الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
إلا هو، والأمد: الزمن البعيد. {عالِمُ الْغَيْبِ} ما غاب عن العباد. {فَلا يُظْهِرُ} لا يطلع.
{عَلى غَيْبِهِ أَحَداً} على الغيب المخصوص به علمه. {إِلاّ مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ} أي إن الرسول يطلعه الله على بعض الغيب معجزة له. {يَسْلُكُ} يجعل ويقيم. {مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ} من بين يدي المرتضى الرسول. {رَصَداً} حراسا وحفظة من الملائكة يحفظونه حتى يبلغه مع بقية الوحي. وأما كرامات الأولياء في المغيبات فتكون تلقيا من الملائكة.
{لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا} أي ليظهر معلوم الله كما هو الواقع من غير زيادة ولا نقص، أو ليعلم محمد النبي الموحى إليه أن قد أبلغ جبريل والملائكة معه الوحي بلا تحريف وتغيير، و {أَبْلَغُوا} على المعنى الأول: هم الرسول، وعلى الثاني هم الملائكة وروعي بجمع الضمير معنى من
(1)
. {رِسالاتِ رَبِّهِمْ} أبلغوا رسالات الله كما هي من غير تغيير. {وَأَحاطَ بِما لَدَيْهِمْ} أحاط علما بما عند الرسل، وهو عطف على مقدر، أي فعلم ذلك. {وَأَحْصى كُلَّ شَيْءٍ عَدَداً} أي أحصى عدد كل شيء.
سبب النزول:
قال مقاتل: إن المشركين لما سمعوا قوله تعالى: {حَتّى إِذا رَأَوْا ما يُوعَدُونَ، فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ ناصِراً وَأَقَلُّ عَدَداً} قال النضر بن الحارث:
متى يكون هذا اليوم الذي توعدنا به؟ فأنزل الله تعالى: {قُلْ: إِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ ما تُوعَدُونَ} إلى آخر الآيات.
التفسير والبيان:
{قُلْ: إِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ ما تُوعَدُونَ أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَداً} أي قل أيها الرسول: لست أعلم قرب العذاب الذي يعدكم الله به، فما أدري أقريب وقت الساعة أم بعيد، وهل جعل الله له غاية ومدة؟ فلا يعرف متى يوم القيامة إلا الله وحده. ومضمون الآية أمر من الله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم أن يقول للناس: إنه لا علم له بوقت الساعة، أي تفويض علم تعيين الساعة إلى الله؛ لأنه عالم الغيب.
(1)
أي إن قوله تعالى: مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ مع قوله: أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا كقوله: فَإِنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ من الحمل على اللفظ تارة، وعلى المعنى أخرى.
ويؤكده ما
جاء في حديث مسلم عن عمر حينما سأل جبريل عليه السلام النبي صلى الله عليه وسلم قائلا: فأخبرني عن الساعة؟ قال: «ما المسؤول عنها بأعلم من السائل» .
{عالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً إِلاّ مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ، فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً} أي إن الله وحده هو العالم بالمغيبات، فلا يطلع على الغيب (وهو ما غاب عن العباد) أحدا منهم، إلا من ارتضى من الرسل، فإنه يطلعهم على بعض المغيبات، ليكون معجزة لهم، ودلالة صادقة على نبوتهم. وهذا يشمل الرسول الملكي والبشري، كقوله تعالى:
{وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلاّ بِما شاءَ} [البقرة 255/ 2]. ومن أمثلة إخبار الرسل عن المغيبات قول عيسى عليه السلام: {وَأُنَبِّئُكُمْ بِما تَأْكُلُونَ وَما تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ} [آل عمران 49/ 3].
ثم إن الله تعالى يجعل بين يدي الرسول ومن خلفه حرسا وحفظة من الملائكة، يحرسونه من تعرّض الشياطين لما أظهره الله عليه من الغيب، لضبط الوحي، ويمنعون الشياطين من استراق الغيب، لإلقائه إلى الكهنة. وفي الكلام إضمار وتقدير: إلا من ارتضى من رسول، فإنه يطلعه على غيبه بطريق الوحي، ثم يجعل بين يديه ومن خلفه حرسا من الملائكة أي الرصد. والرصد:
الحفظة يحفظون كل رسول من تعرض الجنّ والشياطين.
والآية دليل على إبطال الكهانة والتنجيم والسحر؛ لأن أصحابها يدّعون علم الغيب من غير دليل، وهي دليل أيضا على أن الإنسان المرتضى للنبوة قد يطلعه الله تعالى على بعض غيوبه، أما علم الكهنة والمنجمين فهو ظن وتخمين، فلا يدخل في علم الغيب. وأما علم الأولياء وظهور الكرامات على أيديهم فهو إلهامي متلقى من الملائكة، لا يرقى إلى درجة علوم الأنبياء.
وتأول الرازي الآية بأنه لا أدري وقت وقوع القيامة، والله عالم الغيب،
فلا يطلع أحدا على وقت وقوع القيامة، فهو من الغيب الذي لا يظهره الله لأحد، ثم قال الرازي: لا بد من القطع بأنه ليس مراد الله من هذه الآية ألا يطلع أحدا على شيء من المغيبات إلا الرسل، للأدلة الآتية:
أحدها-أنه ثبت بالأخبار القريبة من التواتر أن شقا وسطيحا كانا كاهنين يخبران بظهور نبينا محمد صلى الله عليه وسلم قبل زمان ظهوره، وكانا في العرب مشهورين بهذا النوع من العلم، حتى رجع إليهما كسرى في تعرف أخبار رسولنا محمد صلى الله عليه وسلم، فثبت أن الله تعالى قد يطلع غير الرسل على شيء من الغيب.
والثاني-أن جميع أرباب الملل والأديان مطبقون على صحة علم التعبير، وأن المعبّر قد يخبر عن وقوع الوقائع الآتية في المستقبل، ويكون صادقا فيه.
والثالث-أن الكاهنة البغدادية التي نقلها السلطان سنجر بن ملك شاه من بغداد إلى خراسان، وسألها عن الأحوال الآتية في المستقبل، فذكرت أشياء، ثم وقعت على وفق كلامها.
والرابع-أنا نشاهد ذلك في أصحاب الإلهامات الصادقة، وليس هذا مختصا بالأولياء، بل قد يوجد في السحرة أيضا من يكون صادقا في أخباره، وإن كان يكذب في أكثر الأخبار، وقد تطابق الأحكام النجومية الواقع وتوافق الأمور.
وإذا كان ذلك مشاهدا محسوسا، فالقول بأن القرآن يدل على خلافه، مما يجر إلى الطعن في القرآن الكريم، وذلك باطل، فعلمنا أن التأويل الصحيح ما ذكرنا
(1)
.
وفي رأيي أن علم الغيب الشامل مقصور على الله عز وجل، حتى إن الملائكة كما في سورة البقرة في بدء الخلق، والجن كما في سورة سبأ، والإنس كما في أواخر
(1)
تفسير الرازي: 169/ 30
سورة لقمان جردوا من علم الغيب واعترفوا بعدم علمهم بالغيب، وأما هذه الوقائع التي أوردها الرازي فقد تقع بالإلهام سواء للصالح أو غير الصالح.
ثم ذكر الله تعالى علة حفظه الرسل، فقال:
{لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسالاتِ رَبِّهِمْ} أي إنه تعالى يحفظ رسله بالملائكة، ليعلم الله علم ظهور وانكشاف في الواقع القائم أن هؤلاء الرسل قد بلغوا الرسالات الإلهية كما هي دون زيادة ولا نقصان. ويصح أن يكون المعنى: ليعلم نبي الله أن جبريل ومن معه من الملائكة قد بلّغت عن الله الوحي تماما من غير تغيير ولا تبديل، وأن الملائكة حفظوا الوحي حتى أوصلوه تاما إلى الرسل من البشر.
ويكون المراد بالمعنى الأول أن الله يحفظ رسله بملائكته، ليتمكنوا من أداء رسالاته ويحفظ ما ينزله إليهم من الوحي، ليعلم أن قد أبلغوا رسالات ربهم، ويكون ذلك كقوله تعالى:{وَما جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْها إِلاّ لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلى عَقِبَيْهِ} [البقرة 143/ 2] وكقوله تعالى: {وَلَيَعْلَمَنَّ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا، وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنافِقِينَ} [العنكبوت 11/ 29] إلى أمثال ذلك من العلم، بأنه تعالى يعلم الأشياء قبل كونها قطعا لا محالة، فيكون القصد بما جاء في القرآن من تعليل لعلم الله، إنما هو علم ظهور لا علم بداء، فإنه تعالى عالم بالأشياء أزلا، وإنما يظهر علمه لعباده
(1)
. لذا أكد تعالى هذا المعنى بقوله:
{وَأَحاطَ بِما لَدَيْهِمْ، وَأَحْصى كُلَّ شَيْءٍ عَدَداً} أي إنه تعالى أحاط علما بما عند الرصد من الملائكة، أو بما عند الرسل المبلغين لرسالاته، وبما لديهم من الأحوال، فهو عالم بكل شيء كان أو سيكون، وعالم بكل الأحكام والشرائع، ثم عمم العلم بقوله:{وَأَحْصى كُلَّ شَيْءٍ عَدَداً} أي ضبط كل شيء معدودا محصورا، دون مشاركة أحد من الملائكة وسائط العلم.
(1)
تفسير ابن كثير: 433/ 4