الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
لها من نهاية ووصول إلى تجرع مرارة الموت وهو القيامة الصغرى؛ لأن الموت أول منزلة من منازل الآخرة، فإذا لم يؤمن الكافر بأمر القيامة، لا يمكنه أن يتخلص من الموت، وتجرع آلامه، وتحمل آفاته.
ثم استدل الله تعالى لإثبات البعث بأمرين:
الأول-أن العدل يقضي بأنه لا بد من الجزاء على الأعمال، حتى لا يتساوى الطائع والعاصي، وذلك لا يكون إلا في الآخرة.
الثاني-أنه تعالى كما قدر على بدء الخلق، فهو قادر على الإعادة والبعث، بل إن الإعادة أهون في تقدير البشر.
التفسير والبيان:
{كَلاّ، إِذا بَلَغَتِ التَّراقِيَ، وَقِيلَ: مَنْ راقٍ، وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِراقُ} {كَلاّ} إذا كانت رادعة، فالمعنى: لست يا ابن آدم هناك تكذب بما أخبرت به، بل صار ذلك عندك عيانا، وإذا كانت بمعنى حقا، فالمراد: حقا إذا انتزعت روحك من جسدك وبلغت تراقيك، والتراقي: جمع ترقوة، وهي العظام التي بين ثغرة النحر والعاتق. والضمير في {بَلَغَتِ} للنفس لدلالة قرينة الحال أو المقال، كما في قوله تعالى:{فَلَوْلا إِذا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ} [الواقعة 83/ 56].
والظاهر المعنى الأول، قال الزجاج:{كَلاّ} ردع عن إيثار الدنيا على الآخرة، كأنه قيل: لما عرفتم صفة سعادة السعداء وشقاوة الأشقياء في الآخرة، وعرفتم أنه لا نسبة لها إلى الدنيا فارتدعوا عن إيثار الدنيا على الآخرة، وتنبهوا لما بين أيديكم من الموت الذي به تنتهي العاجلة، وتنتقلون إلى الآجلة دار الخلود.
وعلى هذا يكون المعنى العام: ارتدعوا عن إيثار الدنيا على الآخرة،
وتنبهوا إذا بلغت الروح أو النفس أعالي الصدر، كناية عن الاحتضار وأهواله والموت؛ وقال من حضر المحتضر: هل من يرقيه ويشفيه، وهل من طبيب شاف؟ ولكن لن يغنوا عنه من قضاء الله شيئا؛ وأيقن الذي بلغت روحه التراقي أنها ساعة الفراق من الدنيا ومن الأهل والمال والولد.
وعبر عن اليقين بالظن؛ لأن الروح ما دامت في البدن، يطمع صاحبها في الحياة، فلا يحصل له يقين الموت، بل الظن الغالب مع رجاء الحياة، كما ذكر الرازي.
والآية دالة على أن الروح جوهر قائم بنفسه، باق بعد موت البدن؛ لأنه تعالى سمى الموت فراقا، وهو يدل على أن الروح باقية؛ فإن الفرق والوصال صفة، والصفة تستدعي وجود الموصوف
(1)
.
{وَالْتَفَّتِ السّاقُ بِالسّاقِ} أي التوت ساقه على ساقه عند نزول الموت به، فلا يقدر على تحريكها، فماتت رجلاه، ويبست ساقاه ولم تحملاه، وقد كان جوّالا عليهما، واجتمع عليه أمران: الناس يجهّزون جسده، والملائكة يجهزون روحه.
ويصح أن يكون ذلك كناية عن الشدة، كما في قوله تعالى:{يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ ساقٍ} [القلم 42/ 68] والمراد: اتصلت شدة فراق الدنيا، وترك الأهل والولد والجاه وشماتة الأعداء وحزن الأولياء وغير ذلك، بشدة الإقبال على أحوال الآخرة وأهوالها.
{إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَساقُ} أي تساق الأرواح بعد قبضها من الأجساد إلى خالقها، ويكون المرجع والمآب إلى حكم ربك، فتصير إما إلى جنة وإما إلى نار.
(1)
تفسير الرازي: 231/ 30
فقوله: {إِلى رَبِّكَ} أي إلى حكمه خاصة. و {الْمَساقُ} السوق، فحكمه هو المسوق إليه. وقيل: السوق إلى الله لا إلى غيره، فهو السائق يسوقه إلى الجنة أو إلى النار.
ثم أوضح الله تعالى كيفية عمل هذا المحتضر فيما يتعلق بأصول الدين وبفروعه وبالدنيا، فقال:
{فَلا صَدَّقَ وَلا صَلّى، وَلكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلّى، ثُمَّ ذَهَبَ إِلى أَهْلِهِ يَتَمَطّى} أي لم يصدق بالرسالة النبوية ولا بالقرآن، ولا صلى لربه الصلاة المطلوبة منه فرضا، بل كذب بالرسول وبما جاء به، وتولى عن الطاعة والإيمان، وزاد على ذلك أنه ذهب إلى أهله جذلان أشرا بطرا، يتبختر ويختال في مشيته افتخارا بذلك، كسلانا لا همة له ولا عمل، كما قال تعالى:{وَإِذَا انْقَلَبُوا إِلى أَهْلِهِمُ، انْقَلَبُوا فَكِهِينَ} [المطففين 31/ 83].
لقد جمع بين ترك العقيدة أو أصول الدين في أنه ما صدق بالدين، ولكن كذب به، وبين إهمال فروع الدين في أنه ما صلى ولكنه تولى وأعرض، وبين الإساءة لطبيعة الدنيا وسلوكها في أنه ذهب إلى أهله يتمطى، ويتبختر، ويختال في مشيته.
والآية دالة على أن الكافر يستحق الذم والعقاب بترك الصلاة، كما يستحقهما بترك الإيمان.
ثم هدد الله تعالى هذا الكافر وتوعده ودعا عليه بقوله:
{أَوْلى لَكَ فَأَوْلى، ثُمَّ أَوْلى لَكَ فَأَوْلى} أي وليك الويل، ويتكرر عليك هذا الدعاء، والمعنى: ويل لك وأهلكك الله، وليتكرر هذا الدعاء عليك مرة بعد أخرى، فأنت الجدير بهذا.
وهذا تهديد ووعيد أكيد من الله تعالى للكافر به، المتبختر في مشيه، يقصد
به أنه يحق لك أن تمشي هكذا، وقد كفرت بخالقك وبارئك، كما يقال في مثل هذا على سبيل التهكم والتهديد، وهو كقوله تعالى:{ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ} [الدخان 49/ 44] وقوله سبحانه: {كُلُوا وَتَمَتَّعُوا قَلِيلاً، إِنَّكُمْ مُجْرِمُونَ} [المرسلات 46/ 77] وقوله عز وجل: {فَاعْبُدُوا ما شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ} [الزمر 15/ 39] وقوله عز من قائل: {اِعْمَلُوا ما شِئْتُمْ} [فصلت 40/ 41].
قال قتادة والكلبي ومقاتل: أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بيد أبي جهل، ثم قال:
{أَوْلى لَكَ فَأَوْلى، ثُمَّ أَوْلى لَكَ فَأَوْلى} توعده، فقال أبو جهل: بأي شيء تهددني؟ لا تستطيع أنت ولا ربك أن تفعلا بي شيئا، وإني لأعزّ أهل هذا الوادي، ثم انسلّ ذاهبا، فأنزل الله تعالى هذه الآية، كما قال له الرسول عليه الصلاة والسلام. ولما كان يوم بدر أشرف على القوم فقال: لا يعبد الله بعد هذا اليوم، فقتل إذ ذاك شرّ قتلة.
ثم أقام الله تعالى دليلين على صحة البعث لتأكيد ما جاء في أول السورة:
{أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظامَهُ} :
الأول- {أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً} أي أيظن أن يترك الإنسان في الدنيا مهملا، لا يؤمر ولا ينهى، ولا يكلف، ولا يحاسب ولا يعاقب بعمله في الآخرة؟ وهذا خلاف مقتضى العدل والحكمة، فلا بد من الجزاء حتى لا يتساوى المؤمن والكافر، والطائع والعاصي، واقتضت الحكمة الإلهية تأجيل الجزاء إلى عالم الآخرة، وترك تعجيله، ليتسنى وجود الفرصة المواتية الكافية في أثناء العمر والحياة للإيمان والصلاح، كما قال تعالى:{إِنَّ السّاعَةَ آتِيَةٌ أَكادُ أُخْفِيها لِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما تَسْعى} [طه 15/ 20]. وقال سبحانه: {أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصّالِحاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ، أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجّارِ} [ص 28/ 38].
ونظير الآية: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً، وَأَنَّكُمْ إِلَيْنا لا تُرْجَعُونَ} [المؤمنون 115/ 23].
الثاني- {أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنى، ثُمَّ كانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوّى، فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى، أَلَيْسَ ذلِكَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى} أي أما كان ذلك الإنسان قطرة أو نطفة ضعيفة من مني يراق في الرحم، ثم صار بعد ذلك علقة، أي قطعة دم، ثم مضغة أي قطعة لحم، ثم شكّل ونفخ فيه الروح، فصار خلقا آخر سويا سليم الأعضاء، ذكرا أو أنثى بإذن الله وتقديره؟ أليس ذلك الذي أنشأ هذا الخلق البديع وقدر عليه بقادر على أن يعيد خلق الأجسام من جديد بالبعث، كما كانت عليه في الدنيا؟ بلى، فإن الإعادة أهون من الابتداء.
وقوله: {فَخَلَقَ} أي فقدّر بأن جعلها مضغة مخلّقة، وقوله {فَسَوّى} أي فعدّل أركانه وكمل نشأته ونفخ فيه الروح، وجعل من المني بعد تخليقه صنفي الإنسان: الرجل والمرأة.
وهذا استدلال بالخلق الأول على الإعادة، فإن الخالق الأول هو الخالق الآخر، والأمران سواء عليه.
روى ابن أبي حاتم وغيره أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا قرأ هذه الآية قال:
وأخرج أحمد وأبو داود والترمذي وابن مردويه، والحاكم وصححه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من قرأ منكم: {وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ} [التين 1/ 95] وانتهى إلى آخرها: {أَلَيْسَ اللهُ بِأَحْكَمِ الْحاكِمِينَ} [التين 8/ 95] فليقل: بلى، وأنا على ذلكم من الشاهدين، ومن قرأ: {لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيامَةِ} [القيامة 1/ 75] فانتهى إلى قوله: {أَلَيْسَ ذلِكَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى} [القيامة 40/ 75] فليقل: بلى، ومن قرأ المرسلات، فبلغ {فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ؟} [المرسلات 50/ 77] فليقل: آمنا بالله» .