الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المناسبة:
بعد تخويف الكفار بأهوال يوم القيامة وشدائدها، خوّفهم تعالى وهددهم بما في قدرته من القهر، ففيه الكفاية بالجزاء لمن يكذب بالقرآن، ثم أمر نبيه صلى الله عليه وسلم بالصبر، ونهاه عن الضجر في أمر التبليغ كحال يونس عليه السالم، ثم أخبر نبيه صلى الله عليه وسلم عن حسد قومه، وحرصهم على إيقاع المكروه به بعد أن صبّره وشجعه، ثم أعلم الناس قاطبة أن القرآن عظة للجن والإنس جميعا، يتلقاه أهل العقول والأفهام، وليس المجانين كما زعموا.
التفسير والبيان:
{فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهذَا الْحَدِيثِ، سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ} أي دعني وإياهم، وخلّ بيني وبينهم، واترك أمر هؤلاء المكذبين بالقرآن، فأنا أكفيك أمرهم، وأعلم كيف أجازيهم، فلا تشغل قلبك بشأنهم، فإنا سنأخذهم بالعذاب على غفلة، ونسوقهم إليه درجة فدرجة، حتى نوقعهم فيه من حيث لا يعلمون أن ذلك استدراج؛ لأنهم يظنونه إنعاما، ولا يفكرون في عاقبته، وما سيلقون في نهايته. وهذا تهديد شديد، وتسلية للنبي صلى الله عليه وسلم.
فهم لا يشعرون أن الإنعام استدراج، بل يعتقدون أن ذلك من الله تعالى كرامة، وهو في الأمر نفسه إهانة كما قال تعالى:{أَيَحْسَبُونَ أَنَّما نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مالٍ وَبَنِينَ، نُسارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْراتِ؟ بَلْ لا يَشْعُرُونَ} [المؤمنون 55/ 23 - 56] وقال سبحانه: {فَلَمّا نَسُوا ما ذُكِّرُوا بِهِ، فَتَحْنا عَلَيْهِمْ أَبْوابَ كُلِّ شَيْءٍ، حَتّى إِذا فَرِحُوا بِما أُوتُوا، أَخَذْناهُمْ بَغْتَةً، فَإِذا هُمْ مُبْلِسُونَ} [الأنعام 44/ 6].
وقال الله تعالى هنا:
{وَأُمْلِي لَهُمْ، إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ} أي أمهلهم وأؤخرهم ليزدادوا إثما، ويتورطوا، فإن تدبيري وكيدي لأهل الكفر قوي شديد، فلا يفوتني شيء لكل
من خالف أمري، وكذب رسلي، واجترأ على معصيتي. وسمى الله الجزاء كيدا -والكيد احتيال-لكونه في صورته، إذ نفعهم وهو يريد الضرر بهم، لما علم من خبثهم وتماديهم في الكفر.
جاء في الصحيحين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إن الله ليملي للظالم، حتى إذا أخذه لم يفلته» ثم قرأ: {وَكَذلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذا أَخَذَ الْقُرى، وَهِيَ ظالِمَةٌ، إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ} [هود 102/ 11].
ثم أخبر الله تعالى عن إزالة كل الموانع التي تمنعهم من قبول الإسلام والحق، فقال:
- {أَمْ تَسْئَلُهُمْ أَجْراً فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ} أي بل أتطلب منهم أجرة على الهداية والتعليم وتبليغ رسالتك ودعوتك إياهم إلى الإيمان بالله تعالى؟ فهم من الغرامة المالية التي يتحملونها مثقلون بأدائها، لشحهم ببذل المال. والمراد: هل طلبت منهم أجرا، فأعرضوا عن إجابتك بهذا السبب؟ الحقيقة أنك يا محمد تدعوهم إلى الله عز وجل بلا أجر تأخذه منهم، بل ترجوا ثواب ذلك عند الله تعالى، وهم مع ذلك يكذبونك فيما جئتهم به من الحق جهلا وكفرا وعنادا.
وفي هذا إثبات النبوة؛ لأن النبي ينشد الخير لذاته، لا لمنفعة مادية.
- {أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ} أي بل أعندهم علم الغيب يكتبون ما يريدون من الحجج التي يزعمون، ويخاصمونك بما يكتبونه من ذلك، ويحكمون لأنفسهم بما يريدون، ويستغنون بذلك عن إجابتك وامتثال قولك.
والمراد أنه ليس لهم حجة نقلية يعتمدون عليها في الإعراض عن قبول رسالة الإسلام.
ولما بالغ الله تعالى في تزييف منهج الكفار، وتفنيد شبهاتهم وإبطالها،
وزجرهم عليها، أمر رسوله صلى الله عليه وسلم بالصبر على أذاهم وعلى تبليغ رسالته، فقال:
{فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ، وَلا تَكُنْ كَصاحِبِ الْحُوتِ، إِذْ نادى وَهُوَ مَكْظُومٌ} أي فاصبر يا محمد على قضاء ربك وحكمه فيك وفي هؤلاء المشركين، وعلى أذى قومك وتكذيبهم، وامض في تبليغ دعوتك، دون توقف أو تعثر بمعارضتهم وإيذائهم، فإن العاقبة لك ولأتباعك في الدنيا والآخرة.
ولا تكن مثل يونس عليه السلام في الضجر والعجلة والغضب، حين ذهب مغاضبا على قومه، فكان من أمره ما كان، من ركوبه البحر، والتقام الحوت له، وشروده في البحار، وندمه على ما فعل، فنادى ربه في الظلمات في بطن الحوت، وهو مملوء غيظا وغما على قومه، إذ لم يؤمنوا لما دعاهم إلى الإيمان، كما جاء في آية أخرى:{فَنادى فِي الظُّلُماتِ أَنْ لا إِلهَ إِلاّ أَنْتَ، سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظّالِمِينَ، فَاسْتَجَبْنا لَهُ، وَنَجَّيْناهُ مِنَ الْغَمِّ، وَكَذلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ} [الأنبياء 87/ 21 - 88].
والمعنى: لا يوجد منك ما يوجد منه من الضجر والمغاضبة، فتبتلى ببلائه، كما قال تعالى:
{لَوْلا أَنْ تَدارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ، لَنُبِذَ بِالْعَراءِ، وَهُوَ مَذْمُومٌ} أي لولا أن تداركته رحمة من الله ونعمة، بتوفيقه للتوبة وقبولها منه، فتاب الله عليه، لألقي من بطن الحوت على وجه الأرض الخالية من النبات، وهو ملوم بالذنب الذي أذنبه، مطرود من الرحمة والكرامة، لذا قال تعالى:
{فَاجْتَباهُ رَبُّهُ، فَجَعَلَهُ مِنَ الصّالِحِينَ} أي فاصطفاه ربه واستخلصه واختاره للنبوة والوحي، وجعله من الأنبياء المرسلين لقومه الكاملين في الصلاح، وأرسله إلى مائة ألف أو يزيدون، فآمنوا جميعا. ويلاحظ أن كلمة {لَوْلا} دلت على أن المذمومية لم تحصل.
ثم حذر الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم من عداوة المشركين، قائلا:
{إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ} أي إنهم-كما قال الزمخشري-من شدة تحديقهم ونظرهم إليك شزرا بعيون العداوة والبغضاء، يكادون يزلون قدمك، أو يهلكونك، وكان هذا النظر يشتد منهم في حال قراءة النبي صلى الله عليه وسلم القرآن، لشدة كراهيتهم، وحسدا على ما أوتي من النبوة، ويقولون: إنه مجنون، حيرة في أمره، وتنفيرا عنه، وإلا فقد علموا أنه أعقلهم. والمعنى: أنهم جننوه لأجل القرآن.
وقال بعضهم: المراد أنهم يكادون يصيبونك بالعين، روي أن العين كانت في بني أسد، فكان الرجل منهم يتجوع ثلاثة أيام، فلا يمر به شيء فيقول فيه: لم أر كاليوم مثله، إلا عانة، فأريد بعض العيّانين على أن يقول في رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل ذلك، فقال: لم أر كاليوم رجلا، فعصمه الله.
قال الهروي: أراد ليعتانونك بعيونهم، فيزيلونك عن مقامك الذي أقامك الله فيه، عداوة لك.
ورد ابن قتيبة على ذلك قائلا: ليس يريد الله أنهم يصيبونك بأعينهم، كما يصيب العائن بعينه ما يعجبه وإنما أراد أنهم ينظرون إليك إذا قرأت القرآن نظرا شديدا بالعداوة والبغضاء، يكاد يسقطك.
ورأى ابن كثير أن المعنى: يحسدونك لبغضهم إياك، لولا وقاية الله لك، وحمايته إياك منهم، وفي هذه الآية-على رأي البعض-دليل على أن العين إصابتها وتأثيرها حق بأمر الله عز وجل، كما وردت بذلك الأحاديث المروية من طرق متعددة كثيرة.
منها:
ما أخرجه أحمد عن عبد الله بن عمرو، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
«لا عدوى ولا طيرة ولا هامة ولا حسد، والعين حق» أي بإرادة الله.