الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
التفسير والبيان:
{ن، وَالْقَلَمِ وَما يَسْطُرُونَ، ما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ} {ن} : من الحروف المقطعة مثل: {ص} ، {ق} التي يبدأ بها في بعض السور للتنبيه والتحدي. ومعنى الآية: أقسم بالقلم الذي يكتب به، وبما يكتبه الناس بالقلم من العلوم والمعارف، إنك يا محمد، لست بسبب النعمة أو بواسطة النعمة التي أنعم الله بها عليك وهي النبوة والإيمان والحصافة والخلق بالمجنون، كما يزعمون.
وهذا رد على افتراء وزعم أهل مكة أنه مجنون، فهو استبعاد ما كان ينسبه إليه كفار مكة عداوة وحسدا، وأنه ذو منزلة عالية ومكانة رفيعة من إنعام الله عليه بحصافة العقل وسائر الأخلاق الفاضلة المؤهلة للنبوة. فقوله:{ما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ} هو المقسم عليه.
والقسم بالقلم وما يكتب به إشارة إلى عظم النعمة بهما، وأنهما من أجلّ النعم على الإنسان بعد النطق والبيان، فهما طريق التثقيف وانتشار العلوم والمعارف بين الجماعات والأمم والأفراد، ودليل على ما تقدم الأمم والشعوب ونبوغها.
وروى ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: «أول ما خلق الله القلم، قال: اكتب، قال: وماذا أكتب؟ قال: اكتب القدر، فجرى بما يكون من ذلك اليوم إلى قيام الساعة، ثم خلق النون» أي الدواة.
وروى ابن عساكر عن أبي هريرة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن أول شيء خلقه الله القلم، ثم خلق النون وهو الدواة، ثم قال: اكتب ما هو كائن من عمل أو أثر أو رزق أو أجل، فكتب ما هو كائن وما كان إلى يوم القيامة، ثم ختم على القلم، فلم يتكلم إلى يوم القيامة» .
وروى الطبراني مرفوعا عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن
أول ما خلق الله القلم والحوت، قال للقلم: اكتب، قال: ما أكتب؟ قال: كل شيء كائن إلى يوم القيامة» ثم قرأ {ن، وَالْقَلَمِ وَما يَسْطُرُونَ} .
ثم ذكر تتمة المقسم عليه، فقال تعالى:
{وَإِنَّ لَكَ لَأَجْراً غَيْرَ مَمْنُونٍ} أي وإن لك لثوابا عظيما على ما تحملت من مهام النبوة، وقاسيت في إبلاغ الدعوة من أنواع الشدائد، وذلك الثواب غير مقطوع وإنما هو مستمر، أو لا يمنّ به عليك من جهة الناس.
{وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} أي وإنك لصاحب الخلق العظيم الذي أمرك الله به في القرآن، لما تحملت من قومك ما لم يتحمله أمثالك، ففيك الأدب الجمّ والحياء والجود والشجاعة والحلم والصفح وغير ذلك من محاسن الأخلاق. وقد امتثلت تأديب الله تعالى إياك في قوله تعالى:{خُذِ الْعَفْوَ، وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ، وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ} [الأعراف 199/ 7].
روى أحمد ومسلم وأبو داود والنسائي عن عائشة: أنها سئلت عن خلق النبي صلى الله عليه وسلم، فقالت: كان خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم القرآن. أو كان خلقه القرآن، أما تقرأ:{وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} .
يدل عليه
قوله صلى الله عليه وسلم: «إن الله بعثني لأتمم مكارم الأخلاق»
(1)
ومكارم الأخلاق: هي صلاح الدنيا والدين والمعاد.
وروي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال فيما رواه ابن السمعاني في أدب الإملاء عن ابن مسعود: «أدّبني ربّي فأحسن تأديبي» إذ قال: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ} [الأعراف 199/ 7] فلما قبلت ذلك منه، قال:{وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} .
(1)
هذه رواية، وفي رواية أحمد والبخاري في الآدب والحاكم والبيهقي عن أبي هريرة:«إنما بعثت لأتمم صالح الأخلاق» .
وثبت في الصحيحين عن أنس قال: «خدمت رسول الله صلى الله عليه وسلم عشر سنين، فما قال لي: أفّ قط، ولا قال لشيء فعلته: لم فعلته؟ ولا لشيء لم أفعله:
ألا فعلته؟».
وأخرج أحمد عن عائشة قالت: ما ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده خادما له قط، ولا ضرب امرأة، ولا ضرب بيده شيئا قط، إلا أن يجاهد في سبيل الله، ولا خيّر بين شيئين قط، إلا كان أحبّهما إليه أيسرهما، حتى يكون إثما، فإذا كان إثما، كان أبعد الناس من الإثم، ولا انتقم لنفسه من شيء يؤتى إليه إلا أن تنتهك حرمات الله، فيكون هو ينتقم لله عز وجل».
وبعد وصفه بأنه على خلق عظيم أوعد الله تعالى المشركين وهددهم بقوله:
{فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ} أي ستعلم يا محمد، وسيعلم الكفار المشركون مخالفوك ومكذبوك في الدنيا ويوم القيامة من المفتون المجنون الضالّ منكم ومنهم؟ وهذا ردّ على زعمهم أن محمدا صلى الله عليه وسلم كان مفتونا ضالاّ. فالمراد بالمفتون: الذي فتن بالجنون. وهو أسلوب رفيع من الخطاب، فيه البعد عن الإثارة، ولفت النظر والعقل.
وهذا التهديد كقوله تعالى: {سَيَعْلَمُونَ غَداً مَنِ الْكَذّابُ الْأَشِرُ} [القمر 26/ 54]. وقوله سبحانه: {وَإِنّا أَوْ إِيّاكُمْ لَعَلى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [سبأ 24/ 34].
ثم أكّد الله تعالى الوعيد والوعد بقوله:
{إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ، وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} أي إن الله ربّك يعلم من هو في الحقيقة الضالّ، أنت أم من اتّهمك بالضلال، ومن هو المهتدي من الفريقين منكم ومنهم، هداية موصلة إلى السعادة العاجلة والآجلة؟