الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
لك مالا ليعطوكه، فإنك أتيت محمدا، لتتعرض لما قبله، قال: لقد علمت قريش أني من أكثرها مالا، قال: فقل فيه قولا يبلغ قومك أنك منكر له، وأنك كاره له، فقال: وماذا أقول؟ فوالله، ما فيكم رجل أعلم بالشعر مني ولا أعلم برجزه ولا بقصيده مني، والله ما يشبه الذي يقول شيئا من هذا، وو الله إن لقوله لحلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإن أعلاه لمثمر، وإن أسفله لمغدق، وإنه يعلو وما يعلى عليه، وإنه ليحطم ما تحته، قال: لا يرضى عنك قومك حتى تقول فيه، قال: فدعني حتى أفكر فيه، فقال:{إِنْ هذا إِلاّ سِحْرٌ يُؤْثَرُ} يأثره عن غيره، فنزلت:{ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً} .
نزول الآية (30):
{عَلَيْها تِسْعَةَ عَشَرَ} : أخرج ابن أبي حاتم والبيهقي في البعث وابن مردويه عن البراء: أن رهطا من اليهود سألوا رجلا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم عن خزنة جهنم، فجاء، فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم، فنزل عليه ساعتئذ:{عَلَيْها تِسْعَةَ عَشَرَ} .
المناسبة:
بعد أن أخبر الله تعالى عن كون يوم القيامة عسيرا غير يسير على الكافرين، هدد الوليد بن المغيرة وأمثاله من زعماء الشرك، وسلّى نبيه بقوله:{ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً} ، وهو كقوله في المزمّل، {وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ.} . [11] ثم عدد تعالى نعمه على الوليد من المال والولد والجاه والرياسة، وكفره بها، ووعيده بنار جهنم لوصفه القرآن الكريم بأنه سحر يؤثر.
التفسير والبيان:
{ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً} أي دعني أنا والذي خلقته حال كونه وحيدا
في بطن أمه، لا مال له ولا ولد، أو دعني وحدي معه، فإني أكفيك في الانتقام منه.
وأجمع المفسرون على أن المراد به هنا الوليد بن المغيرة.
وهذا توعد وتهديد لهذا الخبيث الذي أنعم الله عليه بنعم الدنيا، فكفر بأنعم الله، وبدلها كفرا، وقابلها بالجحود بآيات الله والافتراء عليها، وجعلها من قول البشر. ثم عدد الله تعالى تلك النعم، فقال:
{وَجَعَلْتُ لَهُ مالاً مَمْدُوداً، وَبَنِينَ شُهُوداً، وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيداً، ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ} أي وجعلت له مالا واسعا كثيرا، وقد كان الوليد مشهورا بكثرة المال، من الزروع والمواشي والتجارات في مكة وما بينها وبين الطائف. وجعلت له أيضا بنين حضورا معه بمكة، لا يفارقونها ولا يسافرون بالتجارات في البلاد لطلب الرزق، لكثرة مال أبيهم. قيل: كان له عشرة بنين أو ثلاثة عشر ولدا كلهم من الرجال فكان يسمى ريحانة قريش، والوحيد، لأنه وحيد متميز في قومه بالرياسة والجاه.
وكذلك بسطت له في العيش وطول العمر والرياسة في قريش، ومكّنته من صنوف المال والأثاث وغير ذلك.
ومع كل هذا يطمع في زيادة المال والولد وغير ذلك، مما يدعو إلى التعجب. وقوله:{ثُمَّ} هنا معناه التعجب، كقوله تعالى:{الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ، وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ، ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ} [الأنعام 1/ 6] فمعنى {ثُمَّ} هنا للإنكار والتعجب.
وهذا إنكار عليه لشدة حرصه على الدنيا، فرد الله تعالى عليه بقوله:
{كَلاّ، إِنَّهُ كانَ لِآياتِنا عَنِيداً} أي لا أزيده، فإنه كان لآيات القرآن معاندا لها، كافرا بما أنزلناه منها على رسولنا، بعد العلم بصدقها.
وهذا دليل على أنه كان كافرا كفر عناد، فهو في أعماق نفسه يقرّ بكون آي القرآن من عند الله، ولكنه ينكر ذلك بلسانه إرضاء لقومه، لذا استحق العقاب الآتي:
{سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً} أي سأكلفه وأحمّله مشقة من العذاب، لا راحة فيه، كمن يتكلف صعود أعالي الجبال الشاهقة الوعرة. والإرهاق: أن يحمل الإنسان الشيء الثقيل الذي لا يطيقه.
وقيل: الصعود: جبل في النار،
روى ابن أبي حاتم والبزار وابن جرير عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى: {سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً} قال:
ورواه الترمذي بلفظ: «الصعود: جبل من نار يتصعّد فيه سبعين خريفا، ثم يهوي كذلك فيه أبدا» . وقال فيه: حديث غريب. ثم حكى تعالى أحواله وكيفية اتخاذ قراره وكيفية عناده، فقال:
{إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ، فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ، ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ} أي إنه فكر في شأن النبي صلى الله عليه وسلم وفي القرآن العظيم، وهيّأ الكلام في نفسه ما يقول، وتروى ماذا يصف به القرآن حين سئل عنه، ففكر ماذا يختلق من المقال، فلعن وعذّب على أيّ حال قدّر ما قدر من الكلام، وأكد ذلك قائلا: ثم لعن وعذب، وأتى ب {ثُمَّ} للدلالة على أن الدعاء عليه في المرة الثانية أبلغ وآكد من الأولى.
وهذا كله تعجب واستعظام من موقفه، واستحقاقه مضاعفة العذاب. ثم وصفه بأحوال ظاهرة للناس فقال:
{ثُمَّ نَظَرَ، ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ، ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ فَقالَ: إِنْ هذا إِلاّ سِحْرٌ يُؤْثَرُ، إِنْ هذا إِلاّ قَوْلُ الْبَشَرِ} أي ثم أعاد النظر والتروي والتأمل في الطعن
بالقرآن، ثم قطّب وجهه لما لم يجد مطعنا يطعن به القرآن، وكلح وجهه وتغير وأظهر الكراهة، ثم أعرض عن الإيمان، وانصرف عن الحق، وتكبر عن الانقياد للقرآن، فقال: ما هذا إلا سحر ينقل ويحكى، نقله محمّد عن غيره ممن قبله، وحكاه ورواه عنهم، فليس بكلام الله، بل هو كلام البشر أو الإنس.
وهذا دليل على أنه كان مناقضا فيما اختلقه لقناعته الذاتية، فقد كان بقلبه مصدقا للنبي صلى الله عليه وسلم، ولكنه أنكره عنادا.
روى العوفي عن ابن عباس قال: دخل الوليد بن المغيرة على أبي بكر بن أبي قحافة، فسأله عن القرآن، فلما أخبره، خرج على قريش، فقال: يا عجبا لما يقول ابن أبي كبشة، فوالله ما هو بشعر، ولا بسحر، ولا بهذي من الجنون، وإن قوله لمن كلام الله، فلما سمع بذلك النفر من قريش، ائتمروا، وقالوا:
والله لئن صبأ الوليد، لتصبو قريش، فلما سمع بذلك أبو جهل بن هشام، قال:
أنا والله أكفيكم شأنه، فانطلق، حتى دخل عليه بيته، فقال للوليد: ألم تر إلى قومك، قد جمعوا لك الصدقة؟ فقال: ألست أكثرهم مالا وولدا؟ فقال له أبو جهل: يتحدثون أنك إنما تدخل على ابن أبي قحافة لتصيب من طعامه فقال الوليد: أقد تحدّث به عشيرتي!! فلا، والله لا أقرب ابن أبي قحافة، ولا عمر، ولا ابن أبي كبشة، وما قوله إلا سحر يؤثر، فأنزل الله على رسوله صلى الله عليه وسلم:
{ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً} -إلى قوله- {لا تُبْقِي وَلا تَذَرُ} .
ومما يدل على أن كفره كفر عناد: ما ذكر سابقا أن الوليد مرّ برسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو يقرأ: حم السجدة، فرجع وقال لبني مخزوم:
والله لقد سمعت آنفا من محمد كلاما ما هو من كلام الإنس ولا من كلام الجن، إن له لحلاوة، وإن عليه لطلاوة. وإن أعلاه لمثمر، وإن أسفله لمغدق، وإنه يعلو ولا يعلى.