الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الخطاب على النّبي صلى الله عليه وسلم، وهو راقد على حصير من جريد، وقد أثّر في جنبه، فبكى عمر فقال: ما يبكيك؟ قال: ذكرت كسرى وملكه، وهرمز، وصاحب الحبشة وملكه، وأنت رسول الله صلى الله عليه وسلم على حصير من جريد، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أما ترضى أن لهم الدنيا، ولنا الآخرة، فأنزل الله تعالى:
{وَإِذا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيماً وَمُلْكاً كَبِيراً} .
المناسبة:
بعد بيان طعام أهل الجنة ولباسهم، ذكر الله تعالى أوصاف مساكنهم وكيفية جلوسهم فيها وأشربتهم وأوانيهم وخدمهم واعتدال هوائهم، ثم أشار إلى تجملهم بمحاسن الثياب والحلي، وذكر في النهاية أن هذه النعم جزاء عملهم.
التفسير والبيان:
يخبر الله تعالى عن أوضاع أهل الجنة وما هم فيه من النعيم المقيم، وما أسبغ عليهم من الفضل العظيم، فقال تعالى:
{مُتَّكِئِينَ فِيها عَلَى الْأَرائِكِ، لا يَرَوْنَ فِيها شَمْساً وَلا زَمْهَرِيراً} أي جزاهم الله جنة، متكئين فيها على الأسرة المظللة بالحجال أو الكلل، لا يرون فيها حرّ الشمس، ولا برد الزمهرير، بل إن هواءها معتدل،
جاء في الحديث: «هواء الجنة سجسج، لا حرّ ولا قرّ» والسجسج: الظل الممتد كما بين طلوع الفجر وطلوع الشمس
(1)
.
{وَدانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلالُها وَذُلِّلَتْ قُطُوفُها تَذْلِيلاً} أي وإن ظلال الأشجار قربة منهم، مظللة عليهم، زيادة في نعيمهم، وإن كان لا شمس هناك، وسخرت وأدنيت ثمارها لمتناوليها تسخيرا، يتناولها القائم والقاعد والمضطجع، لا يردّ أيديهم عنها بعد ولا شوك. فقوله:{وَدانِيَةً} أي وجزاهم جنة أخرى
(1)
تفسير القرطبي: 138/ 19
دانية عليهم ظلالها.
ولا يخفى أن هذا الظل ليس بالمعنى المصطلح عليه في الدنيا، وهو الضوء النوراني، فإنه لا شمس هناك، فمعنى دنوّ الظلال: أن أشجار الجنة خلقت بحيث لو كان هناك شمس، لكانت تلك الأشجار قريبة الظلال على أهل الجنة، وقد أكّد هذا المعنى بقوله:{وَذُلِّلَتْ.} . أي لا تمتنع على قطّافها كيف شاؤوا
(1)
.
ثم أخبر الله تعالى عن شرابهم وأوانيهم التي فيها يشربون، فقال:
{وَيُطافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَأَكْوابٍ كانَتْ قَوارِيرَا. قَوارِيرَا مِنْ فِضَّةٍ قَدَّرُوها تَقْدِيراً} أي يطوف عليهم الخدم بأواني الطعام، وهي من فضة، وبأكواب الشراب: وهي الكيزان التي لا عرى لها ولا خراطيم، وهي أيضا من فضة، فاجتمع لها بياض الفضة وصفاء القوارير وهي الزجاج، حتى يرى داخلها، من خارجها، وجاءت في الشكل والحجم كما يريدون لا تزيد ولا تنقص.
أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: «ليس في الجنة شيء إلا قد أعطيتم في الدنيا شبهه إلا قوارير من فضة» .
وجاء في آية أخرى: {يُطافُ عَلَيْهِمْ بِصِحافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَأَكْوابٍ} [الزخرف 71/ 43]. وهذا يدل على أنهم تارة يسقون بأكواب الفضة، وتارة بأكواب الذهب. والصحاف: هي القصاع. والفرق بين الآنية والأكواب: أن الأكواب كما تقدم هي الكيزان التي لا عرى لها، والآنية هي ما له عرى، كالقدح.
ثم وصف الله تعالى مشروبهم نفسه قائلا:
{وَيُسْقَوْنَ فِيها كَأْساً كانَ مِزاجُها زَنْجَبِيلاً} أي ويسقى الأبرار أيضا في هذه الأكواب في الجنة خمرا ممزوجة بالزنجبيل، فتارة يمزج لهم الشراب بالكافور
(1)
غرائب القرآن: 124/ 29
كما تقدم وهو بارد، وتارة بالزنجبيل وهو حار، ليعتدل. أما المقرّبون فإنهم يشربون من كلّ منهما صرفا.
{عَيْناً فِيها تُسَمّى سَلْسَبِيلاً} أي ويسقون من عين في الجنة تسمى السلسبيل، سميت بذلك لسلاسة مائها، وسهولة جريها وانحدارها وإساغتها في حلوقهم. قال ابن الأعرابي عن السلسبيل: لم أسمعه إلا في القرآن.
وقال ابن عباس: وكل ما ذكر الله في القرآن مما في الجنة، فليس منه في الدنيا إلا الاسم.
والفائدة في تسمية العين بالسلسبيل بعد تسميتها بالزنجبيل هي أنها في طعم الزنجبيل ولذته، ولكن ليس فيها اللذع الذي هو مناف للسلاسة.
ثم وصف خدمهم بقوله:
{وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ إِذا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤاً مَنْثُوراً} أي ويطوف على أهل الجنة للخدمة ولدان من ولدان الجنة، يبقون فيها على حالة واحدة من الشباب والطراوة والنضارة، لا يهرمون ولا يتغيرون ولا يموتون، إذا رأيتهم في انتشارهم في قضاء حوائج غيرهم وصباحة وجوههم، وحسن ألوانهم وثيابهم وحليهم، ظننتهم كاللؤلؤ المنثور، قال ابن كثير: ولا يكون في التشبيه أحسن من هذا، ولا في المنظر أحسن من اللؤلؤ المنثور على المكان الحسن.
شبههم بالمنثور؛ لأنهم سراع في الخدمة، بخلاف الحور العين، فإنه شبّههن باللؤلؤ المكنون؛ لأنهن لا يمتهنّ بالخدمة.
ثم أجمل نعيمهم؛ لأنه أعلى وأعظم مما سبق، ولأنه مما لا يحصر ولا يخطر ببال أحد، ما دام في الدنيا، فخاطب نبيّه صلى الله عليه وسلم أو كل راء قائلا:
{وَإِذا رَأَيْتَ ثَمَّ، رَأَيْتَ نَعِيماً وَمُلْكاً كَبِيراً} أي وإذا نظرت نظرا بعيدا
في الجنة ونعيمها وسعتها وارتفاعها وما فيها من الحبرة والسرور، رأيت نعيما لا يوصف، وسلطانا وملكا عظيما لا يقدر قدره.
جاء في الحديث عن ابن عمر قال: قال رسول الله-صلى الله عليه وسلم: «إن أدنى أهل الجنة منزلة لمن ينظر في ملكه مسيرة ألفي سنة، ينظر إلى أقصاه، كما ينظر إلى أدناه»
(1)
.
ثم وصف ملابسهم وحليهم بقوله:
{عالِيَهُمْ ثِيابُ سُندُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ، وَحُلُّوا أَساوِرَ مِنْ فِضَّةٍ} أي لباسهم الذي يعلوهم هو الحرير الرفيع الرقيق الأخضر، والديباج الغليظ، وحلوا بأساور من فضة، وفي آية أخرى:{يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ} [الكهف 31/ 18، فاطر 33/ 35] أي تارة تكون حليهم الفضة، وتارة الذهب.
ثم ذكر الله تعالى شرابا آخر لهم غير الممزوج بالكافور أو بالزنجبيل، فقال:
{وَسَقاهُمْ رَبُّهُمْ شَراباً طَهُوراً} أي وسقاهم ربّهم بشراب غير ما سبق يطهر بواطنهم من الحسد والحقد والغل والأذى وسائر الأخلاق الرديئة، كما روي عن علي رضي الله عنه. والطهور مبالغة طاهر، والمراد أنها ليست بنجسة، ولا مستقذرة طبعا، ولا تؤول إلى النجاسة، ولكنها ترشح عرقا من أبدانهم، له ريح كريح المسك.
قال أبو قلابة وإبراهيم النخعي: يؤتون بالطعام، فإذا كان آخره أتوا بالشراب الطهور، فيشربون، فتضمر بطونهم من ذلك، ويفيض عرق من أبدانهم مثل ريح المسك.
ثم ذكر الله تعالى علة هذا الفضل والنعيم، فقال:
{إِنَّ هذا كانَ لَكُمْ جَزاءً، وَكانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُوراً} أي ويقال لهؤلاء الأبرار الممتعين بالجنان، تكريما لهم وإحسانا إليهم: إن هذا المذكور من أنواع النعم،
(1)
تفسير ابن كثير: 457/ 4