الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
{الْمَفَرُّ} الفرار. {كَلاّ} ردع عن طلب الفرار. {لا وَزَرَ} لا ملجأ يتحصن به.
{الْمُسْتَقَرُّ} أي استقرار أمر الخلائق، فيحاسبون ويجازون. {يُنَبَّؤُا} يخبر. {بِما قَدَّمَ وَأَخَّرَ} بما قدم من عمله وبما أخر منه، فلم يعلمه، أي أول عمله وآخره. {بَصِيرَةٌ} حجة شاهدة ناطقة بعمله فلا بد من جزائه. {وَلَوْ أَلْقى مَعاذِيرَهُ} ولو جاء بكل ما يمكن أن يعتذر به وهو جمع معذرة على غير قياس، كالمناكير جمع منكر، فقياسه معاذر، وذلك أولى.
سبب النزول:
نزول الآية (3 - 4):
{أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ.} .:
روي أن عدي بن ربيعة قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم:
يا محمد حدّثني عن يوم القيامة متى يكون أمره؟ فأخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: لو عاينت ذلك اليوم لم أصدقك، ولم أومن به، أو يجمع الله هذه العظام بعد بلاها؟! فنزلت.
وقيل: نزلت في أبي جهل كان يقول: أيزعم محمد صلى الله عليه وسلم أن يجمع الله هذه العظام بعد بلاها وتفرّقها، فيعيدها خلقا جديدا
(1)
؟!
التفسير والبيان:
{لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيامَةِ، وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوّامَةِ} أي أقسم بيوم القيامة، وأقسم بالنفس اللوّامة وهي التي تلوم صاحبها على تقصيره، لتبعثن، وقد حذف جواب القسم، لدلالة ما بعده عليه، وهو قوله تعالى:{أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظامَهُ} . وهي نفس المؤمن، تلوم على ما فات وتندم، فتلوم على الشر لم تعمله، وعلى الخير لماذا لم تستكثر منه.
والقسم بشيء لتعظيمه وتفخيمه، ولله أن يقسم بما شاء من مخلوقاته، وفي الإقسام بيوم القيامة على وقوع يوم القيامة مزيد تقرير وتأكيد لوقوعه، فإن
(1)
البحر المحيط: 384/ 8 - 385، تفسير القرطبي: 63/ 19
الإقسام بالمعدوم لا يعقل معناه، وفي ضم النفس اللوّامة إليه تنبيه على أن الغرض من القيامة: هو إظهار أحوال النفس ومراتبها في السعادة وضدّها
(1)
. والصحيح أنه أقسم بهما جميعا معا، كما قال قتادة رحمه الله
(2)
، أي أنه سبحانه سيجمع العظام، ثم يحيي كل إنسان، ليحاسبه ويجزيه.
قال الحسن البصري: إن المؤمن، والله ما نراه إلا يلوم نفسه: ما أردت بكلمتي، ما أردت بأكلتي، ما أردت بحديث نفسي، وإن الفاجر يمضي قدما وقدما ما يعاتب نفسه. وقال أيضا: ليس أحد من أهل السموات والأرضين إلا يلوم نفسه، يوم القيامة.
وقال سعيد بن جبير: سألت ابن عباس عن قوله: {لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيامَةِ} قال: يقسم ربك بما شاء ممن خلقه.
وقال الفرّاء: ليس من نفس محسنة أو مسيئة إلا وهي تلوم نفسها؛ فالمحسن يلوم نفسه أن لو كان ازداد إحسانا، والمسيء يلوم نفسه ألا يكون ارعوى عن إساءته.
والخلاصة: أن الأشبه بظاهر التنزيل كما قال ابن كثير: أن النفس اللوّامة هي التي تلوم صاحبها على الخير والشر، وتندم على ما فات.
{أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظامَهُ؟ بَلى قادِرِينَ عَلى أَنْ نُسَوِّيَ بَنانَهُ} أي أيظن أي إنسان أننا لن نقدر على جمع عظامه، بعد أن صارت رفاتا، فنعيدها خلقا جديدا، وذلك حسبان باطل، فإنا نجمعها، وبلى سنجمعها قادرين عند البعث على إعادة تسوية أكثر العظام تفرقا، وأدقها أجزاء، وهي العظام التي في الأنامل ومفاصلها. وقوله:{قادِرِينَ} تأكيد القدرة؛ لأنه
(1)
غرائب القرآن: 105/ 28
(2)
تفسير ابن كثير: 447/ 4
يستحيل جمع العظام بدون القدرة الكاملة التي نبّه عليها بقوله: {أَنْ نُسَوِّيَ بَنانَهُ} لأن من قدر على ضم سلاميات الأصبع مع صغرها ولطافتها كما كانت، كان على ضم العظام الكبار أقدر. وإنما خص البنان وهو الأنملة بالذكر؛ لأنه آخر ما يتم به خلقه، فذكره يدل على تمام الأصبع، وتمام الأصبع يدل على تمام سائر الأعضاء التي هي أطرافها.
وقيل: معنى التسوية: جعلها شيئا واحدا كخف البعير وحافر الحمار، بحيث لا يقدر على البطش. والمراد أنه قادر على ردّ العظام والمفاصل إلى هيئتها الأولى، وعلى ضد ذلك.
{بَلْ يُرِيدُ الْإِنْسانُ لِيَفْجُرَ أَمامَهُ} هذا إضراب عما سبق لتقرير أمر آخر، وهو أن الإنسان يريد في الحقيقة أن يدوم على فجوره في مستقبل أيامه، فيقدّم الذنب، ويؤخر التوبة. قال سعيد بن جبير: يقدّم الذنب، ويؤخر التوبة حتى يأتيه الموت على شرّ أحواله.
والخلاصة: أن إنكار البعث يتولد من شبهتين: الأولى-بأن يستبعد الإنسان اجتماع الأجزاء بعد تفرقها وتلاشيها، والثانية-من التهوّر، بأن ينكر المعاد بالهوى واسترسال الطبع والميل إلى الفجور.
فأجاب تعالى عن الشبهة الأولى بقوله: {أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ.} . وأنكر على صاحب الشبهة الثانية بقوله: بل يريد أن يكذب بما أمامه من البعث والحساب، لئلا تنتقص عنه اللذات العاجلة، كما قال تعالى:
{يَسْئَلُ أَيّانَ يَوْمُ الْقِيامَةِ} أي يسأل سؤال استبعاد لوقوعه واستهزاء وتعنتا: متى يوم القيامة؟ ومن لم يؤمن بالبعث ارتكب أعظم الآثام، وبادر إلى انتهاب اللذات غير عابئ بما يفعل.
ونظير الآية قوله تعالى: {وَيَقُولُونَ: مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ} [الملك 25/ 67] وقوله سبحانه: {هَيْهاتَ هَيْهاتَ لِما تُوعَدُونَ، إِنْ هِيَ إِلاّ حَياتُنَا الدُّنْيا نَمُوتُ وَنَحْيا، وَما نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ} [الأنعام 28/ 6 - 29].
ثم ذكر الله تعالى ثلاث علامات للقيامة، فقال:
{فَإِذا بَرِقَ الْبَصَرُ، وَخَسَفَ الْقَمَرُ، وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ، يَقُولُ الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ: أَيْنَ الْمَفَرُّ؟} أي فإذا دهش البصر وتحير من شدة هول البعث ويوم القيامة، وذهب ضوء القمر كله دون أن يعود كما يعود بعد الخسوف في الدنيا، وذهب وتبدد ضوء الشمس والقمر جميعا، فلا يكون هناك تعاقب ليل ونهار، أي أن معالم الكون كلها تتغير، وحينئذ يقول ابن آدم إذا عاين هذه الأهوال يوم القيامة: هل من ملجأ أو موئل، وأين المفر من الله سبحانه ومن حسابه وعذابه؟! والمراد بالإنسان: الجنس، وهو ابن آدم، فيشمل المؤمن والكافر لهول ما يشاهد منها. وقيل: المراد الكافر خاصة دون المؤمن، لثقة المؤمن ببشرى ربه.
فيجيب الله تعالى سلفا في الدنيا بقوله:
{كَلاّ لا وَزَرَ، إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ} أي ليس لكم مكان تعتصمون فيه، فلا جبل ولا حصن ولا ملجأ من الله يعصمكم يومئذ، وإنما إلى الله ربك المرجع والمصير، في الجنة أو في النار، كما في قوله تعالى:{وَأَنَّ إِلى رَبِّكَ الْمُنْتَهى} [النجم 42/ 53] فهناك استقرار العباد على الدوام. ولا بد من تقدير مضاف في قوله: {إِلى رَبِّكَ} أي إلى حكم ربك، أو إلى جنته أو ناره.
ثم ربط الله تعالى نوع المصير بالعمل في الدنيا، فقال: