الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
اثنين، فنزل قوله:{وَما جَعَلْنا أَصْحابَ النّارِ إِلاّ مَلائِكَةً} أي لم يجعلهم رجالا تستطيعون مغالبتهم.
التفسير والبيان:
{وَما جَعَلْنا أَصْحابَ النّارِ إِلاّ مَلائِكَةً} أي لم نجعل خزنة النار وزبانيتها القائمين بالتعذيب إلا ملائكة غلاظا شدادا، ولم نجعلهم رجالا تمكن مغالبتهم، ومن يطيق الملائكة ومن يغلبهم؟ وهم أقوى الخلق وأشدهم بأسا وأعظمهم بطشا، وأقومهم بحق الله والغضب له تعالى.
وهذا رد على مشركي قريش حين ذكر عدد الخزنة، فقال أبو جهل كما تقدم: يا معشر قريش، أما يستطيع كل عشرة منكم لواحد منهم فتغلبونهم؟ فقال الله تعالى:{وَما جَعَلْنا أَصْحابَ النّارِ إِلاّ مَلائِكَةً} أي شديدي الخلق، لا يقاومون ولا يغالبون.
ثم أبان الله تعالى حكمة اختيار عدد الخزنة، فقال:
{وَما جَعَلْنا عِدَّتَهُمْ إِلاّ فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا} أي إنما ذكرنا عدتهم أنهم تسعة عشر، اختبارا منا للناس، وسبب محنة وإضلال للكافرين، حتى قالوا ما قالوا، ليتضاعف عذابهم، ويكثر غضب الله عليهم. فقوله:{فِتْنَةً} معناه سبب فتنة، أي جعلنا تلك العدة وهي تسعة عشر سببا لفتنة الكفار، وفتنتهم: هو كونهم أظهروا مقاومتهم والطمع في مغالبتهم، وذلك على سبيل الاستهزاء، فإنهم مكذبون بالبعث وبالنار وبخزنتها.
{لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ، وَيَزْدادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيماناً} أي إنه تعالى جعل عدة الزبانية تسعة عشر ليتيقن ويعلم أهل الكتاب وهم اليهود والنصارى أن هذا الرسول حق، فإنه جاء ناطقا بما يطابق كتبهم السماوية المنزلة على الأنبياء
قبله، فإن فيها أن عدة خزنة جهنم تسعة عشر، ولكي يزداد إيمان المؤمنين وتصديقهم حين يرون موافقة أهل الكتاب لهم، ويشهدون صدق إخبار نبيهم محمد-صلى الله عليه وسلم.
ثم أكد الله تعالى ذلك بنفي الشبهة والشك، فقال:
{وَلا يَرْتابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَالْمُؤْمِنُونَ} أي ولا يشك أهل الكتاب من اليهود والنصارى والمؤمنون بالله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم في صحة وحقيقة هذا العدد، وفي دين الله. والمراد بذلك في الواقع التعريض بالمتشككين المنافقين.
{وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْكافِرُونَ: ماذا أَرادَ اللهُ بِهذا مَثَلاً} أي وليقول المنافقون الذي في قلوبهم شك وريب في صدق النبي صلى الله عليه وسلم والكافرون من أهل مكة وغيرهم: أي شيء أراد الله بهذا العدد المستغرب استغراب المثل؟ وما الحكمة في ذكر هذا هنا؟ ومرادهم إنكار أصل هذا الكلام، وأنه ليس من عند الله
(1)
.
ثم ذكر الله تعالى سنته في الإضلال والهداية لمن كان من أهلهما، فقال:
{كَذلِكَ يُضِلُّ اللهُ مَنْ يَشاءُ، وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ} أي مثل ذلك المذكور من الإضلال والهدى يضل من يريد بخذلانه عن إصابة الحق، لسوء استعداده، وتوجيه نفسه لمواقع الضلال والسوء، ويهدي إلى الحق والإيمان من يريد، بتوفيقه إلى الصواب، فمثل إضلال أبي جهل وأصحابه المنكرين لخزنة جهنم، يضل الله عن الهداية والإيمان أي يخزي ويعمي من أراد إضلاله، ويهدي أي يرشد من أراد هدايته، كإرشاد أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم.
وليس معنى الإضلال والهداية أنه تعالى يجبر كل فريق على الضلالة والهدى،
(1)
البحر المحيط: 377/ 8
فذلك مناف للعدل الإلهي، ولحكمة التشريع الذي جاء بالتكليف، وإنما لإرادة المكلف واختياره دور أساسي في الاستجابة للتكليف، ولاستحقاق المؤاخذة والثواب، ولا يقع شيء قهرا عن الله، وإنما بمراده، فإن خالف العبد عصى المأمور به، والمحبوب لربه، ولم يخرج عن مشيئة الله، فالله قهر الأشياء كلها، ولكنه أرخى الزمام في أشياء لاختيار الإنسان.
ثم أكد تعالى أن له في هذا العدد حكمة اختص هو بمعرفتها، فقال:
{وَما يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاّ هُوَ} أي إن خزنة النار، وإن كانوا تسعة عشر، فلهم من الأعوان والجنود من الملائكة ما لا يعلمه إلا الله سبحانه.
وهذا رد على المشركين الذين استقلوا ذلك العدد، ملخصه: هبوا أن هؤلاء تسعة عشر، إلا أن لكل واحد من الأعوان والجنود ما لا يحصيهم إلا الله، فلا يعلم جنود الله إلا هو لفرط كثرتهم، ولا يعسر عليه تتميم الخزنة إلى عشرين وأزيد، ولكن له في هذا العدد حكمة اختص هو بمعرفتها.
{وَما هِيَ إِلاّ ذِكْرى لِلْبَشَرِ} أي وما سقر وصفتها، وما ذكر عدد خزنتها إلا تذكرة وموعظة للناس، ليعلموا كمال قدرة الله، وأنه لا يحتاج إلى أعوان وأنصار.
ثم وجّه الله تعالى تحذيرا لمن أنكر جهنم، فقال:
{كَلاّ، وَالْقَمَرِ، وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ وَالصُّبْحِ إِذا أَسْفَرَ، إِنَّها لَإِحْدَى الْكُبَرِ، نَذِيراً لِلْبَشَرِ} أي أوجه تحذيرا رادعا لكم أيها الناس، فلا سبيل لإنكار وجود النار في الآخرة، وأقسم بالقمر المتلألئ، وبالليل إذا مضى وولى ذاهبا، وبالصبح إذا ظهر وتبين وأضاء، إن سقر (جهنم) لإحدى الدواهي العظام والبلايا الكبار؛ لإنذار البشر وتخويفهم من عقاب الله على العصيان.