الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وأخرج أحمد والبخاري ومسلم والترمذي وغيرهم عن جابر بن عبد الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «جاورت بحراء، فلما قضيت جواري هبطت فنوديت، فنظرت عن يميني، فلم أر شيئا، ونظرت عن شمالي فلم أر شيئا، ونظرت خلفي، فلم أر شيئا، فرفعت رأسي، فإذا الذي جاءني بحراء جالس على كرسي بين السماء والأرض، فجثثت (فزعت) منه رعبا، فرجعت فقلت: دثّروني دثّروني» .
وفي رواية: «فجئت أهلي، فقلت: زمّلوني زمّلوني» ، فأنزل الله:
{يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ} وقال جمهور العلماء: وعلى إثرها نزلت {يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ} .
وعلى هذا يكون سبب النزول هو ما عراه صلى الله عليه وسلم من الرعب والفزع عند رؤية الملك، وتكون حادثة التزمل هي حادثة التدثر بعينها.
وقيل: إن تزمله صلى الله عليه وسلم كان لأسفه وحزنه، لمّا بلغه ما كان من المشركين وما دبروه من القول السيء يدفعون به دعوته، فقد أخرج البزار والطبراني في الأوسط وأبو نعيم في الدلائل عن جابر رضي الله عنه قال: اجتمعت قريش في دار الندوة، فقالوا: سمّوا هذا الرجل اسما تصدر الناس عنه، فقالوا: كاهن، قالوا: ليس بكاهن، قالوا: مجنون، قالوا: ليس بمجنون، قالوا: ساحر، قالوا: ليس بساحر، قالوا: يفرق بين الحبيب وحبيبه، فتفرق المشركون على ذلك، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم، فتزمل في ثيابه وتدثر فيها، فأتاه جبريل عليه السلام، فقال:{يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ} ، {يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ} .
التفسير والبيان:
خاطب الله تعالى النبي صلى الله عليه وسلم بالآيات التالية حينما كان يتزمل بثيابه أول ما جاءه جبريل بالوحي خوفا منه، فإنه لما سمع صوت الملك، ونظر إليه أخذته الرعدة، فأتى أهله،
وقال: «زمنوني، دثّروني» ثم بعد ذلك خوطب بالنبوة والرسالة وأنس بجبريل.
{يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ قُمِ اللَّيْلَ إِلاّ قَلِيلاً، نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً، أَوْ زِدْ عَلَيْهِ} أي يا أيها النبي المتزمل المتلفف بثيابه انقض لصلاة الليل وهي صلاة التهجد بمقدار نصف الليل، بزيادة قليلة أو نقصان قليل، لا حرج عليك في ذلك. وهذا تخيير بين الثلث والنصف والثلثين. والليل: من غروب الشمس إلى طلوع الفجر. وفيه دليل على أن أكثر المقادير الواجبة كان الثلثين.
وبعد الأمر بقيام الليل أمره تعالى بترتيل القرآن قائلا:
{وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً} أي اقرأ القرآن على تمهل، مع تبيين الحروف، فإنه يكون عونا على فهم القرآن وتدبره. وقوله:{تَرْتِيلاً} تأكيد في الإيجاب، وأنه لا بد للقارئ منه، ليستحضر المعاني. والترتيل: هو أن يبين جميع الحروف، ويوفي حقها من الإشباع. وكذلك كان صلوات الله وسلامه عليه يقرأ، قالت عائشة رضي الله عنها: كان يقرأ السورة، فيرتلها حتى تكون أطول من أطول منها. وفي صحيح البخاري عن أنس أنه سئل عن قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: كانت مدا، ثم قرأ {بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ} يمد بسم الله، ويمد الرحمن، ويمد الرحيم.
ووردت أحاديث كثيرة صحيحة تدل على استحباب الترتيل وتحسين الصوت بالقراءة، منها
ما رواه الحاكم وغيره عن البراء: «زيّنوا القرآن بأصواتكم»
وحديث البخاري ومسلم عن أبي هريرة «ليس منا من لم يتغن بالقرآن»
وحديث البخاري ومسلم والنسائي عن أبي موسى «لقد أعطيت هذا مزمارا من مزامير آل داود» يعني أبا موسى الأشعري رضي الله عنه، فقال أبو موسى: لو كنت أعلم أنك تسمع قراءتي لحبّرته لك تحبيرا.
وروى البغوي عن ابن مسعود قال: لا تنثروه نثر الرمل، ولا تهذّوه (لا تسرعوا به) هذّ الشعر، قفوا عند عجائبه، وحرّكوا به القلوب، ولا يكن همّ أحدكم آخر السورة. وروى العسكري في كتابه المواعظ عن علي كرم الله وجهه مثل هذه العبارة. وسئلت عائشة عن قراءة النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: لا كسردكم هذا، لو أراد السامع أن يعدّ حروفه لعدّها
(1)
.
ثم نبّه الله تعالى إلى عظمة القرآن وما جاء فيه من تكاليف لتأكيد الأمر بالترتيل، فقال:
{إِنّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً} أي إننا سنوحي إليك القرآن وسننزله عليك، وفيه التكاليف الشاقة على البشر، والأوامر والنواهي الصعبة على النفس، من الفرائض والحدود، والحلال والحرام، وهو قول ثقيل يثقل العمل بشرائعه. قال ابن زيد: هو والله ثقيل مبارك، كما ثقل في الدنيا يثقل في الميزان يوم القيامة. وقال الحسين بن الفضل: ثقيلا لا يحمله إلا قلب مؤيد بالتوفيق، ونفس مزيّنة بالتوحيد. وقد يراد أنه ثقيل في الوحي،
ففي الموطأ والبخاري ومسلم والترمذي والنسائي عن عائشة أنه صلى الله عليه وسلم سئل: كيف يأتيك الوحي؟ فقال: «أحيانا يأتيني مثل صلصلة الجرس، وهو أشده علي، فيفصم عني وقد وعيت ما قال، وأحيانا يتمثل لي الملك رجلا فيكلمني فأعي ما يقول» ، قالت عائشة: ولقد رأيته ينزل عليه الوحي في اليوم الشديد البرد، فيفصم عنه، وإن جبينه ليتفصّد عرقا.
(1)
تفسير ابن كثير: 434/ 4
ثم أبان الله تعالى علة الأمر بقيام الليل (التهجد) فقال:
{إِنَّ ناشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئاً وَأَقْوَمُ قِيلاً} أي إن قيام الليل، وهو الذي يقال له: ناشئة إذا كان بعد نوم، أشد موافقة ومصادفة للخشوع والإخلاص وتوافق القلب واللسان، فذلك يتجلى في هدوء الليل أكثر من أي وقت آخر، وهو أجمع للخاطر في أداء القراءة وتفهمها، وأسدّ مقالا وأثبت قراءة، لحضور القلب فيها وأكثر اعتدالا واستقامة على نهج الحق والصواب؛ لأن الأصوات فيها هادئة، والدنيا ساكنة، أما النهار فهو وقت الانشغال بالأعمال، كما قال تعالى:{إِنَّ لَكَ فِي النَّهارِ سَبْحاً طَوِيلاً} أي إن لك في وقت النهار تقلبا وتصرفا في حوائجك ومصالح الحياة، فلا تتفرغ فيه للعبادة، فصل بالليل.
ولكن لا ينبغي الانشغال عن ذكر الله بأي حال نهارا أو ليلا، فقال تعالى:
{وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً} أي أكثر من ذكر الله، وداوم عليه إن استطعت ليلا ونهارا، وأخلص العبادة لربك، وانقطع إلى الله انقطاعا بالاشتغال بعبادته، والتماس ما عنده إذا فرغت من أشغالك وحوائجك الدنيوية، كما قال تعالى:{فَإِذا فَرَغْتَ فَانْصَبْ، وَإِلى رَبِّكَ فَارْغَبْ} [الانشراح 7/ 94 - 8] أي إذا فرغت من أشغالك فأتعب نفسك في طاعة ربك وعبادته، لتكون فارغ البال، واجعل رغبتك إلى الله وحده.
ثم أبان الله تعالى سبب الأمر بالعبادة، والباعث على التبتل، فقال:
{رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ، لا إِلهَ إِلاّ هُوَ، فَاتَّخِذْهُ وَكِيلاً} أي إن ربك الذي تذكره، وتتفرغ لعبادته هو الجدير بالعبادة، فهو المالك المتصرف في المشارق والمغارب الذي لا إله إلا هو، وكما أفردته بالعبادة، فأفرده بالتوكل، واجعله وكيلا لك في جميع الأمور، كما قال تعالى:{فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ}