِيرُ فَرْضَ عَيْنٍ، وَتَرْكُهُ مَعْصِيَةٌ.
(وَلَا يَتَعَرَّضُ مَدِينٌ نَدْبًا لِمَكَانِ قَتْلٍ كَمُبَارَزَةٍ وَوُقُوفٍ بِأَوَّلِ صَفٍّ) لِأَنَّ فِيهِ تَغْرِيرًا بِتَفْوِيتِ الْحَقِّ (وَإِنْ أَذِنَا) أَيْ: أَبَوَاهُ فِي خُرُوجِهِ لِجِهَادِ تَطَوُّعٍ (ثُمَّ رَجَعَا) عَنْ الْإِذْنِ قَبْلَ تَعَيُّنِهِ عَلَيْهِ (فَعَلَيْهِ الرُّجُوعُ) لِأَنَّهُ مَعْنًى لَوْ وُجِدَ فِي الِابْتِدَاءِ مَنَعَ، فَمَنَعَ إذَا وُجِدَ فِي أَثْنَائِهِ كَسَائِرِ الْمَوَانِعِ إنْ أَمْكَنَهُ الرُّجُوعُ بِأَنْ لَا يَخَافَ عَلَى نَفْسِهِ، وَلَيْسَ لَهُ عُذْرٌ مِنْ حُدُوثِ مَرَضٍ، فَإِنْ أَمْكَنَهُ الْإِقَامَةُ فِي الطَّرِيقِ أَقَامَ حَتَّى يَقْدِرَ عَلَى الرُّجُوعِ فَيَرْجِعَ، وَإِلَّا مَضَى مَعَ الْجَيْشِ (وَلَمْ يَتَعَيَّنْ عَلَيْهِ) الْجِهَادُ بِأَنْ لَمْ يَحْضُرْ الصَّفَّ، أَمَّا لَوْ حَضَرَهُ تَعَيَّنَ عَلَيْهِ الْقِتَالُ بِحُضُورِهِ، وَسَقَطَ إذْنُهُمَا، وَإِنْ كَانَ رُجُوعُهُمَا عَنْ الْإِذْنِ بَعْدَ تَعَيُّنِ الْجِهَادِ عَلَيْهِ، لَمْ يُؤَثِّرْ شَيْئًا، لِعَدَمِ اعْتِبَارِ الْإِذْنِ (إذَنْ، وَكَذَا لَوْ كَانَا) أَيْ: الْأَبَوَانِ (كَافِرَيْنِ) فَأَسْلَمَا وَمَنَعَاهُ، كَانَ كَمَنْعِهِمَا بَعْدَ إذْنِهِمَا مَا تَقَدَّمَ تَفْصِيلُهُ (وَإِنْ أَذِنَا لَهُ، وَشَرَطَا) عَلَيْهِ (أَنْ لَا يُقَاتِلَ، فَحَضَرَ الْقِتَالَ، تَعَيَّنَ) عَلَيْهِ (وَسَقَطَ شَرْطُهُمَا) وَكَذَا لَوْ اسْتَنْفَرَهُ مَنْ لَهُ اسْتِنْفَارُهُ وَنَحْوُهُ مِمَّا يَتَعَيَّنُ بِهِ الْجِهَادُ عَلَيْهِ (وَلَا إذْنَ) مُعْتَبَرٌ (لِجَدٍّ وَجَدَّةٍ مُطْلَقًا) مُسْلِمَيْنِ كَانَا أَوْ كَافِرَيْنِ، حُرَّيْنِ أَوْ رَقِيقَيْنِ، عَاقِلَيْنِ أَوْ مَجْنُونَيْنِ لِوُرُودِ الْأَخْبَارِ فِي الْأَبَوَيْنِ، وَغَيْرِهِمَا لَا يُسَاوِيهِمَا فِي الشَّفَقَةِ (وَلَا إذْنَ لِأَبَوَيْنِ وَغَرِيمِ مَدِينٍ فِي سَفَرٍ وَاجِبٍ) مِنْ حَجٍّ أَوْ جِهَادٍ مُتَعَيَّنٍ، أَوْ عِلْمٍ شَرْعِيٍّ، وَإِنْ لَمْ يَحْصُلْ مَا وَجَبَ عَلَيْهِ مِنْ الْعِلْمِ بِبَلَدِهِ، فَلَهُ السَّفَرُ لِطَلَبِهِ بِلَا إذْنِهِمَا، لِأَنَّهُ لَا طَاعَةَ لِمَخْلُوقٍ فِي مَعْصِيَةِ الْخَالِقِ.