المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌أهم أغراض السورة: - التفسير الوسيط - مجمع البحوث - جـ ١٠

[مجموعة من المؤلفين]

فهرس الكتاب

- ‌سورة المجادلة

- ‌مدنية وآياتها ثنتان وعشرون

- ‌أهم مقاصدها:

- ‌أسماء هذه السورة:

- ‌مناسبتها لها قبلها:

- ‌سؤال هام وجوابه:

- ‌سورة الحشر

- ‌مدنية وعدد آياتها أربع وعشرون

- ‌وتسمى سورة بني النضير كما قال ابن عباس

- ‌مناسبتها لما قبلها:

- ‌أهم أغراض السورة:

- ‌سورة الممتحنة

- ‌مدنية وآياتها ثلاث عشرة آية

- ‌مناسبتها لما قبلها:

- ‌مقاصد هذه السورة الكريمة:

- ‌سورة الصف

- ‌مدنية وآياتها أربع عشرة

- ‌أَسماء هذه السورة:

- ‌مناسبتها لما قبلها:

- ‌أهم مقاصد السورة:

- ‌سورة الجمعة

- ‌مدنية وآياتها إِحدي عشرة

- ‌صلتها بما قبلها:

- ‌بعض مقاصد السورة:

- ‌أَذان الجمعة في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي عهد عثمان رضي الله عنه

- ‌المراد من السعي وذكر الله:

- ‌العدد الذي به تصح الجمعة

- ‌هل حضور الحاكم شرط في صحة الجمعة

- ‌القيام شرط في الخطبة

- ‌أَحكام مختلفة

- ‌أَركان الخطبة:

- ‌سورة المنافقون

- ‌مدنية وآياتها إحدي عشرة آية

- ‌صلتها بما قبلها:

- ‌مقاصد السورة:

- ‌سورة التغابن

- ‌هذه السورة الكريمة مدنية وآياتها ثماني عشرة آية

- ‌وسميت بهذا الاسم لورود كلمة التغابن في الآية التاسعة منها

- ‌مناسبتها لما قبلها:

- ‌بعض مقاصد هذه السورة:

- ‌سورة الطلاق

- ‌مدنية وآياتها اثنتا عشرة

- ‌مناسبتها لما قبلها:

- ‌أَهم أغراض السورة:

- ‌سورة التحريم

- ‌مدنية وآياتها اثنتا عشرة آية

- ‌مناسبتها للسورة التي قبلها وهي سورة الطلاق:

- ‌أغراض السورة:

- ‌سورة الملك

- ‌مكية وآياتها ثلاثون آية

- ‌مقاصدها:

- ‌صلة هذه السورة بما قلبها:

- ‌أسماء السورة وفضلها:

- ‌سورة القلم

- ‌ومناسبة سورة القلم للسورة السابقة (سورة الملك):

- ‌المعنى العام للسورة

- ‌سورة الحاقة

- ‌مناسبة هذه السورة لما قبلها:

- ‌بعض مقاصد السورة:

- ‌سورة المعارج

- ‌مكية وآياتها أربع وأربعون آية

- ‌صلة هذه السورة بما قبلها:

- ‌بعض مقاصد السورة:

- ‌سورة نوح

- ‌مكية، وهي ثمان وعشرون آية

- ‌وجه اتصالها بما قبلها:

- ‌أَهم مقاصد السورة:

- ‌سورة الجن

- ‌مكية وآياتها ثمان وعشرون آية

- ‌صلتها بما قبلها:

- ‌بعض مقاصد هذه السورة:

- ‌1 - الملائكة:

- ‌2 - الجن:

- ‌3 - الشياطين:

- ‌سورة المزمل

- ‌هذه السورة الكريمة مكيَّة وآياتها عشرون آية

- ‌مناسبتها لما قبلها:

- ‌بعض مقاصد هذه السورة:

- ‌ما جاء في سبب النزول:

- ‌سورة المدثر

- ‌مناسبتها لما قبلها:

- ‌أَول ما نزل من القرآن:

- ‌من مقاصد السورة:

- ‌سورة القيامة

- ‌مناسبتها لما قبلها:

- ‌بعض مقاصد السورة:

- ‌سورة الإِنسان

- ‌مناسبتها لما قبلها:

- ‌بعض مقاصدها:

- ‌سورة المرسلات

- ‌صلتها بما قبلها:

- ‌أَهم مقاصد السورة:

- ‌(هَذَا يَوْمُ لا يَنطِقُونَ (35) وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ (36) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (37))

- ‌(هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ جَمَعْنَاكُمْ وَالأَوَّلِينَ (38) فَإِنْ كَانَ لَكُمْ كَيْدٌ فَكِيدُونِ (39) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (40))

- ‌سورة النبأ

- ‌مناسبتها لما قبلها:

- ‌مقاصد السورة:

- ‌سورة النازعات

- ‌مناسبتها لما قبلها:

- ‌أَهم مقاصد السورة:

- ‌سورة عبس

- ‌صلتها لما قبلها:

- ‌أهم مقاصد السورة:

- ‌سورة التكوير

- ‌صلتها بما قبلها:

- ‌أهم مقاصدها:

- ‌سورة الانفطار

- ‌صلتها بما قبلها:

- ‌بعض مقاصد السورة:

- ‌سورة المطففين

- ‌صلة هذه السورة بما قبلها:

- ‌بعض مقاصد السورة:

- ‌سبب نزول السورة:

- ‌سبب النزول:

- ‌سورة الانشقاق

- ‌مناسبتها لما قبلها:

- ‌بعض مقاصد السورة:

- ‌سورة البروج

- ‌مناسبتها لما قبلها:

- ‌أَهم مقاصد السورة:

- ‌سورة الطارق

- ‌صلتها بما قبلها:

- ‌أَهم مقاصد السورة:

- ‌سورة الأعلى

- ‌مناسبتها لما قبلها:

- ‌مقاصد السورة:

- ‌سورة الغاشية

- ‌مناسبتها لما قبلها:

- ‌مقاصد السورة:

- ‌سورة الفجر

- ‌مناسبتها لما قبلها:

- ‌أَهم مقاصدها:

- ‌سورة البلد

- ‌صلتها بما قبلها:

- ‌بعض مقاصد السورة:

- ‌سورة الشمس

- ‌صلتها بما قبلها:

- ‌بعض مقاصد هذه السورة:

- ‌سورة الليل

- ‌صلتها لما قبلها:

- ‌بعض مقاصد السورة:

- ‌سبب النزول:

- ‌سورة الضحى

- ‌صلتها لما قبلها:

- ‌بعض مقاصد السورة:

- ‌سبب النزول:

- ‌سورة ألم نشرح

- ‌مناسبتها لما قبلها:

- ‌أَهم مقاصد السورة:

- ‌سورة والتين

- ‌مناسبها لما قبلها:

- ‌أَهم مقاصدها:

- ‌سورة العلق

- ‌مناسبتها لما قبلها:

- ‌أَهم مقاصدها:

- ‌سورة القدر

- ‌مناسبتها لما قبلها:

- ‌أَهم مقاصدها:

- ‌سورة البينة

- ‌مناسبتها لما قبلها:

- ‌أَهم مقاصد السورة:

- ‌سورة الزلزلة

- ‌مناسبتها لما قبلها:

- ‌أَهم مقاصدها:

- ‌سورة العاديات

- ‌مناسبتها لما قبلها:

- ‌مقاصد السورة:

- ‌سورة القارعة

- ‌مناسبتها لما قبلها:

- ‌مقاصد السورة:

- ‌سورة التكاثر

- ‌مناسبتها لما قبلها:

- ‌مقاصد السورة:

- ‌سورة العصر

- ‌مناسبتها لما قبلها:

- ‌مقاصد السورة:

- ‌بعض ما جاء فيها:

- ‌(وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ):

- ‌سورة الهُمَزَة

- ‌مناسبتها لما قبلها:

- ‌مقاصد السورة:

- ‌سورة الفيل

- ‌مناسبتها لما قبلها:

- ‌مقاصد السورة:

- ‌سورة قريش

- ‌مناسبتها لما قبلها:

- ‌مقاصد السورة:

- ‌سورة الماعون

- ‌مناسبتها لما قبلها:

- ‌مقاصد السورة:

- ‌سورة الكوثر

- ‌مناسبتها لما قبلها:

- ‌مقاصد السورة:

- ‌سورة الكافرون

- ‌مناسبتها لما قبلها:

- ‌مقاصد السورة:

- ‌بعض فضائلها:

- ‌سورة النصر

- ‌مناسبتها لما قبلها:

- ‌مقاصد السورة:

- ‌سورة المسد

- ‌مناسبتها لما قبلها:

- ‌مقاصد السورة:

- ‌سورة الإخلاص

- ‌مناسبتها لما قبلها:

- ‌مقاصد السورة:

- ‌سبب نزول السورة:

- ‌بعض ما جاء في فضلها:

- ‌سورة الفلق

- ‌مناسبة السورة لما قبلها:

- ‌مقاصد السورة:

- ‌سورة الناس

- ‌مناسبتها لما قبلها:

- ‌مقاصد السورة:

الفصل: ‌أهم أغراض السورة:

‌سورة الحشر

‌مدنية وعدد آياتها أربع وعشرون

‌وتسمى سورة بني النضير كما قال ابن عباس

‌مناسبتها لما قبلها:

إِن في آخر تلك {كَتَبَ اللَّهُ لأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي} ، وفي أَول هذه (فَأَتَاهُمْ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمْ الرُّعْبَ)، وفي آخر السابقة ذكر من حاد الله ورسوله، وفي أَول هذه ذكر من شاق الله ورسوله، وأن في الأُولى ذكر حال المنافقين واليهود وتولي بعضهم بعضًا، وفي هذه ذكر ما حل باليهود، وعدم إِغناء تولي المنافقين إِيَّاهم شيئًا.

‌أهم أغراض السورة:

ابتدأَت بتنزيه الله وتمجيده، وبيان أن الكون له وحده بما فيه من إِنسان، وحيوان، وجماد ونبات يشهد بعظمته وسلطانه: (سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ

) الآية ثم تحدثت عن مظاهر قدرته في إِخراج بني النضير وإِجلائهم عن ديارهم ولم تنفعهم حصونهم العالية ولا قلاعهم المنيعة: (هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ .... ) الآيات ثم تناولت موضوع الفئ، فبينت شروطه وأَحكامه مع بيان الحكمة في إِعطائه الفقراءَ:(وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ .... ) الآيات، ثم أَشارت إِلي أَصحاب رسول الله وأَثنت عليهم الثناء العاطر بذكر تضحيات المهاجرين ومآثر الأَنصار:(لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ ..... ) الآيات.

وفي مقابلة المهاجرين والأَنصار ذكرت السورة المنافقين الأَشرار الذين تحالفوا مع اليهود ضد الإِسلام وكان مثلهم معهم كمثل الشيطان الذي يزين للإنسان سوءَ عمله، ثم يتخلى عنه ويخذله: (أَلَمْ تَرى إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لإِخْوَانِهِمْ

) الآيات.

وحثت المؤمنين على تقوى الله، وحذرت من ذلك اليوم الرهيب الذي لا ينفع المرء فيه إلَاّ ما قدمت يَدَاه:(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ .... ) الآية، وبينت الفرق الكبير بين

ص: 1346

أَهل الجنة، وأَهل السعير، وبين مصير السعداءِ، ومصير الأَشقياء:(وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ .... ) الآيات.

وختمت السورة ببيان شأن القرآن، وعظيم تأثيره، وأَنه رفيع القدر، نابه الذكر؛ لأَن الذي أَنزله هو المتصف بالأَسماءِ الحسني: (هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلَاّ هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ

) الآيات.

بسم الله الرحمن الرحيم

{سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (1) هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ (2) وَلَوْلَا أَنْ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلَاءَ لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابُ النَّارِ (3) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِّ اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (4) مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ (5)}

ص: 1347

المفردات:

(سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ) التسبيح: التنزيه لله - تعالى - اعتقادا وقولًا وعملًا عمَّا لا يليق به.

(لأَوَّلِ الْحَشْرِ): عند أَول جمع اليهود لإِجلائهم. فالحشر معناه: الجمع، ومنه: وحشر لسليمان جنوده.

(حُصُونُهُمْ): مفرده حصن، وهو المكان المنيع الذي لا يقدر عليه لارتفاعه، وحصن حصانة فهو حصين أَي: منيع.

(وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمْ الرُّعْبَ): أَي: أَلقاه وأَنزله بشدة.

(بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ): عادوهما وخالفوهما.

(مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ) اللينة - بكسر اللام -: النخلة القريبة من الأرض الكريمة الطيبة.

التفسير

1 -

{سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (1)} :

المعنى: نزَّه الله عما لا يليق به ما في السموات وما في الأَرض. وذلك يعم جميع ما كان مستقرًّا فيهما، وما كان من أَجزائهما حيث أُريد به معنى عام شامل لكل ما نطق بلسان المقال كالملائكة والمؤمنين من الثقلين، وما نطق بلسان الحال كغيرهم، وهو المراد من قوله - تعالى -:(وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَاّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ)(1)، وذكرت اللام في لفظ الجلالة مع الفعل المتعدي وهو سبَّح إِما للتأكيد أَو للتعليل بمعني فعل التسبيح لأَجل الله - تعالى - وخالصا لوجهه. وبدئت بعض السور بلفظ سبح وبعضها بلفظ يسبح للإِيذان بتحقق التسبيح في جميع الأَوقات (وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) الذي لا يُغالب ولا يُمانع ولا يعجزهُ شيءٌ كائنا ما كان، ولا يفعل إلَاّ ما تقتضيه الحكمة.

وكرر الموصول هنا فقيل: (مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ) لزيادة التقرير والتنبيه على استقلال كل من الفريقين بالتسبيح.

(1) سورة الإسراء من الآية: 44.

ص: 1348

روي أَنه عليه الصلاة والسلام لمَّا قدم المدينة صالح بني النضير وهم رهط من اليهود من ذرية هارون عليه السلام نزلوا بالمدينة في فتن بني إِسرائيل انتظارا لبعثة النبي صلى الله عليه وسلم وفي صلحه معهم عاهدهم أَن يكونوا لا له ولا عليه. فلما ظهر عليه الصلاة والسلام على المشركين يوم بدر قالوا: هو النبي الذي نعته في التوراة لا ترد له رواية، فلما كان يوم أُحد ما كان ارتابوا ونكثوا العهد فخرج كعب بن الأَشراف زعيمهم في أَربعين راكبا إِلي مكة فخالفوا قريشا عند الكعبة على قتاله عليه الصلاة والسلام فأَمر رسول الله صلى الله عليه وسلم محمد بن مسلمة الأَنصاري فقتل كعبا غيلة وكان أَخاه من الرضاعة ثم صبحهم عليه الصلاة والسلام بالكتائب فقال لهم: اخرجوا من المدينة فاستمهلوه عشرة أَيام ليتجهزوا للخروج، فدس عبد الله بن أُبي المنافق وأَصحابه من قال لهم: لا تخرجوا من الحصن فإِن قاتلوكم فنحن معكم لا نخذلكم ولئن خرجتم لنخرجن معكم، فسدوا الأَزقة وحصنوها فحاصرهم النبي عليه الصلاة والسلام إِحدي وعشرين ليلة فلما قذف الله في قلوبهم الرعب، وأَيسوا من نصر المنافقين لهم طلبوا الصلح، فأبى صلى الله عليه وسلم إلَاّ الجلاءَ على أن يحمل كل ثلاثة أبيات على بعير. يحملون ما شاءُوا من متاعهم. فجلوا إِلى الشام إِلى أَريحا وأَذرعات إلَاّ أَهل بيتين منهم هما آل أَبي الحقيق وآل حيي بن أَخطب فإِنهم لحقوا بخيبر، ولحقت طائفة منهم بالحيرة، فأَنزل الله: - تعالى - (سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ) إلي قوله: (وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)، وقوله - تعالى -:

2 -

{هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ (2)} :

هذه الآية بيان لبعض آثار عزته تعالى، وإحكام حكمته إثر وصفه - تعالى - بالعزة القاهرة والحكمة البالغة على الإِطلاق في الآية السابقة، وعلى هذا فالضمير راجع إِلى الله سبحانه وتعالى.

ص: 1349

والمعنى: ذلك المنعوت بالعزة والحكمة: (هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ) وهم يهود بني النضير. أَخرجهم من ديارهم بالمدينة لأَول الحشر بمعنى عند أول إِخراج لهم، والحشر: إِخراج الجماعة من مقرهم وإِزعاجهم عنه إِلي الحرب وغيرها، وكانوا من سبط لم يصبهم جلاءٌ قط، وهم أول من أخرج من أهل الكتاب من جزيرة العرب إِلي الشام وغيرها، وآخر حشرهم بإِجلاءِ عمر رضي الله عنه إيَّاهم من خيبر إِلي الشام، وقيل: آخر حشرهم يوم القيامة.

ومشروعية الإِجلاءِ كانت في ابتداءِ الإِسلام، أَما الآن كما يقول الآلوسي فقد نسخت فلا يجوز إِلَاّ القتل أو السبي أو ضرب الجزية.

وكان من شأنكم أيها المسلمون أَنكم (مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا) من ديارهم لشدة بأسهم، ومنعة حصونهم وكثرة عددهم وعُددهم كما كان من شأنهم أنهم ظنوا أَن حصونهم مانعتهم من أمر الله تعالى: وكان مقتضي الظاهر أن يقال لمقابلة ما ظننتم أن يخرجوا، أن يقال: وظنوا ألَاّ يخرجوا ولكن عدل إِلي ما في النظم الجليل للإِشعار بأَن ظنهم قارب اليقين فناسب أن يؤتْي بما يدل على فرط وثوقهم بما هم فيه بتقديم الخبر وهو (مَانِعَتُهُمْ) على المبتدأ وهو (حُصُونُهُمْ) للدلالة على الاختصاص والتوكيد فكأَنه لا حصن أمنع من حصونهم ليكون مانعًا من الوصول إِليهم (فَأَتَاهُمْ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا) أَي: نزل بهم أَمر الله وقدره المقدور لهم من حيث لم يتوقعوه ولم يخطر لهم على بال وهو قتل رئيسهم كعب بن الأَشراف فإِنه ممَّا أَضعف قوتهم، وفل شوكتهم، وسلب قلوبهم الأَمْنَ والاطمئنانَ وألبسهم أردية الخضوع والاستكانة (وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمْ الرُّعْبَ) بإِلقاءِ الخوف الشديد فيها بقوة، أو من مكان بعيد (يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ) الجملة مستأنفة جواب عن سؤال مقدر تقديره: فما حالهم بعد قذف الرعب فيها أَو معه؟ فأُجيب بالجملة.

والمعنى: يخربون بيوتهم من باطنها بأيديهم ليسدوا بأَخشابِهَا وأَحجارها أَفواه الأَزقة تحصينًا لها وحتى لا تبقى صالحة لسكنى المسلمين والانتفاع بها بعد جلائهم عنها فيزيدهم ذلك ندمًا وحسرة، ولينقلوا ما فيها من جيد الخشب والساج معهم، كما كانوا يخربون تلك

ص: 1350

البيوت من خارجها بأَيدي المؤمنين الذين أرادوا اقتحامها عليهم ليزيلوا تحصنهم بها، وليتسع مجال المعركة أَمام المسلمين فيتسنى لهم الغلبة عليهم، واستئصال شأفتهم فلا تبقي لهم بالمدينة دار.

ومعنى تخربيهم لبيوتهم بأَيدي المؤمنين: أَنهم لما عرضوا أَنفسهم وديارهم بنكث العهد وكانوا السبب فيه فكأَنهم أمروا المسلمين به وكلفوهم إِياَّه، وبهذا الاعتبار عطفت بأَيدي المؤمنين على بأَيديهم (فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الأَبْصَارِ) أَي: فتأَملوا يا أُولي العقول والأَلباب، واتعظوا بما جري عليهم من الأُمور الهائلة، واتقوا مباشرة ما أَوصلهم إِليه الكفر والعصيان واحذروه واعتمدوا على الله وحده حتى لا تُعاقَبوا بمثل عقابهم.

3 -

{وَلَوْلَا أَنْ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلَاءَ لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابُ النَّارِ (3)} :

أَي: ولولا أَن كتب الله عليهم الإِخراج أو الخروج عن أَوطانهم على تلك الصورة الفظيعة (لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيَا) بالقتل والسبي كما فعل ببني قريظة وجيء بقوله - تعالى - (وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابُ النَّارِ) لبيان أَنهم إِن نجوا من عذاب الدنيا وهو القتل فلا نجاة لهم من عذاب الآخرة، وليس تمتعهم أَيامًا قلائل بالحياة، وتهوين أَمر الجلاء على أَنفسهم بنافع لهم، وفيه إِشارة إِلى أَن القتل أَشق من الجلاءِ لا لذاته، بل لأنهم يصلون عنده إلي عذاب النار.

وفرق بعضهم بين الجلاءِ والإِخراج بأَن الجلاءَ ما كان مع الأَهل والولد، والإِخراج قد يكون مع بقاءِ الأَهل والوالد. وقال الماوردي: الجلاءُ لا يكون إِلَاّ لجماعة، والإِخراج قد يكون لواحد ولجماعة.

4 -

{ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِّ اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (4)} :

الإِشارة في قوله (ذَلِكَ) تنبيء بأَن ما حاق بهم أَو ما سيحيق بسبب أَنهم عادوا الله ورسوله وخالفوهما وفعلوا من المحكي عنهم من القبائح والسيئات (وَمَنْ يُشَاقَّ اللَّهَ) الاقتصار على ذكر مشاقة الله لتضمنها لمشاقة الرسول عليه الصلاة والسلام وليوافق قوله - تعالى -: (فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ): أَي: يعاقبه؛ لأَنه - سبحانه - شديد العقاب

ص: 1351

كأَنه قيل: ذلك الذي نزل بهم من العقاب أو سينزل بهم هو بسبب مشاقتهم الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم وكل من يشاق الله - تعالى - كائنًا من كان فله بسبب ذلك عقاب شديد.

5 -

{مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ (5)} :

قال الحافظ بسنده عن جابر قال: رخص لهم في قطع النخل وشدد عليهم، فأَتوا النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله علينا إِثم فيما قطعنا أَو علينا وزر فيما تركنا؟ وكان بعضهم قد شرع أَثناءَ الحصار في قطع بعض النخيل إِغاظة لهم وإِرهابًا لقلوبهم فأَنزل الله تعالى الآية.

والمعنى: ما قطعتم أَي نخلة كما قال الحسن ومجاهد والراغب وجماعة، أَو أَي نخلة كريمة كما قال الثوري، كأَنها أُخذت من اللِّين، أَو تركتموها قائمة على أَصولها لم تتعرضوا لها بشيءٍ ما فذلك الذي فعلتموه من القطع أو الترك بأَمر الله - تعالى- الواصل إِليكم بواسطة رسول الله صلى الله عليه وسلم أو بإِرادته - سبحانه - ومشيئته (وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ) أَي: وليعز المؤمنين، ويذل اليهود ويغيظهم؛ لأَنهم إِذا رأَوا المؤمنين يتحكمون في أَموالهم كما أرادوا، ويتصرفون فيها حسبما أحبوا من القطع أو الترك يزدادون غيظا، وكمدا، وحسرة، وندما، حيث إِن في القطع خزيا - بالغًا لذهابها بأَيدي أَعدائهم المسلمين وحسرة شديدة، وفي الإِبقاءِ حسرة أَشد، وخزيًا أَبلغ لكونها باقية في أَيدي أَعدائهم المسلمين يتمتعون بها وينعمون بثمرها قال بعضهم: هاتان الحسرتان تتحققان أَيضا كيفما كانت المقطوعة أَو المتروكة؛ لأَن النخل مطلقًا مما يعز على أَصحابه فلا تكاد تسمح أَنفسهم بتصرف أَعدائهم فيه حسبما شاءُوا، وعزته على صاحبه الغارس له أَعظم من عزته على صاحبه غير الغارس له، وقد سمعت بعض الغارسين يقول: السعفة عندي كإِصبع من أَصابع يدي، وتحقُّق الحسرة على الذهاب إِن كانت المقطوعة نخلة كريمة أَظهر.

واستدل بالآية على جواز هدم ديار الكفار وقطع أشجارهم وإِحراق زروعهم زيادة لغيظهم ومضاعفة لحسرتهم.

ويرى الفقهاءُ في المسأَلة أَن القطع والتحريق أَولى إِن علم بقاؤها في أَيدي الكفار، وإِلا فالإِبقاءُ أَولى ما لم يتضمن ذلك مصلحة.

ص: 1352

{وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ وَلَكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (6) مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (7)}

المفردات:

(وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ) الفيءُ: كل مال أُخذ من الكفار بغير قتال.

(فما أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكَابٍ) إِيجاف الخيل والركاب: سرعة سيرها، يقال: أَوجف البعير: حثه وحمله على السير السريع، والركاب اسم جمع لا واحد له من لفظه غلب على ما يركب من الإِبل كما تطلق كملة الراكب على راكبه، فلا يقال في الأَكثر الفصيح راكب لمن كان على فرس ونحوه، بل يقال: فارس، أَي فما أَجريتم على تحصيله خيلًا، ولا ركابًا.

(مِنْ أَهْلِ الْقُرَى): هم أَهل قرى الكفار عامة الذين أُخذت أموالهم صلحًا بغير إِيجاف خيل ولا ركاب.

(وَلِذِي الْقُرْبَى): هم بنو هاشم وبنو عبد المطلب.

(كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ) الدولة: ما يتداول في الأَيدي، فيحصل في يد هذا تارة وفي يد هذا أُخري، أَي: يتداوله الأَغنياءُ بينهم فلا يصيب الفقراء.

ص: 1353

التفسير:

6 -

{وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ وَلَكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (6)} :

شروع في بيان حال ما أُخذ من أَموالهم بعد بيان ما حال بأَنفسهم من العذاب العاجل والآجل، أموال الكفرة التي تكون فيئًا للمؤمنين؛ لأَن الله خلق الناس لعبادته، وخلق ما خلق من الأَّموال ليتوسلوا بها إلى طاعته.

(وَلَكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ) أَي: إِن سنته جارية منذ الأَزل على أَن يسلط رسله على من يشاءُ من أَعدائهم يقذف الرعب في قلوبهم، وقد سلط رسوله صلى الله عليه وسلم على بني النضير تسليطًا غير مألوف من غير أَن تتحملوا مضايق الخطوب، وتقاسوا شدائد الحروب؛ لذلك فلا حق لكم في أَموالهم، ويكون أَمرها مفوضًا إِليه صلى الله عليه وسلم (وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) فيفعل ما يشاءُ كما يشاءُ على الوجوه المعهودة تارة وأُخرى على غيرها لا يغالب ولا يمانع ولا يعجزة شيءٌ في الأَرض ولا في السماءِ.

7 -

{مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (7)} :

بيان لحكم ما أَفاءَ الله على رسوله صلى الله عليه وسلم من قرى الكفار على العموم، بعد بيان حكمه فيما أَفاءَه من بني النضير.

فالآية جوابٌ على سؤال مقدر ناشيء عمَّا فهم من الكلام السابق، فكأَن قائلًا يقول: قد علمنا حكم ما أَفاءَ الله من بني النضير، فما حكم ما أَفاءَ الله تعالى من غيرهم؟ فقيل: ما أَفاءَ الله على رسوله ...... الآية، ولذا لم تعطف على ما قبلها، وإِعادة عين العبارة الأُولى في الآيتين لزيادة التقرير (فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ) قد اختلف في قسمة ما فعل بديارهم ونخيلهم من التخريب والقطع.

ص: 1354

نزلت حين طلب الصحابة منه صلى الله عليه وسلم أَن يقسم بينهم أَموال بني النضير قسمة الغنائم كما حدث في بدر، فبين الله - تعالى - أنها فيءُ لا غنيمة إِذ إِنهم لم يقطعوا لها شقة، ولم يلقوا فيها مشقة، ولم يلتحموا فيها بقتال شديد، بل ذهبوا إِليها رجالًا، وكانت على ميلين من المدينة، وفتحت صلحًا، فهي للرسول خاصة يتصرف فيها كما أَمره الله سبحانه.

والمعنى: ما رجع إِليكم وحصلتم عليه من أَموال بني النضير بعد رحيلهم عنها فهي لرسول الله صلى الله عليه وسلم خاصة يتصرف فيها حسبما شرعه الله تعالى، فقد أَخرج البخاري ومسلم وأَبو داود والنسائي وغيرهم عن عمر بن الخطاب - رضي الله تعالى عنه -: قال: كانت أَموال بني النضير ممَّا أَفاءَ اللهُ على رسوله صلى الله عليه وسلم ممَّا لم يوجف المسلمون عليه بخيل ولا ركاب، وكانت لرسول الله صلى الله عليه وسلم خاصة يتفق منها على أَهله ثم يجعل ما بقي في السلاح والكراع، عدة في سبيل الله يعطي منها من يشاءُ، ولذلك آثر المهاجرين بها ولم يعط الأَنصار شيئا عدا ثلاثة لفقرهم كما قال الضحاك.

وخصت به صلى الله عليه وسلم لأَنها حصلت لكم صلحًا، فلم تحصلوها بكد اليمين، وعرق الجبين ولم توجفوا على الوصول إِليها خيلًا ولا ركابًا، بمعنى أَنكم لم تدفعوها دفعًا شديدًا لغزو بني النضير وإِنما ذهبتم إِليها رجالًا ما عدا النبي صلى الله عليه وسلم لقرب ديارهم من المدينة، وفيما ذكر إِشعار بأَن هذه الأَموال حرية بأَن تكون لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وإِنما وقعت في أَيديهم بغير حق. فأَرجعها الله إِلى مستحقها، من فاءَ الظل: إِذا رجع، وكذلك شأن الفيءِ من أَهل القري غير بني النضير فقيل: يسدس كظاهر الآية، ويصرف سهم الله في عمارة الكعبة، وسائر المساجد، والمصالح العامة وقيل: يخمس وهو الصحيح وذكر الله للتعظيم، ويصرف سهم الرسول بعد وفاته إلي إِمام المسلمين على قول، وإِلى العساكر والثغور على قول، وإِلى مصالح المسلمين على قول.

وحاصل المعنى: أَن فيءَ أَهل القرى يقسم إِلي خمسة أَسهم، فيصرف سهم منه لله وللرسول وذكره تعالى للتيمن والتبرك فإِن لله ما في السموات والأَرض كما روى عن ابن عباس والحسن عن محمد بن الحنفية، وفيه تعظيم لشأن الرسول صلى الله عليه وسلم.

ص: 1355

وسهم لذي القربى من بني هاشم وبني عبد المطلب دون من عداهم لقوله صلى الله عليه وسلم: بنو هاشم وبنو عبد المطلب شيءٌ واحد، وشبك بين أَصابعه، ويقول فيهم: لم يفارقوني في جاهلية ولا إِسلام كما في البخاري.

وسهم لليتامي. وهم أَطفال المسلمين الذين فقدوا آباءَهم ولو كان لهم أَجداد، وسهم للمساكين وهو ذوو الحاجة والفقر، وسهم لابن السبيل، وهو الغريب المنقطع في سفره عن ماله، وقيل: يخمس، فيصرف خمسه كما يصرف خمس الغنيمة المذكورة في قوله - تعالى -:(وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ)(1) الآية، والأخماس الأَربعة الباقية يصرفها الرسول كما يشاءُ، له أَن يخصص ذلك بالفقراءِ.

وصرف الفيء على النحو المذكور (كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ) تعليل للتقسيم السابق أي: حتى لا يكون شيئًا يتداوله الأَغنياءُ منكم، ويتعاورونه فلا يصيب الفقراءَ مع أَن حقه أَن يكون لهم. أَو حتى لا يكون دولة جاهلية بينكم، فإِن الرؤساءَ كانوا يستأثرون بفيئهم، ويقولون: من عزّ بزّ. وقرئ دولة بضم الدال وفتحها وهما بمعنى واحد.

(وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ

) الآية: الواو اعتراض على سبيل التأكيد، وليست عاطفة.

أَي: وما أَعطاكم الرسول من الفيءِ فخذوه، وما نهاكم عن أخذه أَو عن تعاطيه فاتركوه وابتعدوا عنه، وحمل الآية على خصوص الفيء مروي عن الحسن لقرينة المقام، وفي الكشاف: الأَجود أَن تكون الآية عامة في كل ما أَمر به صلى الله عليه وسلم ونهي عنه وذلك لعموما (ما) وأَمر الفيءِ داخل في العموم دخولًا أوليًّا (وَاتَّقُوا اللَّهَ

) في مخالفته عليه الصلاة والسلام وذلك تعميم إِثر تعميم، ويتناول كل ما يجب أن يتقى لدخوله. كما سبق في عموم (ما) روي ذلك عن ابن جريج.

(إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ): فيعاقب كل من يخالف أَمره ونهيه عقابا شديدا ليس لهم من يدفعه عنهم من ولي أو نصير.

(1) سورة الأنفال من الآية: 41.

ص: 1356

قال الإِمام بسنده عن ابن مسعود أَنه قال: لعن الله الواشمات (1)، والمستوشمات (2)، والمتنمصات (3)، والمتفلجات (4) للحسن المغيِّرات خلق الله عز وجل قال: فبلغ امرأَة يقال لها: أُم يعقوب فجاءَت إِليه، فقالت: بلغني أَنك قلت: كيت وكيت فقال: ما لي لا أَلعن من لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي كتاب الله، فقالت: إني لأَقرأُ بين لوحيه فما وجدته، قال: إِذا كنت قرأتيه فقد وجدتيه أَما قرأَت (وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا) قالت: بلي: قال: فإِن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عنه إِلي آخر الحديث. أَخرجه الشيخان من حديث سفيان الثوري.

{لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (8) وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (9) وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (10)}

(1) هن اللاتي يصنعن الوشم وذلك بغرز البشرة بإبرة ثم يذر عليها لون أحمر.

(2)

من يطلبن من غيرهن الوشم.

(3)

اللاتي يأمرن بترقيق حواجبهن طلبًا للزينة.

(4)

اللاتي يباعدن بين الثنايا والرباعيات بترقيق الأسنان بالمبرد.

ص: 1357

المفردات:

(وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ) أَي: نزلوا المدينة مقيمين بها، وأَخلصوا الإِيمان.

(وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا): أَي: إِن نفوسهم لم تطمح إِلي شيءِ مما أُعطي المهاجرون من الفيءِ وغيره.

(وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ) أَي: حاجة بمعنى أنهم يقدمون المحاويج على حاجة أنفسهم.

(وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ) أَي: ومن أَبعده الله بتوفيقه من أَن يغلب عليه حب المال وبغض الإِنفاق كان من المفلحين، وأضيف الشح إِلي النفس؛ لأَنه غريزة فيها، وأَما البخل فهو المنع نفسه بأَن يبخل على الناس بما في يده، وقيل: الشح: بخل مع حرص.

التفسير

8 -

{لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (8)} :

والمعنى: يقول - تعالى - مبينًا حال الفقراءِ المستحقين المال الفيءِ بأَنهم هم الذين أخرجهم الكفار من ديارهم وأَموالهم وكانوا مائة رجل كما قيل فخرجوا يبغون رزقًا منه - تعالى - في الدنيا ومرضاة في الآخرة، وقد وصفوا أَولًا بما يدل على استحقاقهم للفيءِ حيث وصفوا بالإخراج من الديار والأَموال، ووصفوا ثانيا بما يوجب تفخيم شأنهم ويؤكده، ممَّا يدل على توكلهم التام ورضاهم بما قدره المليك العلام فقال:(يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنْ اللَّهِ وَرِضْوَانًا) وكانت نصرة الله - تعالى - ورسوله صلى الله عليه وسلم هي مقصدهم فقد قال - سبحانه -: (وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ) أَي: ويضمرون في أَنفسهم عزمًا أَكيدًا بأَن يبذلوا كل مرتخص وغال في سبيل نصرة دين الله، أو فإن خروجهم من بين الكفار مراغمين لهم مهاجرين إِلي المدينة تقارنه نصرة لله ولرسوله وأي نصرة تعدل ذلك.

(أُوْلَئِكَ) الموصوفون بما ذكر من الأَوصاف العظيمة (هُمْ الصَّادِقُونَ) الذين صدقوا ما عاهدوا الله عليه في دعواهم الإِيمان، حيث فعلوا ما يدل عليه أَقوى دلالة مع إِخراجهم من

ص: 1358

أَموالهم وأَوطانهم لأَجله - سبحانه - وهذا الوصف خاص بهم لا بغيرهم ممن آمن في مكة، ولم يخرج من داره وماله ولم يثبت منه نحو ما ثبت منهم من لين مع المشركين

9 -

{وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (9)} :

كلام مستأنف لمدح الأَنصار بخصائص حميدة من جملتها مدح محبتهم للمهاجرين ورضاهم باختصاصهم ببعض مال الفيءِ دونهم وإِيثارهم على أَنفسهم ولو كان بهم فقر وحاجة، وقد تبوءُوا الدار، والإِيمان وتمكنوا فيها أَشد تمكن، ونسبة التبوءِ إِلي الدار، والمراد بها المدينة ظاهر، لأَن التبوءَ النزول في المكان ونسبته إِلي الإِيمان باعتبار جعله مستقرًّا وموطنًا حيث استقرت به نفوسهم واطمأنت إِليه قلوبهم، والتعريف في الدار للتنويه كأَنها الدار التي تستحق أَن تسمي دارًا، وقد أَعدها الله لهم ليكون تبوؤهم إِياَّها مَدْحًا لهم، وقيل: والذين تبوءُوا الدار وأَخلصوا الإِيمان، وكان تبوؤهم للدار والإِيمان من قبل هجرة المهاجرين ولا يلزم منه سبق إِيمانهم على إِيمان المهاجرين حتى يقال الأَمر بالعكس، بل نهاية ما يلزم عليه سبق إِيمان الأَنصار على هجرة المهاجرين (يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ) من إِخوانهم المهاجرين، وقد بلغ من سماحتهم أَنهم أَنزلوهم منازلهم، وأَشركوهم أَموالهم ونزلوا لهم عن بعض ما يعز عليهم حتى قيل: إِن من كانت عنده امرأتان نزل عن إِحداهما وطلقها حتى يتزوجها رجل من المهاجرين وهم مع كل ذلك لا يجدون في أَنفسهم حسدًا أَو غيظًا ممَّا أعْطِيَ المهاجرون من الفيءِ وغيره ولا مرَّ ذلك بخاطرهم فضلًا عن أَن تطمح إِلي شيءٍ منه نفوسهم (وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ) بمعنى أنهم يقدمون المهاجرين على أنفسهم في كل شيء من الطيبات ولو كان بهم حاجة وخَلَّة، وذلك بتقديم حاجة المحاويج على حاجة أنفسهم.

أَخرج البخاري ومسلم والترمذي والنسائي وغيرهم عن أَبي هريرة قال: أَتي رجل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله أصابني الجهد، فأَرسل إِلي نسائه فلم يجد عندهن شيئًا، فقال عليه الصلاة والسلام: أَلَا رجل يضيف هذا الرجل الليلة رحمة الله، فقام رجل من

ص: 1359

الأَنصار - وفي رواية فقال أَبو طلحة: - أَنا يا رسول الله، فذهب به إِلي أَهله فقال لامرأَته: أَكرمي ضيف رسول الله صلى الله عليه وسلم، قالت: والله ما عندي إلَاّ قوت الصبية. قال: إِذا أَراد الصبية العشاءَ فنوميهم وتعالي فأَطفئِي السراج ونطوي الليلة لضيف رسول الله - صلى الله تعالى عليه وسلم - ففعلت، ثم غدا الضيف على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: لقد عجب الله من فلان وفلانة وأَنزل الله فيهما (وَيُؤْثِرُونَ

) الآية.

(وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ): لعل المراد بالشح البخل المتناهي بحيث يبخل المتصف به بمال غيره. أي: لا يودُّ جودَ غيره، وتنقبض نفسه منه، ويسعى في أَلَاّ يكون، وقيل: إِنه وإِضافته إِلي النفس؛ لأَنه غريزة فيها مقتضية للحرص على المنع الذي هو البخل، وقال الراغب: الشح: بخل مع حرص وذلك فيما كان عادة، وأَخرج ابن المنذر وابن مردويه عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: ليس الشح أَن يمنع الرجل ماله ولكنه البخل، إِنما الشح أَن تطمح عين الإِنسان إِلي ما ليس له، ويفهم من الآية ذم الشح ذمًّا بالغًا، ومن يوق شح نفسه بتوفيق الله ومعونته حتى يخالفها فيما يغلب عليها من حب المال، وبغض الإِنفاق فهؤلاء هم الفائزون بكل مطلوب، الناجون من كل مكروه، والجملة الشرطية تذييل وتوكيد لمدح الأَنصار والثناء عليهم لتناوله إِيَّاهم تناولًا أَصليًّا، وكانت الإشارة في قوله - تعالى -:(فَأُوْلَئِكَ) جمعًا باعتبار معنى (مَنْ) كما أَفراد الضمير في قوله - سبحانه -: (وَمَنْ يُوقَ) باعتبار لفظها.

10 -

{وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (10)} :

هؤلاء هم القسم الثالث ممن تستحق فقراؤهم من مال الفيءِ، ذكرهم - سبحانه - بعد ذكر المهاجرين والأَنصار، والمراد بهم التابعون بإِحسان كما في آية براءَة (وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ)(1).

(1) سورة التوبة، من الآية 100.

ص: 1360

فالتابعون بإحسان الذين هاجروا بعدما قوي الإسلام، أَو المتبعون لآثار المهاجرين والأَنصار الحسنة، وأَوصافهم الجميلة، الداعون لهم في السر والعلانية إِلي يوم القيامة، وهذا ما يشير إِليه قوله - سبحانه: (وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ

) الآية لمدحهم بمحبتهم لمن تقدمهم من المؤمنين، ومراعاتهم لحقوق الأُخوة في الدين، والسبق بالإِيمان قائلين: ربنا اغفر لنا ولإِخواننا في الدين، والأُخوة عندهم أَعز وأَشرف من النسب، وتضرعوا إِليه تعالى أَن يطهر قلوبهم من الحقد على المؤمنين على الإِطلاق، وأَن يجعل حبهم خالصًا لله وحده:(رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ) تستجيب دعاءَ الصادقين مع المبالغة في الرأفة والرحمة فحقيق بنا أَن نطمع في تحقيق ما ندعو به لنا ولإِخواننا الذين سبقونا بالإيمان.

وفي الآية حث وتوجيه وترغيب في الدعاءِ إِلي الصحابة. وتصفية القلوب من بغض أَحد منهم مع الاعتراف بفضلهم، وحسن صنيعهم وسبقهم إِلي البذل والتضحية.

قال ابن كثير: ما أَحسن ما استنبط الإِمام مالك من هذه الآية أَن الرافضي الذي يسب الصحابة ليس له من مال الغنيمة شيءٌ لعدم اتصافه بأَوصاف المؤمنين.

وقد روى الشعبي أنه قال: تفاضلت اليهود والنصارى على الرافضة بخصلة: سئلت اليهود: منَ خير أَهل ملتكم؟ فقالوا: أَصحاب موسى، وسئلت النصاري مَن خير أَهل ملتكم؟ فقالوا: أَصحاب عيسي، وسئلت الرافضة من شر أَهل ملتكم؟. فقالوا: أَصحاب محمد. أَمروا بالاستغفار لهم فسبوهم. فالسيف عليهم مسلول إِلي يوم القيامة.

ص: 1361

{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلَا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَدًا أَبَدًا وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (11) لَئِنْ أُخْرِجُوا لَا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِنْ قُوتِلُوا لَا يَنْصُرُونَهُمْ وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ (12) لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ (13)}

المفردات:

(نَافَقُوا): أَظهروا الإسلام وأَخفوا الكفر.

(لإِخْوَانِهِم): أَمثالهم في الكفر أَو الصداقة والمولاة، وكثر جميع الأَخ - مرادًا به الموالاة والصداقة - على إِخوان، ومرادًا به الأُخوة في النسب على إخْوة.

(لَيُوَلُّنَّ الأَدْبَارَ): ليفرن منهزمين وقد أَعطوا ظهورهم للعدو.

(رَهْبَةً): خوفًا وهيبة.

(لا يَفْقَهُونَ): لا يدركون الأُمور على حقيقتها.

التفسير

11 -

{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلَا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَدًا أَبَدًا وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (11)} :

ص: 1362

هذه الآية حكاية لِمَا جرى بين الكفرة والمنافقين من الأَقوال الكاذبة، والأَحوال الفاسدة وتعجيب من سلوكهم وأَفعالهم بعد حكاية محاسن أَحوال المؤمنين، والإِشادة بأَخلاقهم الطيبة وشمائلهم الكريمة على اختلاف طبقاتهم، وترديد أَقوالهم السمحة.

والخطاب في الآية للرسول صلى الله عليه وسلم أولا، ثم لكل أحد له حظ من تلقي الخطاب أَو الانتفاع بمضمونه.

والمعنى: أَلم تتعجب يا رسول الله أَنت ومن معك من أَحوال الذين تمكن منهم النفاق فأَخفوا الكفر وأَظهروا الإيمان مثل عبد الله بن أُبيّ وأَمثاله من المنافقين، وما ذهبوا إِليه من الخيانة وما تورطوا فيه من سلوك شائن، وعمل قبيح، إِنهم يقولون لإِخوانهم المتأَصلين في الكفر، وأَصدقائهم الذين يوالونهم من يهود بني النضير مؤكدين مقسمين: لئن أُخرجتم، وأُكرهتم على ترك بلدكم ووطنكم لنخرجن معكم تضامنًا ونصرة، ولا نطيع في شأنكم أَحدًا يمنعنا عن مناصرتكم أبدًا، وإِن طال الزمان، وإِن قوتلتم من أَحد كائنًا من كان أَو عاداكم أَحد لنكونن في نصرتكم، ومعاونتكم على عدوكم، والله يشهد إِن المنافقين لكاذبون في أَقوالهم، ضَالُّون مُضِلُّون في وعودهم، وإِن عززوا ذلك وأَكدوه بالأَيمان. وقوله - تعالى -:(وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ) مبادرة بتكذيبهم إِجمالًا، بفصلها قوله تعالى:

12 -

{لَئِنْ أُخْرِجُوا لَا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِنْ قُوتِلُوا لَا يَنْصُرُونَهُمْ وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ (12)} :

والمعنى: إِنهم لكاذبون في وعودهم ضالُّون مُضِلُّون في أقوالهم، والله لئن أُخرج هؤلاء اليهود من بلدهم، وأُجلوا عن ديارهم لا يخرج المنافقون معهم، ولا يأبهون بهم، ولئن قوتلوا لا يكونون في نصرتهم، ولا يهتمون بما يجري عليهم أو يقع فيهم من قتل أَو هلاك وتشريد، ولئن خرج المنافقون لنصرهم أَو قاموا على سبيل الفرض والتقدير لتكونن عاقبتهم الهزيمة، وليولن الأَدبار فارين راجعين، وقد أَعطوا ظهورهم للمؤمنين إِعمالًا في الفرار، وإِمعانًا في الهروب ثم لا ينصرون أَي: ثم لا يكون هناك نصر اليهود لا تنفعهم وعود المنافقين، ويهلكهم الله، أَو ثم لا يكون هناك نصر للمنافقين ولا إِدراك لغاياتهم السيئة، وخططهم الفاسدة، ويفتضح أَمرهم، وينكشف كيدهم فينالون جزاءهم.

ص: 1363

وقد كان الأَمر كما أَخبر القرآن، ذلك إِذ أَرسل عبد الله بن أُبي رأُس النفاق وأَعوانه إِلى بني النضير سرًّا يؤلبونهم ويغرونهم بالتمرد والعصيان، ويعدونهم بالنصر لهم، والوقوف معهم، وكان إِخبار القرآن بذلك قبل وقوعه حجة بينه على صدق النبوة، وإِعجاز القرآن

13 -

{لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ (13)} :

تؤكد هذه الآية عدم نصر هؤلاء المتآمرين من المنافقين واليهود بتقرير أَن المؤمنين

أشد تخويفًا لهم من الله، يرهبونهم، ولا يستطيعون لقاءهم.

والمعنى: لأنتم أيها المؤمنون أَشد تخويفًا وترويعًا في صدور هؤلاء من الله الذي يظهرون لكم أنهم يخافونه، ويرهبونه قوته، فهم يغلفون خوفهم منكم في الخوف منه على طريقتهم في النفاق.

ذلك السلوك المشين من الخوف منكم أَشد من الخوف من الله بسبب أَنهم سفهاءُ العقول لا يفهمون الأُمور على حقيقتها، ولا يصلون في الفهم إِلى إِدراك عظمة الله وجبروته، وقوته على خلقه حتى تكون خشيته منهم فوق كل خشية، وسلطانه أَعلى من كل سلطان.

{لَا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعًا إِلَّا فِي قُرًى مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَرَاءِ جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ (14) كَمَثَلِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَرِيبًا ذَاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (15) كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلْإِنْسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ (16) فَكَانَ عَاقِبَتَهُمَا أَنَّهُمَا فِي النَّارِ خَالِدَيْنِ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ (17)}

ص: 1364

المفردات:

(مُحَصَّنَةٍ): ممنوعة محاطة بالأَسوار ضربت عليها الخنادق والدروب.

(بَأسُهُمْ): شجاعتهم وقوتهم.

(جَمِيعًا): مجتمعين ذوي مودة وأُلفة.

(شَتَّى): متقطعة متفرقة.

(وَبَالَ أَمْرِهِمْ): سوءَ عاقبة كفرهم.

(عَاقِبَتَهُمَا): نهايتهما وآخر أَمرهما.

التفسير:

14 -

{لَا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعًا إِلَّا فِي قُرًى مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَرَاءِ جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ (14)} :

تصوير آخر لجبنهم وشدة خوفهم من المؤمنين، والرهبة التي تملأُ قلوبهم وتمنعهم أَن يواجهوهم بالعدواة أَو يبارزوهم في القتال.

والمعنى: لا يقوي هؤلاءِ اليهود أَو المنافقون على مواجهتكم، ولا يجرأُون على مبارزتكم والإصحار (1) إِليكم مجتمعين جميعًا ومتفقين في موطن من المواطن إلاًّ في قرىً مسوَّرة بالأَسوار محاطة بالدروب والخنادق التي ترد هجوم العدو، وتحدّ غاراته، أَو من وراءِ الجدر التي يتحصنون خلفها، ويمتنعون بها وذلك من جبنهم وشدة خوفهم مع قوتهم وحدَّة شكيمتهم وهم فيما بينهم يظهرون بمظهر التآلف والتواد بما يفهم أَنهم متفقون متعاونون، وقلوبهم متفرقة متقاطعة. ذلك الخلق فيهم ناشيء من جهلهم وأَنهم قوم لا يفهمون آثار الفرقة، ولا عاقبة الاختلاف والتمزق.

والتعقيب في هذه الآية بـ (لا يَعْقِلُونَ)، وفي الآية السابقة بـ (لا يَفْقَهُونَ) للإشارة إلي أَن إِدراك آثار الفرقة والتشتت ممَّا يعلم بمجرد العقل والتمييز، أَما معرفة الله تعالى، واستشعار عظمته وسطوته واسترهاب خشيته فمما يحتاج بعد العقل إلى فقه وفهم.

(1) أصحر: برز في الصحراء.

ص: 1365

15، 16 - {كَمَثَلِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَرِيبًا ذَاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (15) كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلْإِنْسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ (16)}:

تتضمن هاتان الآيتان مثلين - مثلًا للمشركين في نهايتهم، ومثلًا للمنافقين في وعودهم لليهود. فأَما الأَول فقوله تعالى -: (كَمَثَلِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ

) الآية.

والمعنى: مثل مشركي مكة في كفرهم وعنادهم وما انتهى إِليه أَمرهم من القتل والفتح والإِذلال والإِهلاك كمثل الأُمم السابقة عليهم القريبة العهد منهم خاصموا رسلهم، وعادوا أَنبياءَهم، وعارضوا دعواتهم فنالوا سوءَ جزائهم وذاقوا وبال عصيانهم، ولقوا النكال الشديد والهوان البليغ في الدنيا، ولهم في الآخرة عذاب وجع، مفرق في الأَلم لا يقادر قدره.

والمثل الثاني في قوله - تعالى -: (كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلإِنسَانِ اكْفُرْ

) الآية.

والمعنى: مثل المنافقين في وعودهم لليهود، وإِغرائهم لهم بالتمرد وعصيان المؤمنين، ومعارضتهم ثم تخلفهم عنهم كمثل الشيطان إِذ يوسوس للإنسان بالشر، ويزين له المعصية ويجب إِليه الفسوق والكفر؛ ولا يزال به حتى يقع فيما يريده منه فإِذا سقط ابتعد عنه، وتبرأَ منه ومن فعله، وظهر بمظهر الورع الخائف من الله النادم على عصيانه الذي يخاف عذابه ويرجو ثوابه، أَو يقول ذلك في الآخرة، وحمل الشيطان على الجنس هو الأَنسب.

وما ذهب إِليه بعض المفسرين من أَن المراد بالإِنسان أَبو جهل والحوار الذي جرى يوم بدر من قوله - تعالى - على لسان الكفر: {لا غَالِبَ لَكُمْ الْيَوْمَ مِنْ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ} (1)، وقوله تعالى - على لسان إبليس:{إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرَى مَا لا تَرَوْنَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ} . (2) فهذا تخصيص لا ينهض عليه دليل، ولا يعين عليه النص.

17 -

{فَكَانَ عَاقِبَتَهُمَا أَنَّهُمَا فِي النَّارِ خَالِدَيْنِ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ (17)} :

أَي: فكان عاقبة الشيطان والفريقين اللذين أَغراهما من اليهود والمنافقين أَنهم جميعًا إِلي النار وفي النار خالدين مخلدين فيها أَبد الآبدين ودهر الداهرين، وذلك الجزاءُ نهاية كل ظالم، وعاقبة كل طاغية متجاوز لحدود الله، خارج عن طاعته {وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا} .

(1) سورة الأنفال من الآية 48.

(2)

سورة الأنفال من الآية: 48.

ص: 1366

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (18) وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (19) لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ (20) لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (21)}

المفردات:

(لِغَدٍ): أصله غَدْو بِوَزْنِ فعل حذف آخره، وهو اليوم الذي يأتي بعد يومك على أَثره، ثم توسعوا فيه حتى أُطلق على البعيد المترقب، والمراد يوم القيامة.

(نَسُوا اللَّهَ): انصرفوا عن طاعته وغفلوا عن ذكره.

(فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ): صرفهم عن العمل بما فيه نفعها ونجاتها.

(خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا): متطامنًا متشققًا، وهي من قبيل التمثيل.

التفسير:

18 -

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (18)} :

عرضت الآيات السابقة على هذه الآيات لأَحوال المؤمنين وفصَّلت طبقاتهم وما شاع في أَخلاق كل طبقة وغلب على سلوكها وما اتسمت به من الفضائل والمكارم وصدق الإيمان وسخاءِ النفس والإيثار والتحاب في الخير والنصح في الدين، كما عرضت لقبائح النفاق،

ص: 1367

وسفه المنافقين، وأُسلوبهم في الكذب والمصانعة، وإِثارة الفتن، وإِذكاءِ التفرقة والخلاف، وكشفت حقيقتهم، وفضحت جبنهم ورهبتهم من المسلمين، وضربت لذلك الأَمثال التي تحذر سوءَ العاقبة وقبح المآل.

ثم خلصت الآيات بعد ذلك للمؤمنين تناديهم في رفق، وتدعوهم في تلطف وإشفاق إِلي الاستدامة في الطاعة والعمل ليومٍ عظيم، وغد قريب يقوم فيه الناس لرب العالمين حتى تسلم لهم راحة الدنيا وثواب الآخرة.

والمعنى: يا أيها الذين آثروا الإِيمان وتمكنت العقيدة من نفوسهم فطهرتها من الشرك والنفاق، ووجهتها إِلي صدق الطاعة وإِخلاص العبادة داوموا هذا العمل وامضوا فيه وأكثروا منه ليومٍ عظيم وغد قريب يجد المرءُ فيه ما قدمت يداه، ويلاقي جزاءَه عند الله، ولتنظر نفس أية نفس ما تدخَّرُه لغد ما تعدّه لهذا اليوم الذي تجد فيه كل نفس ما قدمت وأَخرت وما أسرَّت وأَعلنت وإِنه لقريب. قال قتادة:"إِن ربكم قرّب الساعة حتى جعلها كغد".فاتقوا الله يا معشر المؤمنين واعملوا في طاعته لهذا اليوم العظيم الأَهوال، أو كما اتقيتم الله في أَوامره وطاعته اتقوا الله في محارمه ونواهية، فلا تعصوه فيما أَمركم، ولا يراكم حيث نهاكم لتجمعوا طرفي التقوي من المأمورات والمنهيات وتكون لكم عند الله أَعظم الدرجات، إِن الله محيطٌ بكل أَعمالكم بصيرٌ بجميع أَحوالكم وأَقوالكم يحصيها لكم، ويجزل عليها جزاءَكم.

وعبَّر عن يوم القيامة بغد للتنبيه إِلي شدة قربه وإِثارة الخوف من هوله وبأسه، ولدنوّ الغد من أَمسه، أَو أَن الدنيا كيوم والآخرة غده. ونكره لتهويله وتفخيمه كما نكر كلمة نفس للعموم والتنبيه إِلي أَنه لا ينبغي أَن تغفل الأَنفس عن التفكر لغدها والعمل لآخرتها، وفيه حث على النظر والاعتبار، وتعبير بالترك والغفلة المسيطرة على أَكثر النفوس.

19 -

{وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (19)} :

تفريع على الآية قبلها واسترسال في غرضها أي، لا تغفلوا عن العمل بطاعة الله، ولا تكونوا كالذين تركوا أداءَ حقه وناموا عن عبادته وذكره فصرفهم عن العمل بما فيه سلامة نفوسهم ونفعها، وحرمهم حظوظهم من الخير والثواب، أُولئك الذين نسوا الله فأَنساهم أَنفسهم

ص: 1368

هم الفاسقون الخارجون من طاعة الله إِلي معصيته، المتناهون في الفسوق، المستحقون للعقاب الجسيم في دار الجحيم.

20 -

{لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ (20)} :

المعنى: إِذا تقرر أَن المؤمنين المتقين الذين يداومون على الطاعة ويخلصون العبادة لهم الجنة، وأَن المشركين والمنافقين والذين نسوا الله فأَنساهم أَنفسهم لهم دار الجحيم، فإِن هذه الآية توضح هذا المعنى وتبرزه نصًّا صريحًا وحكمًا صحيحا، أي: لا يستوي أَهل النار والملازمون لها الذين انخرطوا في الملذات، وانهمكوا في المعاصي، وسبحوا في مهاوي الشرك، ومفاوز الضلال والكفر، ونسوا الله وتجاوزوا حدوده - لا يستوي هؤلاءِ - وأَصحاب الجنة الذين وقفوا أنفسهم على العمل لها، وقرنوا سلوكهم بالطاعة وحياتهم بالحلال الطيب - إِن أَصحاب الجنة الذين هذه أَعمالهم وهذا سلوكهم هم الفائزون بكل المطالب، الجديرون بكل الرغائب الناجون من كل المثالب والمعايب.

21 -

{لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (21)} :

هذه تعجيب من حال من لا يهتدي بالقرآن ولا يستجيب لهديه، وتنبيه إِلي أَنه منار هداية، ورائد طاعة، ومنهل ظمأ بما ينطوي عليه من فنون القوارع، وضرب المخاوف، ودروب الرغائب، ومناهل العرفان بحيث لو أُنزل على جبل أصم من الجبالِ الضخمة العاتية لرأَيته - مع كونه مثلًا في القسوة، علمًا في الرسوخ والثبات - متنهاويًا متداعيًا ومتشققًا، متصدعًا من قوة خشية الله وشدة جبروته لعلو شأن القرآن وبلاغة تأثيره بالزواجر والقوارع. والمراد توبيخ الإِنسان وتعنيفه على قسوة قلبه وقلة خشوعه عند تلاوة القرآن أَو سماعه وتدبر ما فيه وتلك الأَمثال التي ذكرناها في هذه السورة وفي غيرها نضربها للناس ونوردها لهم متعددة المقاصد مختلفة المضامين لعلهم يتفكرون في معانيها ويدركون مراميها فينعكس ذلك على سلوكهم وأَعمالهم.

ص: 1369

{هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ (22) هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ (23) هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (24)}

المفردات:

(الْغَيْبِ): ما غاب عن الحس وجهلت معرفته.

(الشَّهَادَةِ): ما حضر وشوهد.

(الْقُدُّوسُ): البليغ في النزاهة عمَّا يوجب نقصًا.

(الْمُؤْمِنُ): وأهب الأَمن.

(الْمُهَيْمِنُ): المسيطر الحافظ لكل شيء، الرقيب.

التفسير:

22 -

{هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ (22)} :

تختم سورة الحشر بذكر طائفة من أَسماءِ الله تعالى، واختصاص هذه الأَسماء بالذِّكر من بين أَسماءِ الله الحسني سر من أَسرار القرآن الكريم، ونمط من إِعجازه، ولعل لها خصائص تعظم بركتها ويعم نفعها. وحسب القارئ أَن يقرأَها ذكرًا يرطب لسانه وعظة تزكي نفسه.

ص: 1370

والمعنى: هو الله وحده لا يشاركه غيره ولَا إِلهَ إِلَا هُو المحيط بعلم جميع الأَشياء ما غاب منها عن الحس وجهلت معرفته وما حضر وشوهد وتحققت معرفته، لا يغيب عنه من ذلك شيءٌ ولا يعزب عن علمه قريب أَو بعيد، ولا يحرم فضله عاجز ولا قادر، هو الرحمن الذي تنتظم رحمته في الدنيا جميع المخلوقات، الرحيم الذي يختص برحمته في الآخرة من يشاءُ من أَهل الطاعات الصالحات.

وتقدم الغيب على الشهادة في الآية لتقدمه في الوجود وتعلق العلم القديم به، ولأَن علم الغيب ممَّا يدق ويخفي فتقدمه في الإِخبار أَبعث للتنبيه والاعتبار.

23 -

{هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ (23)} :

تكرر بدء الآية بمثل البدءِ السابق: (هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلَا هُوَ) لإبراز العناية والاهتمام بالتوحيد، وتلذذًا بذكر الله، وليكون لفظ الجلالة هو الأَساس والمدخل لبناءِ الأَسماءِ الأُخري عليه.

والمعنى: هو الله وحده لَا إِلهَ إِلَا هُوَ السيد المالك لجميع الأَشياءِ ملكًا حقيقيًّا يتصرف فيها في وجه ليس لأَحد منعه منه أَو معارضته فيه القدوس الطاهر من كل عيب وآفة ونقص، المنزه عن القبائح، الغني عن الشريك والولد، المبارك الذي تنزل البركات من عنده، السلام من كل سوءٍ وعيب، الذي ترجي عنده السلامة من كل بلاءٍ، المؤمن الذي يهب الأَمن لكل خائف ويوفر الاطمئنان لكل موهوب مقهور، ولا يظلم عنده أَحد، المصدق لنفسه ورسله - عليهم الصلاة والسلام - فيما بلغوه عنه - جلَّ وعلَا - المهين الرقيب الحافظ لكل شيء المسيطر الذي لا يعلو عليه أَحد، العزيز القادر الذي لا يُقْهر، المنيع الذي لا يرام ولا يمتنع عليه مرام وليس كمثله شيءٌ، الجبار العظيم الشأن في الملك والسلطان الذي يذل له كل شيءٍ ولا يستحق أَن يوصف بهذا الوصف على الإِطلاق إِلَّا الله - تعالى - فإِذا أُطلق على غير الله كان في غير موضعه، وكان ذمًّا. المتكبر المستحق لصفات التعظيم، المتعالي عن كل نقص ورذيلة.

ص: 1371

(سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ) أَي تنزيهًا له - جَلَّ شَأنه - عن إِشراكهم بعد تعداد صفاته التي لا يشاركه فيها أحدٌ أَبدًا.

24 -

{هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (24)} :

المعنى: هو الله الخالق، أَي: المقدر للأَشياء بحكمته، المحدث لها على إرادته، الباريءُ الموجد لها بريئة من التفاوت فلا تري فيها اختلافًا ولا عدم تناسب، أَو مميزًا بعضها عن بعض باختلاف الأَشكال، المصور الموجد لصورها وأَشكالها كما أَراد الله وحده، هذه الأَسماء الحسنى التي اختص بها ذاته ووضح بها صفاته ما ذكر منها وما لم يذكر لدلالتها على المعانى الحسنة والفضائل العالية، والكمال المطلق - يسبح لله بهذه الأَسماءِ ويذكره بترديدها جميع ما في السموات والأَرض من خلائق وأَجرام بحاله أَو بمقاله - وإِن من شيءٍ إِلَّا يسبح بحمده - وكل قد عرف صلاته وتسبيحه وهو العزيز في ملكه، الحكيم في فعله، المتعظم لجميع الفضائل والكمالات ليس كمثله شيءٌ وهو السميع البصير.

ص: 1372