الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
سبب النزول:
نزول الآيات (38 - 40):
{فَلا أُقْسِمُ} : قال مقاتل: سبب ذلك أن الوليد بن المغيرة قال: إن محمدا ساحر، وقال أبو جهل: شاعر، وقال عقبة: كاهن، فقال الله عز وجل:
{فَلا أُقْسِمُ.} . أي أقسم.
المناسبة:
بعد الإخبار عن إمكان القيامة ووقوعها، وبيان أحوال السعداء والأشقياء فيها، ختم الكلام بتعظيم القرآن وإثبات كونه كلام الله تعالى المنزّل على قلب رسوله محمد صلى الله عليه وسلم.
التفسير والبيان:
{فَلا أُقْسِمُ بِما تُبْصِرُونَ وَما لا تُبْصِرُونَ، إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ} أي أقسم لخلقي بما تشاهدون من المخلوقات الدالة على كمالي في أسمائي وصفاتي، وبما غاب عنكم من المغيبات، أو أقسم بالأشياء كلها ما يبصر منها وما لا يبصر أن القرآن كلام الله ووحيه وتنزيله على عبده ورسوله الذي اصطفاه لتبليغ الرسالة وأداء الأمانة، وإنه لتلاوة رسول كريم، وقول يبلّغه رسول كريم، مؤدى عن الله بطريق الرسالة.
وإنما أضافه إلى الرسول على معنى التبليغ؛ لأن الرسول من شأنه أن يبلّغ عن المرسل. وفي ذكر «الرسول» إشارة إلى أن هذا القرآن ليس قوله من تلقاء نفسه، وإنما هو قوله المؤدى عن الله بطريق الرسالة. وفي وصفه بالكرم إشارة إلى أمانته، وأنه ليس ممن يغير الرسالة طمعا في أغراض الدنيا الخسيسة.
والأكثرون على أن الرسول الكريم هنا هو محمد صلى الله عليه وسلم؛ لأنه ذكر بعده أنه
ليس بقول شاعر ولا كاهن، والقوم ما كانوا يصفون جبرائيل بالشعر والكهانة، وإنما يصفون محمدا صلى الله عليه وسلم.
وأما في سورة التكوير فالأكثرون على أنه جبرائيل عليه السلام، لأن الأوصاف التي بعده تناسبه، كما سيأتي.
{وَما هُوَ بِقَوْلِ شاعِرٍ، قَلِيلاً ما تُؤْمِنُونَ} أي ليس القرآن بقول شاعر، كما تزعمون؛ لأن محمدا صلى الله عليه وسلم ليس بشاعر، ولأن آيات القرآن ليست من أصناف الشعر، وأنتم تؤمنون إيمانا قليلا، وتصدقون تصديقا يسيرا. والقلة على ظاهرها وهي إقرارهم إذا سئلوا: من خلقكم؟ قالوا: الله. ويحتمل أن يكون المتصف بالقلة هو الإيمان اللغوي؛ لأنهم قد صدقوا بأشياء يسيرة لا تغني عنهم شيئا؛ إذ كانوا يصدّقون أن الخير والصلة والعفاف ونحوه الذي كان يأمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم هو حق صواب.
وإنما قال عند نفي الشعر عنه: {قَلِيلاً ما تُؤْمِنُونَ} وعند نفي الكهانة:
{قَلِيلاً ما تَذَكَّرُونَ} لأن انتفاء الشعرية عن القرآن أمر كالبيّن المحسوس.
أما من حيث اللفظ فظاهر؛ لأن الشعر كلام موزون مقفّى؛ وألفاظ القرآن ليست كذلك إلا النادر غير المتعمد. وأما من جهة التخيل فلأن القرآن فيه أصول كل المعارف والحقائق والبراهين والدلائل المفيدة للتصديق إذا كان المكلف ممن يصدّق ولا يعاند.
وانتفاء الكهانة عنه يحتاج إلى تأمل، فإن كلام الكهان أسجاع لا معاني لها، وأوضاع تنبو عنها الطباع، وأيضا في القرآن سب الشياطين وذم سيرتهم، والكهان إخوان الشياطين، فكيف رضوا بإظهار قبائحهم
(1)
.
(1)
غرائب القرآن للحسن القمي النيسابوري: 42/ 29.
{وَلا بِقَوْلِ كاهِنٍ قَلِيلاً ما تَذَكَّرُونَ} أي وليس القرآن بقول كاهن (وهو من يدعي الغيب في المستقبل) كما تزعمون، فإن الكهانة أمر آخر لا جامع بينها وبين القرآن، ولان القرآن ورد بسبب الشياطين، فلا يعقل أن يكون بإلهامهم، ولكنكم تتذكرون تذكرا قليلا، ولذلك يلتبس الأمر عليكم، فلا تتذكرون كيفية نظم القرآن، واشتماله على شتم الشياطين، فقلتم: إنه كهانة. ثم صرح تعالى بالمقصود، فقال:
{تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ} أي بل هو تنزيل من الله رب الإنس والجن، نزل به جبريل الأمين على قلب رسوله محمد صلى الله عليه وسلم، وهو قول هذا الرسول بمعنى أنه مبلّغ له عن المرسل، وهو الذي أظهره للخلق، ودعا الناس إلى الإيمان به، وجعله حجة لنبوته.
روى الإمام أحمد عن شريح بن عبيد قال: قال عمر بن الخطاب:
«خرجت أتعرض رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن أسلم، فوجدته قد سبقني إلى المسجد، فقمت خلفه، فاستفتح سورة الحاقة، فجعلت أعجب من تأليف القرآن، قال:
فقلت: كاهن، قال: فقرأ: {وَلا بِقَوْلِ كاهِنٍ قَلِيلاً ما تَذَكَّرُونَ، تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ، وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ، لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ، ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ، فَما مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حاجِزِينَ} إلى آخر السورة، قال: فوقع الإسلام في قلبي كل موقع، قال ابن كثير: فهذا من جملة الأسباب التي جعلها الله تعالى مؤثرة في هداية عمر بن الخطاب رضي الله عنه.
ثم أكد الله تعالى أن محمدا صلى الله عليه وسلم لا يستطيع أن يفتعل القرآن، فقال:
{وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ، لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ} أي ولو افترى محمد أو جبريل شيئا من الأقوال الباطلة، وجاء به من عند نفسه ونسبه إلى الله على سبيل الفرض، لأخذناه بالقوة، وعاجلناه بالعقوبة، وانتقمنا منه، أو لأخذنا بيمينه، كما يؤخذ الشخص عند إرادة قتله. فاليمين: القوة، كما قال الشمّاخ:
إذا ما راية رفعت لمجد
…
تلقاها عرابة باليمين
{ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ} أي ثم بترنا الوتين من قلبه، وهو عرق متصل من القلب بالرأس، إذا انقطع مات صاحبه. وهذا تصوير لإهلاكه بأفظع وأشنع ما يفعله الملوك بمن يغضبون عليه.
{فَما مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حاجِزِينَ} أي ليس منكم أحد يحجزنا عنه ويمنعنا منه أو ينقذه منا، فكيف يجرأ على تكلف الكذب على الله لأجلكم؟! وجمع:
{حاجِزِينَ} على المعنى؛ لأن قوله: {مِنْ أَحَدٍ} في معنى الجماعة، يقع في النفي العام على الواحد والجمع والمذكر والمؤنث، مثل قوله تعالى:{لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ} [البقرة 285/ 2] وقوله سبحانه: {لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّساءِ} [الأحزاب 32/ 33]. والمراد لا أحد يمنعنا عن الرسول أو عن القتل.
ثم ذكر الله تعالى أوصافا ومنافع للقرآن، فقال:
{وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِلْمُتَّقِينَ} أي وإن القرآن لعظة وتذكرة لأهل التقوى الذين يخشون عذاب الله بإطاعة أوامره واجتناب نواهيه، كقوله تعالى:
{هُدىً لِلْمُتَّقِينَ} [البقرة 2/ 2]. وخص المتقين بالذكر؛ لأنهم المنتفعون به. وناسب ذلك أنه تعالى أوعد المكذبين بقوله:
{وَإِنّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنْكُمْ مُكَذِّبِينَ} أي وإنا لنوقن أن بعضكم يكذب بالقرآن، كفرا وعنادا، ونحن نجازيهم على ذلك، وبعضكم يصدّق به لاهتدائه إلى الحق.
وفي هذا وعيد شديد للمكذبين.
{وَإِنَّهُ لَحَسْرَةٌ عَلَى الْكافِرِينَ} أي وإن هذا القرآن لحسرة وندامة على الكافرين يوم القيامة إذا رأوا ثواب المؤمنين وفضل الله عليهم.
{وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ} أي وإن القرآن هو الخبر الصدق واليقين الحق الذي