الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
{أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ} ألا يعلم السر والجهر من أوجد الأشياء على وفق حكمته.
{اللَّطِيفُ} العالم بدقائق الأمور وخفاياها التي لا يدركها العالمون. {الْخَبِيرُ} المطلع على ظواهر الأشياء وبواطنها. {ذَلُولاً} سهلة منقادة لينة يسهل لكم السير فيها والانتفاع بها.
{مَناكِبِها} جوانبها وطرقها، جمع منكب: وهو في الأصل مجتمع ما بين العضد والكتف.
{النُّشُورُ} الخروج من القبور، والحياة بعد الموت، والرجوع إلى الله بعد البعث للجزاء.
سبب نزول الآية (13):
{وَأَسِرُّوا.} .: قال ابن عباس: نزلت في المشركين كانوا ينالون من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فخبّره جبريل عليه السلام بما قالوا فيه ونالوا منه، فيقول بعضهم لبعض: أسرّوا قولكم لئلا يسمع إله محمد.
المناسبة:
بعد وعيد الكفار بعذاب النار، ذكر الله تعالى للمقابلة وعد المؤمنين بالمغفرة والأجر الكبير، ثم عاد إلى تهديد الكافرين والناس جميعا بأنه عليم بكل ما يصدر عنهم في السر والعلن، وأقام الدليل على ذلك بأنه هو الخالق والقادر الذي ذلّل الأرض للعالم، وأذن لهم بالانتفاع بما فيها من خيرات وكنوز ظاهرة وباطنة كالزروع والثمار والمعادن.
التفسير والبيان:
{إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ} أي إن الذين يخافون عذاب ربهم ولم يروه، فيؤمنون به خوفا من عذابه، ويخافون الله في السر والعلن، فيخشون ربهم إذا كانوا غائبين عن الناس، بالكف عن المعاصي والقيام بالطاعات، حيث لا يراهم أحد إلا الله تعالى، هؤلاء لهم مغفرة عظيمة يغفر الله بها ذنوبهم، وثواب جزيل، وهو الجنة.
ثبت في الصحيحين: «سبعة يظلّهم الله تعالى في ظل عرشه، يوم لا ظل
إلا ظله.. منهم: ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال، فقال: إني أخاف الله، ورجل تصدّق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه».
ثم نبّه الله تعالى على أنه مطّلع على الضمائر والسرائر، فقال:
{وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ، إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ} أي سواء أخفيتم كلامكم أو جهرتم به، فالله عليم به، يعلم بما يخطر في القلوب وما تكنّه الضمائر، لا يخفى عليه منه خافية، والمراد أن قولكم وعملكم على أي سبيل وجد، فالله عليم به، فاحذروا من المعاصي سرا كما تحترزون عنها جهرا، فإن ذلك لا يتفاوت بالنسبة إلى علم الله تعالى. وقدّم السر على الجهر؛ لأنه مقدم عليه عادة، فما من أمر إلا وهو يبدأ أولا في النفس ثم يجهر به، وللتحذير من التكتم والسر الذي قد يظن عدم العلم به. وقوله:{إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ} كالعلّة لما قبله.
والآية خطاب عام لجميع الخلق في جميع الأعمال، وتشمل ما كانوا يسرون به من الكلام في أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال ابن عباس: كانوا ينالون من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيخبره جبريل، فقال بعضهم لبعض:{أَسِرُّوا قَوْلَكُمْ} لئلا يسمع إله محمد، فأنزل الله هذه الآية.
ثم أقام الله تعالى الأدلة على سعة علمه، فقال:
{أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ، وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} أي ألا يعلم الخالق الذي خلق الإنسان وأوجده السرّ ومضمرات القلوب؟ فهو تعالى الذي خلق الإنسان بيده، وأعلم شيء بالمصنوع صانعه، وهو العليم بدقائق الأمور، وما في القلوب، والخبير بما تسرّه وتضمره من الأمور، لا تخفى عليه من ذلك خافية. والمراد: ألا يعلم السّر من خلق السّر.
وقيل: معناه: ألا يعلم الله مخلوقه؟ قال ابن كثير: والأول (أي ألا يعلم الخالق) أولى لقوله: {وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} . والواقع أن كلا المعنيين محتمل،
فيمكن جعل {مَنْ} اسما للخالق جل وعز، ويكون المعنى: ألا يعلم الخالق خلقه، كما يمكن جعلها اسما للمخلوق، ويكون المعنى: ألا يعلم الله من خلق.
ولا بد من أن يكون الخالق عالما بما خلقه وما يخلقه.
ثم أقام الله تعالى الدليل على قدرته، ونبّه إلى تمام نعمته، فقال:
{هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولاً، فَامْشُوا فِي مَناكِبِها وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ، وَإِلَيْهِ النُّشُورُ} أي إن الله هو الذي سخّر لكم الأرض وذلّلها لكم، وجعلها سهلة لينة قابلة للاستقرار عليها، لا تميد ولا تضطرب، بما جعل فيها من الجبال، وفجّر فيها الينابيع، وشقّ الطرق، وهيّأ المنافع، وأنبت فيها الزروع وأخرج الثمار، فسيروا في جوانبها وأقطارها وأرجائها حيث شئتم بحثا عن المكاسب والتجارات والأرزاق، ولا يغني السعي شيئا عن تيسير الله، لذا قال تعالى:
{وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ} أي مما رزقكم وخلقه لكم في الأرض، ومكّنكم من الانتفاع بها، وأعطاكم القدرات على تحصيل خيراتها، ثم اعلموا أنكم في النهاية صائرون إليه، فإليه النشور، أي البعث من قبوركم، لا إلى غيره، وإليه المرجع يوم القيامة، فاحذروا الكفر والمعاصي في السر والعلن.
والآية دليل على قدرة الله ومزيد إنعامه على خلقه، وعلى أن السعي واتخاذ الأسباب لا ينافي التوكل على الله، وعلى أن الاتجار والتكسب مندوب إليه.
أخرج الإمام أحمد والترمذي والنسائي وابن ماجه عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «لو أنكم تتوكلون على الله حق توكله، لرزقكم كما يرزق الطير، تغدو خماصا، وتروح بطانا» فأثبت لها غدوّا ورواحا، لطلب الرزق، مع توكلها على الله عز وجل، وهو المسخّر المسيّر المسبّب.
وأخرج الحكيم الترمذي عن معاوية بن قرّة قال: مرّ عمر بن الخطاب رضي الله عنه بقوم، فقال: من أنتم؟ فقالوا: المتوكلون، قال: بل أنتم